في محيط القلعة / قصة
خاص ألف
2013-11-11
وصل أبو علو إلى جادة القلعة، ومر بالقناة الرومانية. ولم يرفع عينيه كالعادة ليأخذ نظرة من القلعة التي تسبح دوما في بحر من الضوء الأصفر. فالظروف حاليا تفرض التعتيم.
كان أبو علو يسكن في القسطل حرامي في بيت لا تجد مثله في الجنة. شتاؤه دافئ وصيفه بارد. ولكن ماذا يفعل إذا قررت الحكومة أن تفرض الظلام.
والله مصيبة. حتى الضوء أصبح سلعة نادرة مثل الخبز والمحروقات، ولو لا عين الشمس لغرقت المدينة في ظلام دامس. ما بالك لو أننا نعيش في أوروبا، حيث الغيوم تغطي السماء طوال اليوم..
ولم تكن غاية أبو علو من هذه الرحلة العمل لكسب النقود أو النزهة للاستجمام. ولكن المباركة لصديقه فهمي بالإفراج. فقد كان في السجن، وهناك أصابته ذبحة صدرية فأفرجوا عنه.
تصور..
الأمراض وشر البلية هي الباب للخلاص..
كان لأبو علو صديق آخر، متعلم وموظف، يعمل في ديوان إحدى الدوائر، وبراتب شهري لا ينقص قرشا واحدا.
ودائما في مطلع هلال كل شهر يعزم المعارف إلى مقهى البلور، ويقول وهو يطلب لهم الشاي بالنعناع أو بالقرفة: اشربوا. كله من نقود الدولة.
وفي الستينات، تعرض للاعتقال، وأفرجوا عنه في معارك حزيران. والسبب هو التعبئة العامة وتحويل السجون لثكنات.
أليست مهزلة. الحرب والدمار ينعمان عليك بالحرية.
نعم، ذهبت ذكريات تلك الحرب المشؤومة ، و بقيت آثارها. ولا يزال في بيت فهمي نوافذ مدهونة بالإسبيداج للتمويه.
ولذلك في الأماسي تشتعل الأضواء في كل بيوت الحارة وتبدو كأنها نجوم وسط بحر هادئ، أما بيته يكون متجهما وله مسحة من الحزن. ليس حزن الملوك على سلطان ضائع. ولكن ما يشبه الحسرة أو الندم.
***
تعرف أبو علو على فهمي في السكري. وكانا يعملان هناك بورشة تصليح سيارات. في تلك المنطقة لا تجد غير محال الصيانة، وطوال اليوم تسمع المطارق وهي تدق على الحديد. وبعد الأزمة جاء المسلحون، وأصابت قذيفة مدفع الورشة. حصلت المصيبة في الليل. وفي الصباح التالي لم يجد أبو علو الورشة في مكانها . فقد أصبحت خرابة تلعب فيها خيوط الشمس والهواء.
واليوم لو تسنت لك الفرصة، وذهبت لدوار مستشفى الجامعة، تشاهد خيمة وراء وحدة جراحة القلب، وبداخلها العدة.. الحديد الذي نستعمله في صيانة السيارات. لقد تحول صاحب الورشة من بارون يمسك دفاتر الحسابات إلى يد عاملة. ومن غير المعقول، والحال كذلك، أن يحتاج لمعاون.
وهكذا افترق مشوار الصديقين.
***
و بدافع الضرورة اشتغل أبو علو في مقهى بالأنصاري مشهد.
كانت البيوت في تلك الحارة ميتة، لا تشعر حيالها بالحنين. إنها ليست مثل المساكن في القسطل حرامي، كل بيت يشبه وردة متفتحة. لقد كره الأنصاري من أول يوم. الطرقات كلها زفت بزفت والمباني بلا بواكي أو شرفات، وبلا ظل لتحتمي به من لهيب الشمس. وعلى الأرصفة حاويات قمامة تطوف منها الزبالة. كانت النفايات الملقاة بإهمال على الأرض أضعاف ما يوجد في الحاويات. ولو رآها الأستاذ بديع وردة جاره في القسطل حرامي لقال بلهجته الساخرة، وهو يضحك: هذه الحاويات أصلها راقصات ستريبتيز. وبلا ورقة توت . .
كان الأستاذ بديع يستعمل مثل هذه الأوصاف دائما. فباب الخشب غير المدهون عورة. وبيت بلا حوض ورود ولا سبيل ماء امرأة عانس، ومقهى من غير جرائد أرض بور، وهكذا دواليك...
***
بعد أسبوع وصلت إلى الحارة جبهة النصرة، وأغلقت المقاهي.
ولحسن الحظ التقى أبو علو بالصدفة بمعلمه السابق، ودله على مطعم فول وحمص في عوجة الجب. وهي منطقة خاصة بالمسيحيين، وقريبة من كنيسة. وفي كل صباح يشاهد الصليب الذي له لون الفضة وهو يلمع. ولكن لمعته حزينة وكامدة. وما الغريب في ذلك؟!!. منذ بداية الحرب لم يبق شيء له بريق، حتى الليرة أصبحت مقطبة الأسارير، والنسر المرسوم عليها يبدو مهيض الجناح..
وكان إذا سألته: ما هي مهنتك يا أبو علو؟. يقول: ياور مطعم.
هل يود أحد أن يستفسر عن معنى الياور؟!.
إنها وظيفة خدمات صغيرة. وإن شئت العدل هي أعمال مخجلة، تجلل المرء بالعار، وتكسر عزة النفس. ولكن اللقمة مرة.
***
وبالنسبة لفهمي لم تكن الحال أفضل.
وجد فرصة العمر في الشهباء، وراء البولمان وأمام أسوار الجامعة. وهناك اشتغل بنقل الطلبيات من أحد المخازن.
كانت الجادات عريضة، والبيوت بعيدة عن بعضها البعض، بينها مسافات وكأن كل بيت دولة ولا ينقصه غير العَلَم. وهكذا شعر بالغربة.
أضف لذلك العجز والإحباط، كان الحرم الجامعي يشبه مدينة الملاهي، ولا سيما بأبنيته التي تشبه السفن والطائرات. ولكن من دواعي الأسف أنها مجسمات من الحجر والحديد. لا السفينة تبحر ولا الطائرة تطير. إنها أبنية مربوطة بالأرض ولا تتحرك.
وبعد أقل من أسبوع اعترض طريقه المسلحون، وأخذوه بسيارة صالون معهم. وهنا لك أن تطلق العنان لخيالك. فالمسلح ليس كل من يحمل بارودة. ولكن قد يحمل الساطور أو غيره من الأسلحة البيضاء. كانوا مسلحين من طينة عجيبة. مجاهدون بالألوان، كما قال فهمي بمرارة وهو يضحك. اللحية مخضبة بالحناء والعين لها كحل أسود فاحم.
وحتى الآن لا يعلم أحد إن كان هو المقصود. ماذا يريد أشخاص من هذا النوع من إنسان لا تجد في خزانته بذة واحدة. كان فهمي يستعير الثياب أحيانا من مصبغة في الحارة.
***
مد أبو علو يده ورفع السقاطة المعدن، التي تشبه منحوتة فنية. إنه رأس هزبر، يعني أسد المرتفعات، وضرب بها على باب الحديد المصمت. ألا نقول: لا يفل الحديد إلا الحديد؟!!..
ولكن لم يرد أحد، مع أنه سمع صدى الطرقات، وهي ترن في أرجاء الحارة.
ترى هل لا يزال فهمي مريضا، ويتعافى مما حصل له، أم أنه يجلس الآن في استراحة القلعة، ومن وراء ستار الظلام، يشرح للموجودين معاناته.. كيف وضعوا رأسه في كيس، وقادوه إلى نفق مظلم تحت الأرض، ثم بقية التفاصيل....
تموز 2013
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |