القاصّ، والقنّاص مونودراما :
صباح الأنباري
خاص ألف
2013-12-31
المنظر:
غرفة في شقة متواضعة لكاتب قصصي تجاوز الخمسين من العمر.. تغطي جدارها الخلفي خزانة كتب، ومصادر، ومراجع عديدة. إلى الأعلى قليلا وضعت شاشة (سكرين) كبيرة بعض الشيء تمكننا من قراءة إيميلات الكاتب، وبعض الصور والإيضاحية، والفيديوهات التي يقوم باختيارها من الشبكة العنكبوتية، ويستعين بها في إلقاء المحاضرات داخل صفه الجامعي.. نافذة تطل على الشارع المجاور.. ثمة أكثر من لوحتين زيتيتين تزين جدران المكان، وبعض الرسوم التخطيطية لأغلفة مجاميعه القصصية.. في منطقة وسط الوسط وضعت منضدته وعليها جهاز لاب توب، وآي باد وبعض الأوراق البيض، وأدوات الكتابة، وجهاز هاتف نقال وموبايل.. ثمة قطع ديكور وضعت هنا وهناك بعناية تامة.. دائرة من الضوء تسلّط على مكتبه فيظهر مرتديا لباسا من تلك التي يرتديها الرياضيون عادة وهو يضرب على (الكيبورد) فتظهر كتابته على الشاشة الكبيرة. نسمع صوت انفجار هائل يهز أرجاء الشقة كلّها، ونرى بريقا متكررا من خلاله نراه وهو يتعثر في المكان بحثا عن شيء ما.
القاص : (من خلال الظلام) اللّعنة كيف الوصول إلى رفّ الشموع وقد غرقنا في بحر من الظلمات!.. ظلام دامس لا قرار له داخل ظلام أشدّ حلكة منه، وأكثر اسودادا (نسمع من خلال الظلام صوت ارتطام) اللّـــــــعنة لا استطيع المضيّ في طريقي دون أن أتعثر بقطع الديكور العديدة التي وضعتها زوجتي هنا وهناك. (يوقد عود ثقاب.. يجد الشموع فيوقد بعضها ثم إلى جمهور النظّارة) عذراً سنستمر بضع دقائق هكذا ريثما يعاد تصليح التيار الكهربائي، أو اعادة فتحه حسب. فليس بالضرورة أن يكون معطّلا بسبب الانفجار فغالبا ما يمنح شرفَ الإطفاء من زمرة تريد له ذلك.. أحيانا تأخذ العملية ساعات وساعات فلم يعد التقنيّون يأبهون كثيرا لإعادة النور لحياتنا كما كانوا قبل الخراب والدمار. ولأنني أجهل تماما متى سيعود التيار الكهربائي لذا سأستخدم ما تبقّى من شحن في اللاب توب لأواصل الكتابة (يشرع في الكتابة.. نقرأ ما يكتبه على الشاشة الكبيرة):
صديقي العزيز.. ما زلت أجلس وحيدا وسط الظلام الحالك، والانفجارات، وأزيز الرصاص...
(يتوقف عن الكتابة ثم إلى جمهور النظّارة كما لو انه يواصل الحديث معهم) هل تعتقدون أن صديقي (يشير إلى اللاب توب) سيصدّق هذا؟ (مستدركا) لا أعني أنه سيكذبني، أو يلغي المصداقية بيننا، ولكن أظن الذي يمر بنا شيء غير قابل للتصديق.. هل تتفقون معي؟ من الطبيعي جدا أنكم تتفقون معي فها أنتم الآن تجلسون في هذا المكان الذي أجلس فيه وسط هذا الظلام الرهيب (مستدركا) عفواً.. أنا لا أعني الظلام الفني الذي يريده مخرج المسرحية بل الظلام الذي يريده المغرضون. ألا تتفقون معي أن صديقي سيهمس لنفسه متهما إيانا بالتخلف التقني؟ إنه معذور في همسه هذا، فالعالم الآن يتباهى بعدم انقطاع التيار الكهربائي دقيقة واحدة على مدى أعوام طويلة.. حسنا.. لم لا نتباهى نحن بانقطاع التيار الكهربائي أطول وقت ممكن في التاريخ لندخل في موسوعة گينيس (Guinness Book) للأرقام القياسية؟.. فكرة.. هذه مجرد فكرة (يعود للّاب توب ويبدأ الكتابة.. نقرأ ما يكتب من على الشاشة مع صوت الموسيقى):
حاولت اكمال قصتي الأخيرة (داخل البيت) لكن اختطاف ابني الوحيد جعلني أتوقف عن...
(يتوقف عن الكتابة.. لنفسه) عليّ أن اذكر له أسباب الاختطاف وإلا كيف سيصدّق! (لنفسه بانكسار) لكنني شخصياً لا أعرف سببا واحدا لاختطافه (يلتفت إلى جمهور النظارة) لقد أخبر زوجتي شخص مجهول عن مكان احتجازه من قبل جهة أمنية فهل ثمة من يصدق كلاما كهذا في الظرف الذي لا نزال نعيش على قيده؟ على أية حال لم تستطع زوجتي الانتظار معي لنتبيّن حقيقة كونه محتجزا أو مخطوفا، ومن فورها سافرت إلى حيث المكان المزعوم على أمل العثور عليه أو استعطاف الجهة الأمنية لتطلق سراحه، مقابل ثمن طبعاً، فهو بعد أخذ كل شيء بنظر الاعتبار ليس سياسيا، أو حزبيا، أو طائفيا، أو مشعلا للحرائق والفتن.. إنه مجرد طالب علم في المرحلة النهائية من الجامعة.. أنتم لا تستطيعون أن تتصورا خطورة الطريق الذي سلكته زوجتي فثمة سيطرات وهميّة للابتزاز، وأخرى للاغتصاب، وثالثة للذبح، ورابعة لإدامة النعرات الطائفية والقتل على الهوية.. فإن سلمت من الأولى فأنها تسقط تحت رحمة الثانية التي لا رحمة في قلبها.. أصدقكم القول أنني يائس من عودتها سالمة فتلك السيطرات لا يمكن حتى للشيطان أن يفلت منها (يرن منبه الهاتف النقال فيلتقطه بسرعة ولهفة) آلو.. ها؟ هل وصلت سالمة؟ هل.. هل (يصمت ثم بهدوء) حمدا لله على سلامتك يا حبيبتي.. لقد كدت أجن من شدة التفكير بك وبالمصير الذي ينتظرك على طريق المخاطر المهلكة (يصمت) حسنا حسنا يا حبيبتي.. سأفعل.. الى اللقاء (يقفل الخط، ويشرع بالضرب على الكيبورد.. محاولا اكمال الرسالة):
... عن.. عن...
(يحاول التذكر) عن ماذا؟ اللعنة على ذاكرتي المضطربة والمشوشة (يتذكر) آ.. (يكتب):
عن الكتابة اليك.. فالوقت هنا لا يتوانى عن استخدام سيفه البتار.. وعليك أن تباغته قبل أن يمتدّ نصله ويحز رقبتك كما يحز رأس الخروف هكذا (يشير لطريقة الذبح) وكأن شيئا لم يكن.
(يترك الضرب على الكيبورد ويتوجه بكلامه لجمهور النظارة) قبل ثلاثة أيام اقتحم مسلحون بيتا في الحي المجاور لحيّنا ألقوا القبض على رجل في الخمسين من العمر.. ألبسوه رداءً خاصا لا يسمح بحركة أي طرف من اطرافه الأربع.. جعلوه يبرك على الأرض راضخا.. قرأ أحدهم بيان إدانة للرجل فتقدم آخر وكانوا يسمونه الذبّاح.. حزّ رقبة الرجل من الوريد إلى الوريد تحت مرأى اطفاله وزوجته ثم فصل الرأس عن الجسد ووضعه على صدر الضحية.. قال وهو يمسح الدم من على سيفه البتار: الحمد لله الذي مكننا من القضاء على كافر آخر.. لم تستطع الزوجة السكوت لتنجو.. استشاطت غضبا وجنونا.. هجمت على الذبّاح كنمر جريح وبأظافرها خدّشت وجهه فتلطخت لحيته الكثة الشعثاء بالدم ثم سقطت منهارة على الأرض.. قهقه الذباح الذي ظلّ في مكانه واقفا لا يريم ثم قهقه المسلحون وهم يرون الدماء تسيل ملطخة لحيته.. قال أحدهم: هل نأخذها معنا؟ قال الآخر: ولم لا وهي تمتلك جسدا نافعاً.. وقال آخر وهو يشير إلى الأطفال: وماذا نفعل بهذه القطط .. قال الذبّاح لن اتركها وحيدة بلا أب.. سألحقها بأبيها.. (يعود للكتابة مرة أخرى):
يا صديقي صار كل شيء هنا بائرا.. فالبضائع كاسدة، والليرة بلغت أدني قيمها، والبشر تحولوا إلى أصغر رأسمال.. وحدها تجارة الخطف ازدهرت حتى غمرت السوق المحلية من اقصاها إلى أقصاها...
(يقاطعه رنين جرس النقّال فيرفع السماعة) آلو.. آلو (بلهفة) نعم يا حبيبتي.. شكرا لله أنك على اتصال مستمر معي هل حصلت على شيء بصدد ابننا ( يصمت ثم بفرح كبير) عظيم.. رائع جدا.. حمدا لله أن مغامرتك تكلّلت بالنجاح (تنقلب ملامح وجهه إلى ملامح حزن ودهشة) ماذا؟.. كم؟ 15000 $ هذا مبلغ ضخم جدا.. حسنا .. حسنا.. لا تبك.. لا تبك يا حبيبتي.. لا بأس.. سأتصرف.. حظا موفقا (يغلق الخط ثم لنفسه بذهول) من أين لي أن أدبّر مبلغا يعد بالنسبة لأستاذ جامعي مثلي ثروة طائلة؟ (مفكرا) كل ما ادّخرت طوال سني خدمتي في الكلية عشرة آلاف دولار فقط.. يعني عليّ أن اقترض خمسة آلاف دولار من اجل سلامة ولدي الوحيد...(يتوقف متأملا) ترى هل وضعوك في زنزانة انفرادية تضيّق عليك الشعور بالوحدة القاتلة؟ أنا مثلك أيضاً أعيش في وحدة قاتلة بين جدران هذا البيت الشبيه بزنزانة انفرادية (يشير إلى المكان الذي هو فيه) أحيانا أحدث نفسي، أو أحدث الجدار، أو أهمس لأي شيء موجود حولي كي أبدد وحدتي (إلى الجمهور) ماذا تفعلون أنتم في الظلام؟ هل تتحدثون لأوهامكم مثلي؟ أم تكتفون بالدعاء لعودة الكهرباء سالمة معافاة من دائها الذي صار مزمنا؟ (يسمع صوتا قادما من جمهور النظارة.. يضع يده على اذنه متصنعا السماع) نعم.. سأدفع المبلغ بالتأكيد ولكن كيف وأين ومتى وهل سيطلقون سراحه فعلا؟ حقيقة أنا في ريبة من هذا كله (ينظر لساعته اليدوية) عفوا لقد حان موعد الدّرس، وعليّ أن ألقي محاضرتي (يتحرك نحو شاشة السكرين. يمسك بعصا التأشير.. يخاطب الجمهور وكأنهم طلبته وتكون الاضاءة ساطعة في ارجاء المسرح) لم أتوقع حضور هذا العدد منكم ومغامرتكم بالمجيء إلى هنا تحت وابل القصف، والرصاص، والقنص العشوائي.. ربما لا أحد يصدق رغبتكم الملحّة في طلب العلم وأنتم تمرّون بظرف قاهر مانع رادع كهذا (يرتج المبنى ارتجاجا هائلا اثر انفجار هائل فيرمي الأستاذ نفسه على الأرض.. ينقطع التيار الكهربائي وبعد برهة ينهض) أرأيتم؟.. إنهم لا يريدون منكم البقاء في قاعة الدرس فليس ما يهمهم هو طلب العلم.. بل طلب الجهاد بأنواع، وأشكال، وأحابيل مختلة (متسائلا) أليسوا هم من نادى بما أطلقوا عليه جهاد النكاح؟ ترى من سيطلبون غير النساء إذا لم تستجب النساء لهذا النداء؟ ها؟ (ينظر إلى الجمهور باحثا عمن يجيب) يبدو أنكم غير مصدقين أن ثمة جهاد للنكاح.. أنا مثلكم لم اصدق أول الأمر ولكن بعد أن رأيت الوثائق وتبصرت في الوقائع صدقت كل ما قيل عن هذا النوع من الجهاد المشؤوم.. دعوني أريكم هذا الفيديو (يذهب إلى الكمبيوتر ويضرب على الكيبورد فنشاهد على شاشة السكرين أبا واما، في لقطات موثقة على الفيس بوك، وهما يناشدان الجهات كلها من اجل عودة ابنتهم الصغيرة التي غرروا بها لممارسة جهاد النكاح الميمون.. الفيديو بلا صوت).. ولمن لم يكتف منكم بنداء هذين الأبوين سأعرض له اعتراف سيدة اقتحموا بيتها واجبروها على الجهاد في سبيل الله والوطن، وبعد مواقعتها عشرات المرات.. استسلمت للأمر الواقع.. ولكن حين أخبرها أحدهم أنهم سيمارسون معها في الغد ممارسة جماعية تذرّعت بمرضها ليمهلوها وقتا كافيا للاستعداد ففعلوا مؤملين أنفسهم بلذة فريدة وعجيبة.. خلال تلك الفترة القصيرة استعدّت للهرب.. قتلت الحارس وفرّت بعيدا عن ايديهم القذرة (يتوقف قليلاً) كثيراً ما سألت نفسي وأنا أقرأ قصص الحروب لماذا تغتصب النساء فيها؟ أمن أجل إذلال العدو؟ أم من اجل الاعلان عن الفحولة؟ أم هي ردة فعل للكبت، والحرمان، والشبق، والمجون والجنون؟ (يعود الى الضرب على الكيبورد.. نرى ونقرأ ما يكتب):
يا صديقي كان لكل شيء ثمنه.. حتى للدعارة ثمنها ولكن الداعرين ملّوا دفع الأثمان فروّجوا لدعارة الاغتصاب بلا ثمن. وأشدّ ما يرهقني الآن ويشعرني بالخوف المروع أن تغتصب زوجتي التي لم تبال بشيء من اجل الوصول إلى ابننا الوحيد.. أو ان يفرضوا عليها عنوة ذلك الجهاد المخدش للحياء...
(يعود لنفسه) أنا أشك بعودتها من الجحيم الذي زجّت نفسها فيه صاغرة.. قد لا تعود إليّ ثانية لتبدد وحدتي.. وحدتها.. وحدتنا أمام ضمائرنا، وأمام هذا الخراب الذي يسري في الأرواح كسريان النار في الهشيم (إلى الجمهور متذكراً) ها.. نسيت أن اخبركم أنني بعد انتهاء المحاضرة ذهبت لاستلام راتبي الشهري.. كان ذلك عند الساعة الثانية عشر ظهراً.. ثم انصرفت في الواحدة تماما. وكعادتي خرجت من ممر في حديقة الحرم الجامعي طالما اعتقدت أنه آمن تماماً.. مرّت من جانبي أرملة متقدمة في السن.. كانت تروم استلام راتب زوجها التقاعدي.. ترنّحت قليلا.. استند كتفها على كتفي ثم سقطت مغشيا عليها.. اعتقدت أن نوبة أو جلطة داهمتها على نحو مفاجئ ولكن سرعان تكشف لي أنها سقطت ضحية مزحة سمجة من قناص تحت التدريب.. تابعت طريقي ووصلت لباب كلية الطب فرأيت ضحية أخرى، ربما للقناص نفسه، وبركة دم قطرها أكثر من متر مربع فتبيّن لي أن الممر لم يكن آمنا كما اعتقدت، وعند بلوغي الشارع الرئيس كانت ثمة معركة طاحنة (تعرض الصور الوثائقية على شاشة السكرين.. نسمع صوت الرصاص وتكبير طرفي النزاع وكأن الصوت اختلط بصداه يشتد أوار المعركة بين الجيشين يتداخل كل جيش بالآخر حتى لم يعد ممكنا التمييز بينهما، ثم تعقب ذلك كله قصف بالمدافع والأسلحة الثقيلة.. يسقط القاص على الرصيف ويتوقف الفيلم.. بقعة ضوء دائرية تركز عليه) ركضت بكل ما أملك من قوة حتى كاد نفسي ينقطع.. رميت نفسي هنا جثة ساورها الإحساس بالموت، وكادت أن تموت فعلاً لولا أن هدأ القصف، وانقشع الدخان، فنهضت ململما بعضي، ورأيت - ويا لسوء ما رأيت - جثث المقاتلين طافية على بركة قانية من الدم (يعود إلى اللاب توب.. يضرب على الكيبورد ثانية):
لا تستغرب مما أقول يا صديقي فلم تعد الحدود واضحة بين طرفي النزاع خاصة عندما تتكرر بعض الوجوه في المعسكرين.. إنهم يلعبون الدور نفسه فتارة هم الجلاد وتارة هم الضحية.. يئست من الظرف الذي يمرّ به البلد ويئست من العيش فيه ولا احد يتركني لأعيش على طريقتي.. لو اعرف أين غار حراء لتركت الدنيا وذهبت لأعتكف فيه وأبحث عن نقطة نوري الخاصة وعن إيماني الخاص.
(يرن جرس النقال.. يترك شاشة المونيتر.. يتوقف الجرس.. يتمشّى على غير هدى.. يرن جرس النقّال ثانية فيسرع إليه) أهلا حبيبتي.. كيفك (يتوقف عن الكلام مذهولا) من؟.. من معي رجاءً؟ من!.. ماذا تريد!.. زوجتي.. ما بها؟ اتفقت معكم على مبلغ الفدية.. نعم أعرف هذا وسيكون المبلغ جاهزا في الموعد المحدد.. ماذا تعني؟ أية فدية أخرى (بدهشة كبيرة) فدية زوجتي.. ما الذي جرى لكم يا ناس لا يمكن أن أدفع لكم فديتين في آن واحد.. نعم.. نعم.. بأي حق تجبرني على اختيار احدهما للقتل؟ هذا في منتهى الجنون.. عذرا أنا لا أتهمكم بالجنون.. أنه أنا المجنون الذي وافق على الدفع في المرة الأولى.. حسنا .. حسنا (يغلق الخط ويظل الذهول ملازما له.. يتحرك جيئة وذهابا وهو يشعر بالحيرة والارتباك والاضطراب.. يعود إلى اللّاب توب.. ويكون شحنه قد انتهى.. يتناول الآي باد.. يقوم بتشغيله.. يقول كمن يحدث نفسه):
حمدا لله ان أنني شحنت الآي باد قبل أن تطفأ الكهرباء.. لم يكتمل شحنه ولكن ممن الممكن استخدامه بعض الوقت لحين عودة الكهرباء (يكتب فنقرأ على شاشة السكرين):
إنهم وسطاء جهنم؟ دعارة وغسيل أموال وخطف وفدية.. الغوث يا أخي.. ما عدت أعرف كيف أو إلى أين أتجه بتفكيري! أإلى ابني ومحنته؟ أم إلى زوجتي ومصيبتها؟ أم إلى نفسي وتعاستها الدائمة؟
(يتوقف عن كتابة الرسالة) منذ ساعة فقط علمت أن أصغر عمّ لي قتل وهو يمر على أحد شوارع العاصمة.. دفنوه هناك كما يدفن الغرباء لتعذر إرسال جثته إلينا.. تآمر عليه بعض موظفي الدائرة التي كان يعمل فيها هنا ففصل من عمله وقرر العيش هناك في العاصمة وهو الآن يرقد ربما في مقبرة الغرباء، وسيرسلون لي قائمة بتكاليف الدفع الفوري.. الكل هنا يطالبونني بالدفع وأنا لا أطالب إلا بعيش متواضع كريم كأي انسان في هذا العالم الفسيح.. ربما نحن لا نستحق العيش هنا دون مرارة وحزن وفراق (يتوقف متذكرا) آه ما أشدّ وطأة الفراق عليّ بعد أنْ كرّس جهده للنيل من فرحتي المنتظرة بتخرج ولدي الوحيد.. فراق الابن ثم فراق الزوجة.. ثم.. (غاضبا من نفسه) ثم ماذا؟ ألا يكفي ما حصل لنا حتى هذه اللحظة؟ إنني اختنق بين جدران هذا المكان المحاصر بالموت، والمهدد بالقاصفات، أو رصاص القناص الذي يتربص بنا من على أسطح المنازل والعمارات في كل لحظة تمر بنا هنا داخل هذه الزنزانة التي يسمونها بيتا (يذهب الى النافذة. يصرخ) هيه أنت أيها القناص البغيض.. أما تكتفي من لهوك القاتل هذا.. عطشك الرهيب للدم سوف لن يتوقف عند حد معين فماذا تريد؟ حياتي؟ إنها أمامك الآن فخذها.. لم اعد بحاجة إليها.. خذها أيها الملعون.. خذها.. اللعنة عليك وعلى من فتح أمامك سواقي دم الأبرياء وغير الأبرياء (يعود من النافذة) الملعون يجلس في برجه ليقرر من منا يقتل أو لا يقتل (الى جمهور النظارة) في الاسبوع الماضي طرق أحدهم بابنا ففتحت له.. قال (يقلد صوت الطارق) يا استاذ انت لم تدفع لنا شيئا بعد.. قلت من أنتم ولماذا عليّ أن أدفع لكم؟ قال بنبرة شيطانية حاقدة (يقلد صوته) أنا قنّاص الحارة، وعليكم أن تدفعوا لي.. قلت لن ادفع من اجل القتل ليرة واحدة.. غادرني وهو يتمتم: لكنك ستدفع أضعاف اضعاف الليرة الواحدة.. لم اعرف إلى ماذا أو إلى من يلمّح هذا الرجل الموتور، ولم اعرف أن المقصود بتلميحه كان ابنيَ الوحيد.. وأن الاتصال بين القنّاص الذي هنا مستمر مع القناص الذي هناك عبر شبكة قنص هائلة شيّدت على امتداد رقعة هذا البلد المحاصر بالموت (يذهب الى النقّال. يفتح الخط، ويضرب على بعض الأرقام مرة وأخرى) اللعنة على خطوط الاتصال.. لم تعد صالحة للعمل الشريف.. كيف أبدد ما تراكم عليّ من الأسى ولا أحد يهاتفني أو أهاتفه.. حتى أمي لم يعد الاتصال بينها وبيني ممكنا.. يبدو أنني وصلت إلى حالة كارثية أحاول أن اشرك بها أمي لتخفف عني ولو قليلا من عبئي الثقيل.. ولكن ألا يكفي أمي ما حملت من كوارثنا حتى هذا اليوم؟ (يتوقف قليلاً) اليوم هو الجمعة.. ولا بد لها أن تجلس مبكرة لتصلي.. وسأتصل بها بعد الصلاة مباشرة.. (يسمع أصوات تكبير قادمة من الجوامع) يا إلهي ماذا جرى؟ هل تغير وقت الأذان أم ماذا! (يسمع أصوات تكبير تعقبها دعوة للجهاد) إنهم يدعون للجهاد مرة أخرى (يتوقف متذكرا) في الجمعة السابقة وقفوا وراء امام الجامع بحجة حمايته من الكفار والمارقين ولكنهم في حقيقة الأمر هددوه بالموت إن لم يدعو الناس للجهاد معهم، أو تحت رايتهم، أو بإمرتهم. وما كاد الرجل ينتهي حتى انطلقت أصوات الصبايا وهنّ ينشدن للرب الذي هزم الأحزاب كلها، ثم أعقب الإنشادَ قصفٌ بالطائرات، والدبابات، والمدافع الخفيفة والثقيلة، وكأن الحرب قد اعلنت عن نفسها للتحرر من.. من.. من من (غاضبا) من ماذا؟ (يهدأ) والله لم أعد أعرف.. ثم أليس الأجدر أن نحرر أنفسنا من الأمراض التي توطّنت فيها، والعلل التي حلّت عليها، والأحقاد التي عشعشت في دخائلها، وآلاف الأنواع من البكتريا الضارة التي صارت تتطفل عليها؟ أليس الأوْلى أن نتخلّص من كل هذا ليكون لنا ما للبشر جميعا؟ (يتوقف قليلا.. يتحرك نحو حافة المسرح) لقد باتت الأوضاع غريبة جدا وهي تأخذ منحى انتقامي (يسمع صوت طرق على الباب فيجفل) من؟ من هناك؟ (يقترب من الباب) من الطارق؟ (ينتبه لورقة تحشر من تحت الباب) يا الهي ما هذه الورقة ومِنْ مَنْ (يتناول الورقة ويقرأ ما فيها بصوت مسموع وقد كتبت باللهجة العامية):
{مرحبا استاذ.. كيفك.. من شان الفدية يا استاذ الجماعة بيطلبوا منك دفع فدية ثالثة عن روحك ويتمنوا انك فهمت عليهم.. سلام}
(يرفع رأسه عن الورقة وقد أصابه الذهول.. فترة صمت قصيرة.. ينفجر بعدها بالبكاء الشديد.. يتوقف عن البكاء ثم إلى جمهور النظارة) معذرة إن كنت قد جهرت بضعفي أمامكم.. ما العمل؟ ربما قتلوا الآن زوجتي وابني، وربما هم جادون في طلب الفدية أضعاف اضعاف اللّيرة الواحدة كما قال ذلك القناص البغيض.. في البداية ابني الوحيد، ثم زوجتي، ثم أنا.. ما الذي تبقى لنا لنعيش؟ (ساخراً) هه نعيش؟! وهل نحن أحياء لنعيش.. وكيف يمكننا العيش وسط الضباع، والذئاب، والذباب، وشتى أنواع البكتريا البشرية الزاحفة الينا لتسد علينا ما تركته لنا الظروف من منافذ للعيش.. ثم هل يظن هؤلاء الاوغاد أنني قادر على الدفع كلما فرضوا عليّ فدية جديدة! ولماذا أنا بالذات دون غيري؟ (لنفسه) مهلاً.. توقف.. من أدراك أنهم فرضوا عليك الفدية دون غيرك؟ ربما فرضوها على شقيقك أيضا.. وأمك ألا يمكن أن يكونوا قد فرضوا عليها الفدية هي الأخرى؟ (إلى الجمهور) لماذا يفرضون علينا كل هذا وهم العارفون أننا لا نستطيع سداد فدية واحدة؟ (يتحدّث مع الفراغ) أغثني يا أخي.. يا من تفصله عني آلاف الأميال الأرضية والبحرية.. أغثني قبل أن أصاب بالجنون (يتذكر رسالته التي لم يكملها بعد فيذهب الى الكمبيوتر ويبدأ بإكمال الرسالة):
أخي العزيز.. لقد صار كلّ شيء واضحاً الآن.. إنهم يريدون موتنا الجماعي.. يريدون اطفاء الجذوة التي لا تزال تتقد وتتوهج في ضمائرنا خشية أن تتطاير شرارة منها فتمحقهم محقا.. إنهم يتربصون بنا في كل مكان: في البيت، وفي الشارع، وفي الحارة، وحتى في الحرم الجامعي ولا خلاص لنا بعد أن حاكوا حولنا شباك القنص العنكبوتية الهائلة.. نحن عالقون في هذه الشباك يا صديقي وما من سبيل للفرار فهل سنظل هكذا تحت رحمة القناصين الى أجل غير مسمى؟
نسمع صوت انفجار هائل.. تطفأ الأضواء.. نسمع من خلال الظلام صوت تعثر الكاتب وارتطامه بقطع الديكور وهو يقول بإصرار):
لا بد أن نجد شمعة أخرى فلا يعقل أن نستسلم لظلام طال كل مفاصل حياتنا بحلكته القاتلة.. آ.. تذكرت.. الآي باد لا يزال محتفظا ببعض الشحن (يتناول الآي باد.. يفتحه وعلى هدي توهج شاشته يبدأ الكتابة مجدداً.. تخترق رصاصة القناص نافذة الغرفة وتمر عبره إلى شاشة الآي باد فتحطمها.. يجمد القاص في محله.. يستمر توقفه عن الحركة مع تصاعد الموسيقى بينما الستار يسدل عليه تدريجيا.
انتهت
أديلايد نهاية 2013
د0 صبحي الخزعلي
2014-01-11
مبروك لك يا اصاحبي هذا التوجه في كتابة نص كهذا ..لقد قرات النص اكثر من مرة لكني لم ارى منه غير الموت المجاني. الخوف. الرعب. الاستسلام0 عدم وجود الثورية فيه0 والتي تتصف انت فيها 00 بل الاستهانة والاستكانة لما يحدث في مجتمع قد استسلم تماماً للموت وللخوف واطفاءت اضواءه التي يفترض ان تنير بلدي الذبيح00 فشعرت ها نحن في العراق0 او سوريا0 او في ليبيا0 او في بلد اسودة وجوه اهاليه وحولتهم الى منفذي لقرارت الخذلان والهزيمة والتي لم اعرفها فيك 00 كنت مازلت يا صاحبي ثورياً بطلاً خططت على الافق جناح الانتصار0 ومحقت الظلم والعار00 كنت اتلوى وانا اقرا مسرحيتك يا صاحبي اما ان لنا ان نترجل و ها قد يلفنا الموت المجاني هذا السواد الابدي هذه النفوس اليائسة الميتة كيف كتبتها يا الله عليك فقد ارعبتني يا سيدي وقد اهنتني يا صاحبي ففينا مثلك بطلاً شجعاً قاوم الطغيان وقاوم الموت وانتصر عليه كما فعل سلام عادل حينما قطع ارباً اربا والحسين وانت ولم ارى نوراً في نهاية النفق في مسرحيتك غير اطفاء بقية الضوء في الهايد باد 00 قتلتني في هذه المسرحية عند قرائي في المرة الاولى قلت ان الرجل كتب لما يدور في مجتمعنا البائس0 وفي الثانية قلت00 انا البائس هذا انا او المراة كل نساء بلادي المذبوحات من الوريد الى الوريد لكن الا تعلم بان (ادورد) صرخت في حضرت رئيس الوزراء نوري المالكي هذا ظلم هذا ظلم وطالبت بالمقاومة فاين المراة منها ورجل مقاتل تمسك بالارهابي كي يفجر نفسه وفجرها معه ؟ ياصاحبي انا لا انقد نصك الكبير هذا بل اكتب ما اشعر فيه من روحي الذبيحة واعذرني اخوك د0 صبحي الخزعلي