كلام رجال / قصة
خاص ألف
2013-11-25
قال : أولاد الحرام لم يتركوا لأولاد الحلال شيئا.
هز أبو عصمت الفكهاني رأسه بوقار سقراطي. ورشف من كأسه بصوت مسموع.
أضاف : مع ذلك الدنيا بخير.
قال أبو عصمت : بألف خير.
وثارت مشاعر أبي عصمت الفكهاني، فخبط المنضدة بكفه الضخمة. على فكرة نمرة حذائه 46 . وهتف : اشرب أبا السعود. اشرب ولا تهتم.
جرع سعيد الساقي الجالس أمام أبي عصمت كأسه ، وقضم من قرن المازة ، مضغ اللقمة ببطء ، وبذهن شارد ، كان يفكر ، وحين ذابت المازة في فمه ، فاض به الكيل ، فصرخ : يعيش الفكهاني.
لم يردد أحد هتافه ، فغرس رأسه بين كتفيه ونظر إلى الزجاجة بغضب . كانت تتطاول وتتسع ، حتى أنها أصبحت أشبه بمدفع هاون ، ومن حولها صحون الفول السوداني ، كلها من الألمنيوم الكامد ولأشكالها إيحاءات صوتية تشبه جعجعة بلا طحن.
قال أبو عصمت : هل تعرف أن الكلبة هربت مني إلى فراش صعلوك ..
هز سعيد رأسه بأسف . أمسك الزجاجة ـ مدفع الهاون ، وملأ كأسه من جديد . قال : بصحتك . اشرب وانس.
لم يجب بأية كلمة . صمت برهة كأنه يستمع إلى شيطانه. في الحقيقة لم يكن قادرا على النسيان. كان يتذكر كيف يعود من العمل منهكا. يمسكها من يدها ويجرها إلى الفراش. تتمنع وتغمز بعينها ، ثم تستلقي مثل هرة مبلولة بالماء..
خبط المنضدة وصاح : الخنزيرة .. هربت مع أهبل ، ليس له دماغ ، في رأسه كومة قش.
اهتزت الزجاجة وانقلبت الكأس ، فسال العرق ، روحه في الأوقات الصعبة ، وراح ينقط من حافة المنضدة على الأرض . بعض منه اختلط بصحون الموالح.
قال سعيد : فداك . الدمجانة موجودة..
عض أبو عصمت شفته السفلى . كان قد بلغ أعلى درجات التوتر. ولاحظ الآخر كيف احمر وجهه وارتجفت شفتاه ، أما أنفه فقد انكمش وأصبح له شكل منقار حدأة مكسور. الغضب يمسخ خلقة بني آدم . توقع أن يخبط المنضدة مرة أخرى ، فأمسك الزجاجة حتى لا يضيع العرق الثمين ، وتنقلب الصحون على الأرض . لكن يدي أبي عصمت أمسكتا بطرف المنضدة كالمخالب ، كالكلابات ، وسمعه يقول بصوت يخرج من جوف حلقه : الخنزيرة لا تريدني. خنزيرة فعلا .
هبت نسمة باردة تسللت من أسفل الباب ، ومن النافذة المفتوحة على الشارع المظلم ، ولامست عظام أبي عصمت، فهدأ قليلا وتراخت يداه.
نظر إلى وجه سعيد . ولما شاهد حزنه المؤثر ، قال : أبا السعود ما العمل ؟.
أجاب دون تردد : سنذبحها . خنجري قبل خنجرك. وأسدل رأسه المرهق بالغضب على صدره. كان للحنق أثر مماثل للكحول . كلاهما يعمي ويخدر.
بدأت الخمارة تنتهي من زبائنها. ثم لم يبق غيرهما جالسين وجها لوجه يرشفان كأسيهما بقهر.
كان سعيد ينتظر إشارة من صديقه ليضع يده في القفطان ، وينطلق بخنجره المعقوف الذي ورثه عن أبيه. أبوه قال : هذا الخنجر لابني الكبير. وحين مات ، أخذه وقبله ووضعه في قفطانه. سيخرج الخنجر اليوم من غمده ـ بهذا الشكل فكر سعيد الساقـي ليفتح خاصرة الشـ ... إكراما لصديق العمر.
كان صديقه بدوره مشغولا بما لديه ، في الذهن ، من صور وخيالات. كانت حلوة وساخنة مثل الحديد وهو في النار . لم تذهب الفكرة من رأسه. من أول ليلة عرف أنها خنزيرة . لما دخل عليها كانت عارية وجاهزة . رآها على طرف السرير تنظر إلى موطئ أقدامها وهي تبتسم... زفر من قلبه ، وأمسك الزجاجة . وضع فوهتها فوق الكأس فلم تنزل منها أية قطرة. قربها من عينيه ، وهزها بعنف ثم رماها على الأرض. وسمع صوت انفجارها الصاخب.
نهض على ساقيه المهزوزتين، وصاح : أين العرق ؟.
لم يرد عليه أحد . لمس طرف المنضدة بأصابع كفيه ودفعها بعيدا عنه ، ثم غادر الخمارة وهو يرتجف.
تبعه سعيد وأمسك بذراعه ، وتسلق الإثنان أحد الأرصفة . كان الليل يسقط من السماء ويمتلئ بالفضاء الشاسع ، ويتمدد على الأرصفة والطرقات مثل أسمال عتيقة اختلطت بالقشور والنفايات.
قال أبو عصمت : سأخمد أنفاسها بيدي. ووافق سعيد على قوله بهزة من رأسه ، وتمتم بصوت خافت :
- ستعرف أنك رجل، قول وفعل...
وواصل الإثنان سيرهما في الليل حتى وصلا إلى ساحة واسعة ، في وسطها تمثال لمحارب ، كان على صهوة حصان وبيده سيف. توقف أبو عصمت أمامه ، نظر إليه بشيء من الأسى ، ثم بدأ في فورة جديدة ، يرغي ويزبد.
صرخ بأصوات خرجت من قلبه ، كأنه مكبر صوت. ساعده الليل والحزن على ذلك. ثم أتبعها بعدة شتائم. وسأل الله لماذا يعذبه مع أنه لا يرتكب ذنوبا تستحق العقاب. أخيرا بصق على التمثال وهمد فجأة.
نظر سعيد إليه. شاهد ملامح وجهه مختلطة وضائعة ، تحت رحمة العتمة والصمت ربت على ظهره ، وقال : سأقتلها اليوم ، وغدا أزوجك غيرها . اسمع ! ابنة الجيران أحلى منها. عيناها أوسع من كف اليد و..
قاطعه أبو عصمت بحركة من يده ، ومسح عينيه. كانت هنالك دمعتان تسقطان بصمت . سكت سعيد احتراما لبكاء القبضاي صديقه، وسمعه يتمتم بقهر : هل تظن أنها تقبلني ؟.
هتف سعيد : وتتمناك أيضا.
سقطت دمعتان جديدتان . أحرقتا خديه. وتركتا علامتين تحت عينيه الباهتتين من الانكسار والألم. مسحهما بيده وقال : أخاف أن تهرب . النساء صنف واحد.
هز سعيد رأسه نفيا . ومع ذلك لم يكن متأكدا مما يقول . حقا النساء من جنس العقارب ، بلا أمان.
نظر أبو عصمت إلى بداية الشارع المظلم ، وقال : خذ بالك أبا السعود .. أنا فقير ومفلس ، أنا نكرة . حجرة وقعت من جهنم..
ولم يكمل كلامه ، انحدرت من بين رموش جفنيه دموع الرجال الملونة ، ابتلع حلقه شيئا مرا كأنه علقم ، و جارحا مثل سكينة مثلومة ، ثم أمسك ذراع سعيد وجره بعنف.
وثب الآخر حتى صار إلى جانبه . وتابع الإثنان سيرهما ، بصمت ، تحت خيمة الليل المصبوغة بلون الحبر الصيني.
من مجموعة ( عطفا على ما سبق ) الصادرة في دمشق عن دار خطوات .
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |