ميدان راسيل ، وسط لندن / إيمي بيكير ترجمة:
خاص ألف
2013-12-05
ليست لندن هي خياري المفضل لإجراء بحوث عملية من أجل الحصول على الماجستير بالصحة العامة، و لكن بعد ضياع عدة فرص في سايغون و هونغ كونغ و حتى في السودان لم يبق أمامي غيرها. وضعت على الرف أفكاري عن مغامرات في بلدان غريبة، و ربما زيارة أماكن خطيرة، و هبطت في هيثرو يوم الرابع من تموز في جو راكد و أوروبي.
كان الفندق يبعد عن محطة أنفاق ميدان راسيل بمقدار ثلاثة شوارع فقط. و كنت أعبر منه يوميا و أنا في طريقي إلى المكتب الذي عملت فيه لوضع خطة مؤتمر عن الإنفلوانزا المعدية. كانت المحطة فاتنة و أخاذة، كل ما فيها جذاب.. ابتداء من اليافطة الغريبة التي تقول " هذه المحطة من أجل كوك فوستيرز " و كوك فوستير بلدة تجدها في آخر شبر من خط قطار أنفاق البيكاديللي ) (1) ، و حتى التحذير الغريب الذي يقول " احذر من الفجوة " التي تفصل القطار عن رصيف المحطة.
لم أركب القطار في اليوم التالي للمؤتمر، و الموافق لـ 7 تموز، و هو اليوم الذي انفجرت فيه قنبلة استهدفت القطار المتجه لميدان راسيل. قطاري. و عوضا عن ذلك، كنت أجلس في غرفتي في الفندق المجاور. و بعد عدة دقائق، عندما فجرت قنبلة حافلة حمراء من طابقين على مبعدة شارعين غرب الفندق الذي أسكن فيه، سمعت الانفجار مباشرة و شعرت به، كما لو أنني أقف قرب متكلم في عرض صاخب.
و لكن بالحدس فهمت أن وراء الضجة الصاخبة قنبلة.
في غضون دقائق امتلأ الشارع أمام فندقي بالناس، و كان معظمهم يتكلم بالهواتف المحمولة، و تحول الشارع لفوضى من اللغات و كلها تتحدث بنبرة مذعورة. لقد شعرت من مكاني على ارتفاع خمسة طوابق كأنه عش صغير في مهب الريح العاتية. ثم بدأت أشاهد الأخبار بالتلفزيون و زاد ذلك من مخاوفي و ذكرني أنني على بعد آلاف الأميال من مسقط رأسي. و بعصبية مفرطة توجهت إلى الشارع، و انطلقت إلى المكتب في المبنى الرخامي حيث أعمل، و خيل لي أنه ملجأ آمن و ينقذني من الشعور الطاغي بالعزلة.
في ذلك اليوم أمضيت ثلاث ساعات و نصف الساعة في المشوار إلى المكتب ثم العودة منه و كأنني أعمل على فيلم بلا مونتاج:
لقد التأم شمل الناس على سلالم المشفى، بانتظار أخبار الأعزة على قلوبهم، بعضهم يتكلم بالهاتف النقال، و بعضهم يضع سماعات الهاتف، و آخرون اكتفوا بالجلوس.
و سمعت شخصا من الجموع يصيح في هاتفه:" أخبرها أن لا تذهب للعمل اليوم!. لقد حدث شيء طارئ".
و وقف شرطي وراء البوابات المغلقة التي تفضي إلى محطة قطار طريق توتنهام كورت و هو يشرح مجددا لامرأة مشتتة الذهن أن الطريق الوحيد للبيت هو بالسير على الأقدام.
فقالت له:" هذا غير ممكن. فهو بعيد للغاية".
فأخبرها بقوله:" المسافة حوالي أربع ساعات و أقترح أن تبدأي على الفور".
في كل مكان تجد الناس يتسكعون. و امتلأت الحانات، و احتشدت الجموع في الشوارع.
تابعت المسير و بيدي بطاقة هاتف دولي أقبض عليها بقوة، محاولة أن أجد مقصورة هاتف للعموم لأتمكن من التكلم مع عائلتي. انتظرت خارج الهاتف المأجور لخمس دقائق قبل أن أدرك أنني لم أفعل البطاقة للاتصال بالولايات المتحدة و لذلك من غير الممكن استخدامها. و استغرقت فترة الوصول للمكتب حوالي ساعة و نصف الساعة على الأقدام، و هناك تمكنت من الاتصال بعائلتي في مينيسوتا. و كان الوقت هناك مبكرا و لم يسمع أحد بخبر التفجير حتى أختي لم يكن لديها علم به. و لم يكن سماعها لصوتي يعني لها الشيء الكثير.
و مع انتشار الأخبار في الولايات المتحدة، تلقيت العديد من الرسائل الإلكترونية من بعض الأشخاص الذين يودون أن يعلموا إذا كنت سليمة معافاة. و لكن لقد تضررت حقا بالرسائل التي لم تصل: فقد غادرت الولايات المتحدة على أمل أن صديقي القريب من قلبي و الذي أصبح بعيدا بالمسافات يوضب أموره بطريقته، غير أنه لم يرد مهما ضغطت على زر إرسال / وارد، كانت محاولاتي تبوء بالفشل، و لم أنجح في الاتصال به. و هو من جهته لم يحاول أن يسأل عن صحتي، و ما إذا كنت قريبة من مكان الانفجار، و هل أصابني الرعب و الخوف منه.
كنت متعبة و منقبضة القلب في تللك الليلة، و أنا في الفندق، لذلك خرجت إلى الشارع و جلست في بار بالجوار. و مع أنني توقفت عن التدخين من شهور مضت حاصرتني شبكة من خيوط الدخان. ثم اقترب مني رجل أمريكي لا أعرفه و قدم نفسه لي و انضم لمجلسي. إنه مايكيل. و معا أنا و مايكيل راقبنا كيف كانت الأمسية تأخذ مجراها في الميدان أمامنا. و لمحنا رجلا يعرج و يشاحن صديقه الذي واصل التقاش معه ليقنعه بالتوقف عن الشراب، و العودة للمنزل. و انحدرت امرأة في الشارع بحذاء له كعب عال و ببذة رمادية، و كانت تشتم. و قالت صديقتها للغرباء المحتارين من سبب الشتائم:" لقد كانت على متن القطار". و رفس رجل نافذة شقته. فحضرت الشرطة في لمح البصر و دعته للصمت و الإخلاد للسكون. و وقف زوج كانا بنصف ثيابهما في نافذة مفتوحة فوق مطعم للبطاطا المقلية و السمك.
و تبادلت مع مايكيل الكلام و الضحكات حول الصخب المستمر لصافرات الإسعاف. أما الحي فقد امتدت فيه حبال تحاصر مسرح الجريمة من ناحية الشرق و الغرب و امتلأ بأفراد الشرطة و الحواجز. و لبعض الوقت هدأت النقاشات، بطريقة ما، ساد القلق الغامض و الخوف.
بعد يومين تخطيت جدارا داكنا يخفي الحافلة المخربة عن عيون المارة. كانت هناك تذكارات و بعض الصحافيين حول المشهد. و تابعت في طريقي إلى محطة يوستون ( كان موقف ميدان راسيل مغلقا، و استمر كذلك لعدة أسابيع). تلك هي أول رحلة لي في قطار الأنفاق منذ الانفجار. التقطت الصور للإعلانات المعلقة على أطراف السلك الكهربائي و حول جدران القبة البراقة، و كان مذيع تلفزيوني يسأل مراهقا هل هو خائف.
و في أسفل السلم أخبرتني ضابطة شرطة أن أغلق كاميرتي. قالت:" لا نسمح بالصور في الأنفاق. هذا يشتت انتباه السائق". ترددت لحظة. و أضافت:" ثم هناك ارهابيون". أغلقت حقيبة الكاميرا و قدمت اعتذاري. كم صدمتني فكرة أن فلاش الكاميرا قد يحمل احتمالا بشيء مميت.
و ما أن صعدت على متن القطار و نظرت للوجوه الهادئة في العربة، غمرني الإحساس بأثر اليومين المنصرمين. لقد بدأ يوم 7 تموز بهذه الطريقة. شخص مثلي صعد إلى القطار. و ربما هو امرأة تفكر كيف تنتهي من مشروع خاص بعملها أو أين تشتري وجبة طعام جاهزة للغداء أو أنها تشعر بضيق في حذائها ، و فجأة أقدم الرجل الجالس هناك - هناك تماما - على تفجير نفسه.
و هنا بدأت الدموع تنهمر على وجنتي. و لم يلاحظ ذلك غير شخص واحد. صبي في مقتبل العمر بجواري في زحام القطار. و قد راقبني و أنا أبكي طوال الطريق حتى وصلت للمحطة التالية.
هوامش المترجم:
1- كوك فوستيرز: تعني باللغة الإنكليزية مربي الديكة. و باللغة العامية قد تعني الاعتناء بالعضو التناسلي المذكر.
إيمي بيكير Amy Becker: كاتبة أمريكية معاصرة.
الترجمة من مجلة سرديات الأمريكية " نارايتيف". عدد خريف 2005.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |