أشكال الخيال الفني في قصص " عودة عرار " لمحمود الريماوي
خاص ألف
2013-12-17
في ( عودة عرار - قصص عمان )، الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية في مطلع عام 2013، يكتب القاص والروائي محمود الريماوي سيرة نفسية لشخوصه الذين يشهدون على تحولات المدينة وانعكاس هذه التحولات عليهم. ولهذا تجاوز في العديد من قصص المجموعة الشروط التقليدية لفن القصة، ولكنه التزم بما نسميه : حكمة الكتابة. و قد تبلور ذلك من خلال اهتمامه بالفضاء الداخلي للشخصيات و جوهر المجتمع و الدائرة المصمتة للمدينة.
لقد كانت هذه المجموعة نوعا من تحويل الخيال الفني لدراما. و لذلك إنها تدعو لتطهير نفسها، وتعويم الشخصيات والإنفعالات بمتابعة مباشرة و دؤوبة لما يلفت الانتباه و يوقظ المشاعر، مهما كانت الأحداث و التطورات صغيرة .
وعليه يمكن اعتبار مجمل النصوص تفاعلاً بين هموم الكتابة وهموم الواقع وليس العكس كما جرت العادة. لقد كان محمود الريماوي يبحث بين سطور قصصه عن حكايات مدفونة في سريرته. ولذلك غلبت المشهديات النفس - طبيعية.
وللتوضيح: إن المرئيات والبورتريهات و الأحداث في " عودة عرار " هي تفاعلات ذات اقتربت من واقعها، وتنظر إليه بدهشة بالغة وبشيء غير قليل من الفكاهة، ودون أن تفقد سبل التواصل والتفاعل معه. وهذا هو التعريف الموجز لمعنى الاغتراب النفسي. فالكاتب في كل لحظة يبحث عن أبطاله بين ركام الصور لطبيعة ميتة أو أنها تحتضر.
قصص عمان
ومع أن العنوان الفرعي يؤكد على مركزية مدينة " عمّان " ، في الأحداث والانطباعات، فإن الرابط معها هو: مكان الكتابة وطقس المدينة وإيقاعها، وليس التفاصيل و لا الخصائص.
لقد صورت مجمل القصص مدينة متكررة ذات طبيعة نوعية. ورسمت للوهلة الأولى مدينة ساكنة وصامتة، أبرز ما فيها أبواب الحديد المغلقة ( انظر قصة حياة بلا سينما - ص 183). لكن بإمعان و تقليب النظر نرى كم هذه المدينة قريبة من القلب و من مكامن الذكريات النشيطة التي توجه الأحداث، وكأن عمّان نسخة من عالم افتراضي على شاكلة " الخالدية " التي كتب عنها محمد البساطي أو " ماكوندو " التي اخترعها ماركيز. و على أية حال إن أهم شخصيات الريماوي من أمثال زياد بطل قصة ( كرة غير مرئية ) يعيش بقوة أشواقه و تمنياته و فوقهما خياله الخصيب ( ص255). ولو ورد ذكر ملموس لأسماء الشوارع والأحياء فهو يأتي في سياق تعريف لما لا يعرّف. بعبارة أخرى إنه يوسع من الفراغ. وحين يسرف بالتفاصيل والتضاريس كما فعل في القصة المتميزة " عطر اللويبدة الخفي" فهذا لا يزيد على أن يلعب دورا تمهيديا، ويضع الماضي في المكان اللائق به من عاطفة وأشجان الشخصيات.
وقل نفس الشيء عن الأماكن و الأشياء الحقيقية التي يعشقها أبطال القصص وفي المقدمة البيوت القديمة ونقاط العلام، فهي موئل الذكريات ( ص54)، وكذلك الأشجار المعمّرة التي تآخى معها المسنون ومن شارف على خريف العمر ( ص 56).
إن عمّان في هذه القصص أشبه بسحابة ثقيلة ،أو انفعالات جياشة، أو شريط ذكريات لا يتوقف عن الدوران. بالرغم من أن الكاتب أوقف الشخصيات والأحداث عند عتباتها للإشارة على حالتهم الاغترابية وعلى الاستلاب الذي يفسر أسباب الانحدار والتدهور. وكما ورد في قصة " غيض من فيض "، كانت هذه القصص مخصصة لوجوه بملامح بسيطة ( ص46) ونفوس معقدة. فهي تعكس الظاهر الغامض الذي ينبئ عن لاشعور مركب و مضطرب. و بعبارة مباشرة: إنها قصص تلعب بالوقت لتؤجل النهاية المحتومة ( ص 240).
و بالمقارنة. لقد تعامل الريماوي مع عمّان من مدخل نفسي تصويري، بعكس نظيره عبدالرحمن منيف مؤلف " سيرة مدينة" والذي لم يغفل في كتابه شيئا.. من المقابر وحتى الأسواق. من داخل البيوت وحتى الشوارع. كانت عمان بقلمه ملونة وتسبح في بحر من الإضاءة و كأنها امرأة متبرجة. غير أنها عند الريماوي تغطيها ستارة من الضباب المقصود. وكان اهتمام منيف بالسيرة الذاتية والتوثيق يقابله عند الريماوي اهتمام بالتحولات الاجتماعية والحضارية. وأوضح دليل على ذلك قصة ( عودة عرار ) التي تنظر للمدينة بعيون رجل ميت عاد للحياة.
وأرى أن لهذه القصة قيمة مركزية في المجموعة. فهي تتألف من محور أفقي هو الحاضر ومحور عمودي هو الماضي. ولكن ليس الماضي البعيد كما فعل توفيق الحكيم في ( أهل الكهف ) أو زكريا تامر في ( دمشق الحرائق) . وبما أن الشخصيات تنتمي على أبعد تقدير لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت المشكلة في التوقيت والتفسير، ولا علاقة لها بالهم الحضاري الذي له من العمر ألوف السنوات.
كانت الشخصيات من نفس بنية المؤلف. ومن الأنتلجنسيا. ولديها إحساس مشترك بالتحولات.
وهذا فارق له معنى.. أن تكون الحساسية اجتماع - نفسية ذات مضمون سياسي وليست حضارية. وبعبارة أخرى اهتم محمود الريماوي بالأطوار وهي مسألة متحولة. ولم يركز على التعاقب والتقابل. أو على دور القطيعة المعرفية في تطوير المعاني.
لقد هاجم زكريا تامر والحكيم حالة السبات التي يعاني منها الإنسان بشكل عام. وبالأخص زكريا تامر الذي وضع كل شيء موضع الاتهام. ورفع نبرة صوته الحانق بطريقة الطبقة البورجوازية التي لا تجد فرقا بين موت الإنسان وموت الأمكنة. والتي تنظر للعقل وكأنه من طبيعة شمولية متصلة. لقد كان زكريا تامر يرسم صورة للعنف النفسي وللجريمة الاجتماعية وكأنه يتحدث عن حواري خلفية في لندن وباريس. وكانت دمشق في خياله تشبه الحواضر الميتروبوليتانية وليس المدن القديمة التي تقاوم الفناء وخطر الانقراض.
غير أن هذا التعميم لخصوصيات الذهن الليبرالي غير موجودة في ( عودة عرار ). وحل مكانها تعميم وجداني، اعترف بالحدود التي تفصل بين الحضارات. وللتوضيح: كانت لهموم الإنسان الضعيف والباكي والذي اقترب من نهاية الشوط مضمون اجتماعي خاص لا تجده إلا في إنسان الحضارات النامية وفي المقدمة ابن الشرق الأوسط.
ومما لا شك فيه أن الاتجاه عند رائد المسرحية العربية توفيق الحكيم ورائد القصة الحديثة زكريا تامر من أصل استاطيقي، ولكنه عند الريماوي كان جدليا وله علاقة مباشرة بمفهوم هيريقليطيس عن الحركة.
إذا كان عرار لا يستطيع أن يسبح في مياه النهر مرتين، إن أبطال الحكيم وتامر يتحركون بمنطق العدّاء الإغريقي. يتحركون في عالم غير تفاعلي. وأوتوقراطي. عالم لا يرى إلا صورته في المرآة. ولذلك هو هجائي .
ويمكن التعبير عما سلف بالمخطط التالي:
أهل الكهف لتوفيق الحكيم: رؤية ميتافيزيقية للتاريخ + مرجعية بارغسونية لمعنى الزمن+ الحبكة هي الذات النرجسية وصوت الكاتب + شخصيات حيادية.
دمشق الحرائق لزكريا تامر: رؤية استاطيقية للتاريخ + مرجعية هيغلية لمعنى الزمن + الحبكة هي عقدة أوديب والصراع ضد قانون الأب + شخصيات سادية.
عودة عرار لمحمود الريماوي: رؤية جدلية للتاريخ + مرجعية اجتماعية لمعنى الزمن + الحبكة هي صراع الأجيال + شخصيات مازوشية.
ولا يمكن أن نمر مرور الكرام على الحالة السريرية للشخصيات. فهي بروتوتايب بكل المقاييس.
وإذا كانت عند زكريا تامر انتحارية وعلى وشك الانفجار. تنمو وتتطور وراء خطوط العزل، في المقابر وفي الصحارى، أو على ضفاف الأنهار. فهي عند الريماوي وسطية ومعتدلة، ويغلب عليها اللون الرمادي الذي يناور ولا يواجه. والذي يتكافأ مع النظرة الرواقية للحياة.
ولو نظرت لتخطيط المدن عند كليهما يجب حتما أن تنتبه للمعضلة الفنية. فدمشق زكريا تامر مدينة مكافحة، تنطوي على قدر غير قليل من الأساطير. وهي تقاوم الغمر ( طوفان نوح ) والرماد ( موت تموز و إحياؤه )، وهو ما يمكن، لأخوتنا المهتمين بالفكرة القومية الاجتماعية، أن يجدوا فيه علاقة مع الفكر الحضاري المتوسطي، الذي كان ذات يوم سيد البحار. وهنا يكون من السهل أن تربط بعروة وثيقة الأسطورة التوراتية التي أيدها القرآن الكريم لاحقا، والأسطورة الفينيقية، التي ولا شك، اقترنت باختراع النار. فالماء لديهم يُتوِّجُه لهب أحمر في معظم الحالات، مما يدلل على مركزية خلق الحياة من الماء والجماد من النار.
وأعتقد أن الريماوي يحتفظ بمسافة كافية عن هذه الأفكار والأحفورات. فهو أقرب للمفهوم الجدلي، الذي يضع الحياة بمواجهة الموت، والسكون بمواجهة الحركة. وإن لم يكن أبطال قصصه كثيري التحرك، فهم يتحرون ذلك في أعماقهم. إن النشاط النفسي عند الريماوي يكاد يكون بدلا نحويا، لو كان هناك شيء اسمه إعراب أو نحو الأفكار.
وربما لذلك كانت عمان لديه تابعة لمتبوع، وهو الإنسان الإشكالي، المنفصل عن ماضيه، والضائع في تيه لا حدود له ولا صفات. والذي كان يتصرف مع واقعه كمن يطرق على حديد بارد أو ميت ( ص100).
والشيء بالشيء يذكر. أنت تجد مثل هذه الاستراتيجية في التباعد المتعمّد بين الشخصيات والمكان في أعمال نجيب محفوظ الأخيرة. فإذا كانت خماسيته عن القاهرة ( من خان الخليلي وحتى بداية و نهاية ) تصور موت الأحياء الشعبية واندحارها ورحيل فولكلور طبقة آلت للسقوط، فهو ابتداء من " اللص و الكلاب " يصور عالما نفسيا ينبثق بشكل خفي من الطبقات الداخلية للمدينة أو من فضائها النفسي. ولذلك تحول المكان لديه من بطل له حبكة وحياة نفسية واجتماعية ( كما في زقاق المدق ) إلى فضاء مفتوح تنعكس عليه أفكاره وخلاصة تجاربه ( انظر رائعته: ثرثرة فوق النيل).
وأغلب الظن هذا هو حال الريماوي، فهو متعدد وجهات النظر والأساليب، ولنا في أولى رواياته" من يؤنس السيدة " أسوة حسنة. إنها رواية تغطي المعنى الخاص للمدينة، ومن الصعب بمكان أن تجد فراغا يفصل بين حسيبة المرأة العجوز ومدينة الزرقاء، مكان إقامتها. ولا سيما حين تسير الهوينى وتجتر أحزانها وهمومها. وقد أسقط ذلك على صورة سلحفاة بطيئة الفهم دميمة الهيئة تحمل درعها العظمي الثقيل على ظهرها. وأكاد أجد في بيت السلحفاة ما يشبه رمز حقائب المسافرين في أحلام فرويد. فكلاهما إشارة على الأخطاء والأوزار التي نحملها في رحلتنا في هذه الحياة.
القصة بين البادية والمدينة
وبالنهاية فإن إنسان عمّان (خاصة نماذج الكهول) لا شخصية المدينة هو موضوع هذه المجموعة.
لقد كانت عموم القصص تهتم بهموم أبناء المدينة وليس تاريخ مدينتهم. وإذا كان ذلك شيئا لا غبار عليه ويعكس اختيار الكاتب أو مشيئته، فهو عند الريماوي سمة، أو ظاهرة. إنه كاتب مدينة. ولم يصور في حياته كلها الريف أو البادية التي تركت أثرا عميقا لدى غيره من جيل النكبة. وقد انعكس ذلك حتى على الأسلوب والأداء.
فاللغة التي تنتجها ظروف البيئات الحارة المفتوحة تفرض اهتماما بالأثر النفسي والمحسوس للجفاف. ولذلك تكون الألوان مشرقة وساطعة. والتراكيب مباشرة و مفهومة. والمفردات تعني ما تقول. وبالاستطراد إن المجاز لا يجد هنا ملعبا مناسبا له. وبالمقابل من المحتمل أن تكون الشخصيات في حالة تثبيت طفولي. بمعنى أنها ليست معقدة نفسيا وإنما تستكمل الواقع بالفانتازيا. وهكذا يكون مسرح الأحداث جزءا لا يتجزأ من الشخصيات.
والمثال على ذلك معظم كتابات العجيلي الذي كانت البادية لديه هي امتداد لنشاط المخيلة، وليس لعلاقات الانتاج والتبادل السلعي بما في ذلك السلع المعرفية.
بينما المشاهدات في قصص " عودة عرار " قريبة الأجل، وتنظر للخلف، وتنمو في فضاء داخلي. ويغلب عليها الشك والتأمل. بمعنى أنه بدلاً من الحبكة يفسح في المجال للمتابعة والإبصار ( وهو خير وريث لنازع التلصص الذي تحدث عنه فرويد أيضا، وربطه بوعي الطفل لقانون الأب ورضة الفطام).
ولذلك إنها قصص مفتوحة تُغري بالتأويل والتكهن. وتعتمد على مبدأ الأمكنة الحاضنة أو الدالة التي تغترب عن شخصياتها. وترتب على ذلك أن اللغة مجازية مع أعداد مرتفعة من الاستعارات والمفردات العامية التي تنتشر بين عامة الناس. ومنها "سنسفيل، عذر ماسخ، نسولف، على رواق، إخص، طراطيش" ، وهلم جرا...
وربما كانت هذه اللغة الميسرة واللهجة المحلية هي العلامة الوحيدة على حضور عمان. لقد حضرت في القصص ألسنيا فقط وليس دلاليا. وهناك أكثر من إشارة لدور اللهجة المحلية في تحديد الانتماء. منها على سبيل المثال لا الحصر سيد في قصة ( ليست لسيد ) الذي اختلطت عنده لهجة عمان مع لهجة الصعيد ( ص 269)، باعتبار أنه يعاني من انزياح في المكان. ولك أن تتخيل ما هو أثر هذه الهجرة بعد أن يعود أدراجه.. هل سوف يكون لها مفعول معاكس وتؤدي لانزياح ألسني أيضا؟..
عموما، في هذا النوع من الكتابة لم يتردد محمود الريماوي في تحديد ولاءاته، لقد اختار أن يكون بين الناس ، وأن يبتعد عن ذهنه النخبوي وثقافته العالمة. وتوسل لذلك بقانون الإفهام وبمفردات من فصحى العامية غير أنه لم يكتب بالعامية المكشوفة، كما هو حال سعيد الكفراوي ويوسف القعيد وآخرين من الصفوف الأولى لكتاب القصة في مصر.
أضف لذلك فكرة الصراع. فالتناقض في أدب الصحراء والبوادي يكون بين الطبيعة الظالمة والإنسان. وهو لا يدل على سوء ظن، ولكنه يؤشر على طبيعة افتراسية وغابوية ترمز لسلطة ما هو فوق القانون على لاشعور الأفراد. ولكن في أدب المدينة يصبح التناحر بين الأفراد ومجتمعاتهم وبين العناصر المغتربة عن بعضها البعض في الشخص الواحد.
إن قصص " عودة عرار " تقدم لنا أبطالا لا يعرفون أنفسهم. وكأنهم على شاكلة أبطال لويجي بيرانديلو. يبحثون عن مكان لهم في الحبكة المفروضة. مع الاحتفاظ بفرق التأويل للمعنى. فبيرانديللو يرسم شخصيات من درجة أولى ليس لها الحق في ابتكار نهاية لحياتها. ولذلك إنها تبحث عن أب أو إله ( ورمزه المؤلف ) ليقودها إلى المصير المحتوم. وشخصيات محمود الريماوي في حالة مأزق دائم، ولا تهتم بنقطة النهاية. وتستغرق في حصاد السنوات السابقة.
الحبكة و الشخصيات
وبشكل أساسي تنقسم المجموعة إلى أربعة خطوط:
وجوه وملامح لبورتريهات من مسرح المدينة يستدعيها الكاتب. وتدخل في باب القصص المتحولة والتي لها علاقة بالصدفة وبعض الخصال الروحية. وهذا ليس بمستغرب في مسيرة محمود الريماوي. فقد كتب عن شخصيات وأنماط بأسلوب كلاسيكي ومضمون رومنسي. وأعزو مثل هذا الدمج بين الأضداد للطبيعة السياسية القلقة التي لا تزال تؤثر بمفهومنا عن الواقع منذ نهايات الحرب العالمية الثانية ولتاريخه. فالمفاجآت السياسية وحالة عدم الاستقرار ثم العسر الحضاري ترك أكثر من علامة على مقومات الإنسان الشرق أوسطي، فما بالك لو أنه كاتب ومهاجر ويعمل على الخط الساخن، خط نكبة 1948. ويمكن أن تجد نماذج أخرى على ذلك في مجموعته الصغيرة ( سحابة من عصافير). وأخص بالذكر قصة " حبات السبحة". وأعتقد أن أهم صفة في هذه القصص التوجه الذي يترنم بعذاب الذات وبعدم قدرتها على تجفيف منابع الشقاء والألم.
إن معظم شخصيات هذه القصص من النوع الغفل، العابر في المجتمع، أو الانتهازي، المغامر، والذي يقتات من مخاوفه ومن وهم ليس له مبرر ملموس. وكأنهم جزء من المنظومة الفكرية لأحلام الهيلة التي توسع فيها نجيب محفوظ في الهزيع الأخير من عمره حتى أصبح رمزا من رموزها في القرن العشرين. وأخشى أن تجربة الريماوي أوضح. فالمرارة يقف وراءها شعور بالفادح وبالمفارقات التي تأتي من تأثير أحزاننا الدفينة. ناهيك عن أن هذه الشخصيات رقيقة مرهفة، وتحمل صفات وأعراض الشخصية المجزأة المغتربة عن نفسها وعما حولها. ولو كان لا بد من إثبات أضرب كمثال شخصية الدكتور من قصة " غيض من فيض" والذي يتعامل مع المبادئ بطريقة بهلوانية. ألم تكن تتنازع في داخله مواقفه القومية مع رغباته بالثروة والجاه ( ص 47 )، وألم تتداخل في حياته نزوات شخصية عابرة مع الدوافع والغرائز السياسية ؟؟..( ص 46).
الخط الثاني هو قصص المواقف الإنسانية. وهي غالبا ما تكون بأسلوب واقعي ومضمون وجودي. ولذلك إنها أقرب لرؤية الكاتب لمسلسل الخيبات والهزائم من حوله. وتتألف هذه القصص من تيار شعور يضيء لنا الموقف ومن صورة بانورامية يشترك فيها عدة أشخاص ومكان واحد، وكأننا أمام مشهد من مسرحية على الخشبة. ومن السهل أن يرى فيها القارىء بوادر مونودراما نموذجية.
وربما يصح القول إن هذه القصص مركبة على التباين، بحيث أن المكان مضغوط والزمان منبسط.
الخط الثالث وهو حكائيات. ولم أجد في كل تاريخ محمود الريماوي شبيها له. إنه نمط يتراوح بين الحكايات الشفاهية وما قبل القصة الفنية. ولذلك تجد الكثير من الحركة والوصف والأفعال التي تحمل عقدة واحدة وانعطافات متعددة ( انظر قصة الوصول إلى المريخ والهبوط منه - ص 59). ولو كان لا بد لنا من تصنيفها أضعها في صف الديكاميرون. فهي لا تنتمي لجو ألف ليلة وليلة بسبب ابتعادها عن الخرافة واقترابها من المخيلة الشعبية. وبسبب إغفال دور الجنس في الحبكة واستبداله بأنواع من الصراعات التقليدية كنوازع الأخذ بالثأر أو الكيد أو التنافس وما شاكل ذلك.
الخط الرابع والأخير وهو القصص القصيرة النموذجية التي تبرهن على صدارة القصة بمفهومها الطبيعي لدى محمود الريماوي، وعلى تواصله الدائم مع أصول هذا الفن. حيث أن الحبكة تبدو واضحة والشخصيات ناضجة. ولكنه دائما يكسر مفهوم النهايات ويترك القارئ من غير نقطة تنوير. ولا يعني ذلك أن قصصه تتطور تحت جنح الإبهام، وإنما هناك نوع من إعادة ترتيب الأوراق وربما الأولويات. فنقطة التنوير تحل محل التمهيد. مثلا إنه لا يمهد للحبكة بمدخل يصور فيه مكان وزمان الأحداث، ولكنه يقدم لنا صورة لمشهد تتحرك فيه كل الشخصيات. وهي على الدوام شخصيات عامة وتحترق في الظل، ونستطيع أن نرى رماد احتراقها البطيء الذي يرمز لمعاناة جيل، إن لم نقل معاناة مرحلة.
ومع أنه لا يميل للميلودراما والإفراط أو التنميق تقترب هذه القصص حثيثا من نموذج الحياة العائلية. ويتحول البيت إلى خميلة للمرأة والأولاد والمقهى إلى واحة للرجل. وعلى الأغلب يكون للعائلة تراتب هرمي، يقف رب الأسرة في أعلاه. فهو الآمر الناهي، كلي القدرة وصاحب القرار. ومع ذلك يكون له صوت مونولوجي غاضب يدلنا على نقاط الضعف وموضع الجروح. إن هذه القصص نافذة على ما نسميه بالخبيئة. وهو كل ما تنطوي عليه الصدور. وبإبدال فرويدي بسيط ومباشر هو لاشعور الإنسان الشرق أوسطي كرمز للمجتمع المصاب بعنة حضارية وخصاء تاريخي عمره مئات السنين.
وختاما إن ( عودة عرار ) مجموعة تكتسب أهميتها من التراث المضيء لمحمود الريماوي، والذي على ما يبدو، يلتمس أبوابا ومداخل متعددة للتجريب. وعلى ما أعتقد فقد وجد ضالته في داخله وليس في الحكاية التقليدية، وفي علاقته ببني جلدته من البشر وليس بمحددات المكان ومواصفاته وعلاماته الفارقة.....
كانون الأول 2013
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |