تجليات الطفولة المفقودة
خاص ألف
2013-10-03
تختزن ذاكرة الإنسان صوراً عن الطفولة البشرية المندهشة أمام أسرار الكون وألغازه التي تستعصي على التفسير, ويهزها الشوق إلى الماضي البعيد والفردوس المفقود, عندما خلقتْ الآلهة وأنصاف الآلهة العالم وأسستْ فيه أنماط الوجود الخاص بالإنسان. استمرتْ تلك الطفولة بكل ما تحمله من أساطير وأحلام وأسرار حتى يومنا هذا. في ذلك الزمان القديم بدأ الكشف عن "الظهور المفاجيء للمقدس" في العالم. فتوطّن المقدس عبر الأساطير التي حاولت تفسير الغامض والمجهول, وانتقل إلى الأحلام وأمكن إثبات استمرارية العلاقة بين عالم الأحلام وعالم الأساطير. وامتدّ الخيط الرفيع الذي ينظم صور المخيلة البشرية في محاولاتها الحثيثة لتفسير الظواهر والأحداث التي تزلل الحياة وتنقلها من طور إلى آخر. وشكّل ما يشبه خرزات المسبحة, فعلى سبيل المثال أن حوت يونس في القرآن الكريم هو نفسه حوت يونان في العهد القديم للكتاب المقدس يماثله حوت آخر لدى شعوب الدول الاسكندنافية مع الاختلاف في تفاصيل القصة حسب سياقات تقتضيها ظروف الزمان والمكان. فبطل قصة الحوت لدى الشعوب الاسكندنافية حداداً عاشقاً لحسناء, تحدى الموت بدخوله بطن الحوت, ليثبتْ لها أنه جدير بحبها, مصطحباً معه أدوات الحدادة ليفتح بها ثغرة في جسد الحوت ويخرج منه بطلاً جديراً بحبيبته. كما "تمّ العثور على تماثل بين الشخصيات والأحداث الأسطورية وبين شخصيات الأحلام والأحداث التي تجري فيها. "وقد تبيّن أيضاً أن ثمة تعديلاً يطرأ على مقولات الزمان والمكان العاملة في الأحلام على نحو يذكّر, ضمن بعض الحدود بإلغاء الزمان والمكان, في عالم الأساطير". هذا الخيط الواصل والناظم لمختلف التصورات والأفكار والأحلام لمختلف الشعوب, يمكن أن يضع بين أيدينا كل ما يجمع البشر, بشكل أو بآخر, أعني طريقة التعاطي مع موروث الطفولة البشرية, الذي يمدّنا بأحداث وصور تساهم في تفسير ما لدينا من ألغاز تدور حول المقدس وكل ما يلفّه من غموض.
بين أيدينا كتاب يحمل عنوان "الأساطير والأحلام والأسرار" للكاتب ميريسيا إلياد, ترجمة حسيب كاسوحة, وهو من منشورات وزارة الثقافة السورية. الكاتب من مواليد بوخارست عام 1907 وتوفي في الولايات المتحدة عام 1986. وهو من أشهر علماء الميثولوجيا وتاريخ الأديان القديمة. وقد ألّف فيها أكثر من أربعين كتاباً. "يتناول في مؤلفاته الأساطير والفكر الديني, عند إنسان الأزمنة القديمة ولدى أمم عديدة, وعند البدائيين والسكان الأصليين في أمريكا وأستراليا. يتعرض إلى البوذية واليوغا وإلى الطاويّة والمانوية وإلى الشامانيين ورجال الطب من سكان استراليا الأصليين, وإلى العديد من المذاهب والنحل. ويتحدث عن آلهة من مصر وسورية وبلاد الرافدين, من اليونان والرومان وأوروبا الشمالية ومن غيرها. ويتوقف عند آلهة ذات تأثير واسع مثل آلهة المطر والخصوبة وآلهة الأرض والإلهات العظيمة, ويبحث في موضوعات شغلتْ بال الإنسان القديم مثل الدنيوي والمقدس, وفلسفة الزمان, والدورات الكونية وأسطورة العودة الأبدية والأرض – الأم, والخلق الكوني والنشوء والمآل. يعرض لنا نظرة الإنسان القديم إلى مشكلات الألم والقلق والموت, ورغبته في الحرية والخلود والإنبعاث والتعالي على الشرط البشري, كذلك يتحدث عن التجربة الحسية والتجربة الروحية وعن الوجد, وعن المدركات من مجال ما وراء الحس وعن دور الذاكرة وأهميتها, وعن الطقوس والشعائر وعن المجتمعات الباطنية". يسعى المؤلف في كتابه هذا وكما ذكر في مقدمته إلى التأكيد على أن جميع موضوعات الفكر وجميع علوم الإنسان والإكتشافات التي تقدمها مترابطة ومكملة لبعضها البعض. لكن الترابط لا يعني الاختلاط. فالمهم هو إدماج نتائج مناهج التفكير المختلفة لا الخلط بينها. ولا يوجد على وجه التقريب, أياً من النصوص المجموعة في هذا الكتاب إلا ويظم تلميحات ومقابلات محدودة بين فعالية اللاشعور وبين الأفعال الدينية. واظهار العلاقة بين دينامية اللاشعور- مثلما تتجلى في الأحلام وفي فعل المخيلة- وبين البنى الموجودة في العالم الديني. يؤكد المؤلف على أن "الجو الديني" الذي تشيعه بعض محتويات اللاشعور لا يفاجيْ مؤرخ الأديان: إنه على علم بأن التجربة الدينية تسخّر طاقات الإنسان بمجموعها, وتمسّ, بالتالي, المناطق السحيقة في كيانه. وبالنسبة للبشرية البدائية بمجموعها, فإن التجربة الدينية هي التي تشرح ما يجري في العالم. ومن النادر أن يستأثر بالحياة الدينية مبدأ واحد. كذلك يندر أن تدع الحياة الدينية نفسها تُستنفذ بفعل التبجيل الموجّه إلى إله واحد أو إلى إلهة واحدة. كما أنه لا يمكن العثور في أي مكان, من الزمن القديم, على ديانة في حالة صفاء ونقاء, بسيطة, وقابلة للارتداد إلى شكل واحد أو إلى بنية واحدة. ذلك أن تفوّق وهيمنة العبادات الموجّهة إلى آلهة السماء أو آلهة الأرض, لا يستبعد, إطلاقاً, التعايش مع عبادات آلهة أخرى ومع رمزيّات أخرى. ويؤكد المؤلف أن تاريخ الأديان, من أبسط أشكاله إلى أكثرها تعقيداً, يتألف من عدد هائل من تجليات القداسة, ومن ظهور وقائع مقدسة عديدة, وليس من انقطاع في استمرارية هذه الحالة.
ختاماً نود الإشارة إلى أن الكتاب يزخر بتفاصيل التفاصيل في كل موضوع يبحث فيه, بالتالي يمكن لنا أن نطلق عليه كتاباً موسوعياً دون أن نكون قد جانبنا الحقيقة, كتاب يسبر عوالم ا لأديان عبر الأساطير التي شكلتها ويرحل بنا نحو أسرارها وما حفرته في مخيلة البشرية منذ طفولتها الأولى, وكيف ترسخت في اللاوعي الجمعي عبر الأحلام, وكيف تتجلى في المعتقدات.
08-أيار-2021
21-تشرين الثاني-2013 | |
16-تشرين الثاني-2013 | |
05-تشرين الثاني-2013 | |
26-تشرين الأول-2013 | |
15-تشرين الأول-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |