مذكرات كرسي مونودراما:
خاص ألف
2013-02-17
تفتح الستارة مع الموسيقى.. نرى على خشبة المسرح عدداً من الكراسي المرتبة بشكل هرمي أو على هيئة زقورة.. تضيق دائرة الضوء حد بقاء الكرسي الكبير الذي يعلو بقية الكراسي ويختلف عنها من حيث حجمه ولونه وزخرفته الرئاسية داخل حدودها..نشاهد شخصاًما أو هيئة لشخص ما غير واضحة ملامحه وهو يغط في نوم عميق..تتوزع خشبة المسرح تماثيل من العصور المختلفة لملوك وأباطرة سومريين وفراعنة وإغريق وعدد من تماثيل الملوك والزعماء المعاصرين.. تنتشر على خلفية المسرح الداكنة الزرقة بعض النجوم وثمة شهب تمر بحركة خاطفة ملفتة للنظر.. تتجمع غيوم متحركة بطريقة غرائبية موحية بعوالم غير محددة بحدود وليس لها إلا بعض الشبه بما هو أرضي.. تنسحب الغيوم إلى نقطة في أعلى الخلفية وكأنها تحشر نفسها في خرم إبرة.. تبدو السماء صافية، والنجوم متلألئة.. تستمر الموسيقى مع يقظة الشخص تدريجياً.. يرفع رأسهإلى الأعلى ليتبين حدود السماء.. يخفض رأسه ليرىالتماثيل والكراسي.. يتوقف إذ يرى الكرسي الكبير.. يدور حوله بطريقة استعراضية.. يجلس عليه بارتياح.. يحاول الوقوف ثانية لكنه لا يستطيع.. يتحرك قليلا فيجد أن الكرسي ملتصق به.. يتحرك موضعيا حول نفسه نصف دورة وعندما يستدير إلى الجهة الثانية ينتزع نفسه بقوة.. يقف.. ينظر بدهشة إلى الشخص الذي ظل جالسا في محله لا يريم وكأنه انفصل عنه.. يهبط إلى الأسفل.. يتقدم من جمهور النظارة.. يقف عند حافة المسرح.. يوجه كلامه إلى الجمهور:
هذا أنا (يكرر نقل الإشارة بين نفسه والكرسي الكبير) منذ آلاف السنين وأنا مبتل بهذه الكراسي (يشير إلى الكراسي).. إنها تسبب صداعا في رأسي، وعطبا في ذاكرتي فأنسى ما أريد استرجاعه بالضبط (يتوقف صامتا ثم) يصعب عليَّ أحيانا أن أتذكرمتى استخدمت أول مرة مع أنني أحفظ تاريخي بشكل تفصيلي.. وأعرف كما يعرف كل واحد منكم نفسه أن ليس لي من يرثني فأنا الكرسي الوحيد وكل هذه (يشير إلى الكراسي) نماذج تشبهني ولا ترتبط بسلالتي الجينية الفريدة..(يتوقف متذكرا)..عندما صنعني الكهنة ـــ قبل توحيد دويلات المدن ـــ في أريدو استخدموا نوعا غريبا من خشب الأبنوس.. جاءوا به من غابة قصية لا أحد يعرف عنها أو عن موقعها أي شيء.. قطعوا ذلك الخشب، ونقعوه بإكسيرلم يعرف أحد من قبل سره الدفين.. وبعد ثلاثين يوما وضع كبير الكهنة مرتسما لهيكلي، وأمرنجار المعبدبتنفيذه من دون إضافات فنية أو مهنية.. كان كبير الكهنة يشرف على العمل بشكل يومي، ويسخِّر أمهر العمال لترصيعي بالذهب الخالص، واللازورد، والفيروز.. وكان كلما فرغ النجار من عمله ينفرد بي، ويسمعني كلاما غير مفهوم على الإطلاق.. حسبت أول الأمر انه رجل مجنون، أو ساحر، أو واحد من ذرية الشياطين، ولكنني اكتشفت ذات ليلة كان القمر فيها بدراً أنه يصب في أذني بعضا من شروره الخارقة.. وعرفت أيضا أنه برمجني لأنقل سر تعويذته أوشفرتهأو لأقل فايروساته السحرية لكل من سيستوي على هيكلي الضخم فأبتليه بما لا يرغب الشفاء منهإلى أبد الآبدين.. (يغير في طريقة إلقائه) : أظن أنكم عرفتم لماذا برمجني بهذه الطريقة؟أقصد فَيْرَسَني أو.. أو نقعني بفيروساترهيبة (يعود إلى حاله الأول) على أية حال.. بعد انتهاء النجار مني صرت جاهزاً للعمل فنقلني الكهنة بأناة إلى بلاط الأميربينما قاد كبير الكهنة الأميرإلي.. أجلسه في حضني فشعرت بدفء عجيزته، وشممت رائحةً لولا البخور الذي خفف منها لتقيأت على نفسي.. قال كبير الكهنة وهو يرفع صولجانه إلى الأعلى:
(يقلد صوت وحركات الكاهن) اليوم جئت لأنقل لكم ما أنبأني به رب الأرباب، وأوحى به إلي ملك الملائكة.. لقد شاء الرب أن تنزل الملوكية من السماء على هذه الأرض المقدسة.. وأمرني أن أصنع للأمير (اور زبابا)عرشاً دونه كل عروش الدنيا، وأجلسه حيث ينبغي، وأن أكون له سنداً وعوناً..قال الرب: أنت رسولي لمن سيكون لي ظلاعلى الأرض..(يستدير إلى الملك ويضع صولجانه على كتفه) باسمي أعلنه ملكاًعلى مدينة أريدو، وليقدم له شعب أريدو فروض الطاعة والولاء ( يلتفت إلى رجالات البلاط)أيها الأريدويون لقد منح الرب (أور زبابا) قداسة لم تكن لأحد من قبل، واصطفاه ليكون ملكا علينا (يتقدم من الأمير.. يرفع صولجانه ويضعه على كتفه) باسم ربِّ الأرباب،وبمشيئته المقدسة أعلنك ملكا على أريدو فافعل ما يأمرك بهالربُّ لتُفتح أمامك طرق المجد والعظمة.. وأرفق بشعبك فانه يدك الضاربة في كل دويلات المدن.
(يعود لشخصيته) منذ اللحظة الأولى التي جلس فيها أور زبابا كملك لأريدو بحضني شعر باسترخاء كبير، وحب عارم لي وكأنه يجلس بحضن محظية لدنة من محظياته الفاتنات المثيرات اللائي يؤججن نار الشهوة فيه كل ليلة من لياليه الحمراء الملاح.. يلمسن جسده برقة وخبرة محفزات فيه شهوة شبقية تضاعف رغبته بمضاجعتي..(يضحك بعض المشاهدين ساخراً) شيء مضحك ها؟ (بالتأكيد) لكنه حقيقي.. صدقوني أنها الحقيقة كاملة بلا تزويق وبلا إضافات أو مبالغات.. طال جلوسه عليَّ فتململ قليلاً.. رفع ردفه الأيسر إلى الأعلى، وسمح لبعض الغازات بالمغادرة فأصابني قرف شديد، ورغبة عارمة في ركل مؤخرته، وقذفه بعيداً عني لولا أن كبير الكهنة خزرني بنظرة شزراء مخيفة أجبرتني على التوقف حالاً.. أوقفت سيل القرف والغضب الذي انتابني مجبراً، وتحملت غازات الملك على مضض، ولم أكن أعرف أن الملوك تفوح منهم كل هذه الكمية من الغازات المفرطة فور جلوسهم على العرش.. الغريب الغريب أن الكاهن يحب هذه الغازات، ويعتبرها زكية بما يكفي لتكون رائحته المفضلة (يسمع تعليقاً وهمياً صادراً من جمهور النظارة) ها..ماذا قلت؟.. أقلت لماذا؟ حسنا دعني أبح لك بهذا السر.. مرة بعد انتهاء كبير الكهنة من تلاوة تعاويذه الغامضة قال لنفسه بصوت مسموع:
(يقلد الكاهن) متى سيأتي اليوم الذي أشم فيه غازات هذه التعويذة وهي تفوح من جسد ذلك المأفون.
ولم أعرف حينها أنه كان يقصد الملك.. لم يستطع أحد القول أن رائحة الملك تشبه الجيفة المنتنة ولكن حدث ذات جلسة أراد الملك الاحتفاء فيها بالطفولة أن اقترب منه ابن وزيره الأول فأراد الملك تقبيله إلا أن الصغير هرب بعيدا وهو يضغط على منخريه بالسبابة والإبهام.. وحين سأله الملك لماذا تهرب يا ابن وزيري الأول أجابه ببراءة: ألا تعرف أن رائحتك عطنة وكريهة أيها الملك؟.. ثارت ثائرة الملك، وغضب غضباً شديداً،واستل سيفه، وكاد يهجم على الأطفال ويقطع رؤوسهم رأساً فرأسا إلا أن الكاهن تدخل بسرعة قائلا له:
(يقلد شخصية الكاهن) صبراً جميلا أيها الملك العظيم ما حدث هو ما أرادته الآلهة العظام بالضبط.. لقد اختار إله الحرب قربانه الوديع.. بدمه ستنفتح أمامك بوابات دويلات المدن كلها،وسيكون حكمك ممتدا لجميع الآفاق.
(يعود لوضعه السابق) عقدت الدهشة لساني، واحترت كيف تمكن الكاهن من ابتداع قربان الآلهة وكأنه كان يعرف ما سيحدث بالضبط.. كادت النبوءة أن تتحقق لولا المؤامرة التي حاك خيوطها الوزير الأول،وأطاحت برأس أور زبابا.. استطاع الوزير الأول بمكره ودهائه أن يحقق الانتقام لولده الوحيد الذي قدموه قربانا لإله الحرب، وأراد تنصيب نفسه ملكا جديدا إلا أن سرجون ـــ وهو ابن واحدة من نساء المعبد ولدته ووضعته على سفط ورمته في نهر الفرات فالتقطه بستاني ورباه في بيته كما لو أنه ابنه الوحيد ولما رأت الإلهة عشتار ذلك منحته بركتها وحبها فارتقى في الوظائف، وصار يدا ضاربة بيد الملك ـــ خرج وكله إرادة وتصميم للقضاء على الوزير الأول.. ولم يستطع أحد من فرسان الوزير صد هجومه الساحق فانقض على الوزير الأول، وبحركة خاطفة أطاح برأسه على الأرض فتدحرجت الرأس إلى أسفل دكة العرش.. وإذ ذاك.. برز كبير الكهنة وخاطب الجمع قائلاً:
(يقلد صوت الكاهن وحركاته) يا أبناء أريدو المقدسة.. أراد الوزير الأول أن يتلاعب بمشيئة الآلهة العظام، وأن ينصب نفسه ملكا عليكم وقد نسي أن المُلْكَ للآلهة دون البشر وأنها هي التي تصطفي من البشر رسلا وملوكاً.. وها قد رأيتم بأمهات أعينكم كيف أنها أرسلت ولدنا سرجون لينتقم لها بسيفه البتار من الخائن للعرش.. وليكون ملكا عادلا على يديه سيتم بمشيئة الآلهة العظام فتح كل دويلات المدن.. (يستدير يواجه سرجون الذي ما تزال الدهشة بادية عليه.. يرفع صولجانه ويضعه على كتف سرجون) باسم الرب، وجميع الآلهة العظام أعلنك ملكاً على أريدو.
(يعود لشخصيته السابقة) قدم له الجمع فروض الطاعة بسذاجة مفرطة.. جلس عليَّ فشعر باسترخاء تام.. والغريب في الأمر أنه كسابقه خرجت منه حال جلوسه عليَّ غازات رهيبة خنقتني، وجعلتني أشد رغبة في القيء على لحيته المقوسةلكنني لم أقو على فعل ذلك ففي داخلي يسري إكسير كبير الكهنة الذي لا حد لنفوذه عليَّ.. لا أطيل عليكم.. انتقل الفيروس للملك الجديد فأصيب بما لا يرغب الشفاء منه مدى الحياة..بعد ذلك بوقت قصير تناهى لمسمعي أن كل أمير في دويلات المدن صنع له ما يشبهني تماماً(يتحرك باتجاه الكراسي يقف عند أحدها) لكنها أصغر حجما، وأقل ذكاءً مني..هذا الذي ترونه إلىجانبي مثلاصنعه أمير (حسونة) وهذا الآخر أمر بصنعه أمير (حلف) وهذا صنعه أمير (الوركاء) وذاك صنعه أمير(جمدة نصر) والذي بعده تكفل بصنعه أمير (العبيد) وذلك الأخير صنعه أمير (سامراء).. لقد كان لي مع كل واحد من هؤلاء (يشير إلى الكراسي) قصة فريدة.. لا أريد تدويخكم بها وفقط أقول أنني شهدت مصرع كل واحد منهم على انفراد..كان سرجون رحيما بهم فما أن يدخل دويلة من تلك الدويلات حتى يطلب من أميرها الاستسلام.. والغريب أن أي أحد منهم لم يرغب في تسليم نفسه لا لأنه مؤمن بقضية شعبه ووطنه بل لأنه لم يرد مفارقة كرسيه حتى النهاية.. تصوروا لقد دخل عليهم سرجون، وقتلهم واحدا واحدا وهم يجلسون على عروشهم الزائلة وأعلن عن ولادة إمبراطوريتهالتي دام حكمه لها زهاء خمس وخمسين عاما بالكمال والتمام.. لقد سار كل شيء على ما يرام.. أعني قام سرجون بخطوات هائلة لتعزيز إمبراطوريته.. بنى وشيَّد القصور الفارهة، والمعابد الضخمة،وأهتم بالفنون والآداب، وأجزل العطاء على الشعراء، ووضع نظاما فولاذيا للجيش، ومنح الناس فسحة من الحرية، ولكن شيئا ما حدث في الإمبراطورية عكر صفو حياته كملك.
(إظلام على خشبة المسرح خلاله تتبدل قطع الديكور والسينوغرافيا..شاشة سينمائية تعرض مظاهرة للأكديين يطالبون بحقوقهم كمواطنين: الحرية، الديمقراطية، السلام، والعيش بأمان.. تغص الشاشة بالجماهير الغاضبة.. يظهر أفراد الجند الأكديين وهم ينقضون على التظاهرة ضربا بالهراوات، وكل ما تيسر لهم من أدوات القمع.. تسيل الدماء، ويسقط بعض المتظاهرين صرعى.. يسحل بعض الجنود الضحايا.. تطفأ الشاشة ويظلم المسرح مع تصاعد موسيقى حزينة.. ملاحظة: يمكن للمخرج أن يستبدل المشهد السينمائي بمشهد صامت يؤديه الممثلون على خشبة المسرح مباشرة)
أرأيتم كيف تعامل الملك مع أبناء شعبه الأكدي؟ لقد كممَ الأفواه المطالبة بحقوقها المشروعة.. طبعا لم يغضب من هذه الحقوق وكان يمكن أن يحققها جميعا للأكديين ولكن مطلبا واحدا هو الذي استفزه وأثار غضبه ونقمته على الناس: المطالبة بتبديل الحكم الاستبدادي بحكم ديمقراطي.. في ذلك المساء جاء وجلس عليَّ وهو بكامل لباسه الحربي.. ومن دون أن يدري أشبعني ضربا بقبضتيه الموجعتين.. لقد أفرغ كل غضبه وغيظه فيَّ وأنا أئن تحته كامرأة سبية.. ثم وقف واستدار إلي وقال بغضب شديد:
(يقلد شخصية سرجون) هيه أنت أيها الكرسي اعلم أن لا أحد يستحق الجلوس عليك غير سرجون.. سرجون العظيم ذي القوة، والحنكة، والحكمة، والقداسة.. سرجون فقط.. وليدفن الآخرون أنفسهم أحياء في مزبلة المدينة.. هل صنعت المجد والعظمة لأمنحهما للرعاع؟ هل شيدت هذه الإمبراطورية العظيمة ليحكمها غيري؟ هل قضيت على دويلات المدن من أجل عيون بضعة أوغاد؟ لا .. ليس مثلي من يستسلم لثلة حقيرة خائنة منفذة لمؤامرة حيكت في الظلام ويستحقون عليها الموت.. الموت.
(يعود لشخصيته)ظل سرجون مهموما، قلقا لم يهدأ له بال وهو يفكر كل ليلة بما يمكن أن يكون ضعفا أو ثغرة في الزمرة التي تسهر على راحته حتى وافاه الأجل في العام الخامس والخمسين لحكمه الطويل، أما نرام سين فقد ورث عن سرجون قلقه اليومي، وخوفه الدائم من خيانة محتملة فضاعف رجال حمايته، وزاد من عدد الجند حتى صار أضعاف أضعاف ما كانوا عليه أيام سرجون، وعزز دعائم السور العظيم الذي يحيط بقصره الفخم الكبير.. واستخدم نظاما صارما في التعامل مع خونة التاج المقدس فقتل، وشنق، وأزهق، أرواحا بريئة ثم ابتكر طريقة القتل الجماعي، وراح يلتذ لمرأى الضحايا وهم يتساقطون على مذابحه الباذخة حتى أن المؤرخين أشادوا بقوة دولته، وحنكة قيادته، وسطوته، ونفوذه الذي دونه نفوذ الملوك الأكديين جميعاً..`ولكنهم لم يعرفوا على الرغم من هذا كله انه كان مصاباًبوسواس قهري، وأستسلم جراءه بعد أربعين عاما من حكمه للموت المحتوم.أتذكر أنه في لحظات ضعفه ـــ وللملوك لحظات ضعف كباقي البشر ـــكان يأتي إلي مغازلا وكأنني جارية من جواريه، أو محظية من محظياته، أو غلام من غلمانه المؤنثينليمارس على مرأى مني شذوذه المقرف..فان ارتوى جلس عليَّ مسترخيا وقد زال عنه قلقه العجيب.. قال لي مرة بعد أنشقَّ بسيفه البتار أجساد مائة رأس من البشر:
(يقلد شخصية نرام سين) أترى كم أنت سافل ومنحط يا كرسيي الحبيب! جعلتني أهيم بك، وبمفاتنك التي دونها مفاتن الغانيات والجواري والغلمان.. بل جعلتني اشتهيك كأنثى خارجة لتوها من الماء.
(يعود لشخصيته) ثم أراد أن..أن.. أن.. اعذروني يمنعني حيائي من قول أي شيء عن رغبته الجنونية تلك.. بعدأن زال قلقه نام نوما عميقا فتسلل ولده إلى البلاط.. اقترب مني.. لمسني.. تحسس عجزتي باشتهاء فذهلت.. هل يمكن أن يحدث هذا في قصر له من الهيبة والسطوة، والشهرة،والرفعة، وكمال الخلق! طبعا أنتم لا تعرفون هذا لأنهم لا يظهرون لكم إلا ما يدَّعون فتصدِّقون.. تجاهلوا أحوال العامة، واستمروا بالصرف على الجيش والملذات حتى غرقوا فيها، ولم يعد أحد منهم يهتم لحال الناس الذينأرهقهم الفقر، وأذلهم الجند، وأتعبهم حمل الضرائب التي لم تتوقف عند حد معين فضعفت الإمبراطورية، ووهنت قواها بعد أن عمَّ فيها الفساد، والأحقاد.. لقد بدأت معاناتي الجديدة في تلك الفترة من تاريخ أكد بعد أن هاجمها الكوتيون وهم أقوام جبليون لا يؤمنون بالآلهة العظام، وهم الذين وصفتهم النصوص المسمارية بـ(أعداء الآلهة).يظلم المسرح.
(نشاهد على الشاشة السينمية عرضاً لهجوم الكوتيين على قصر الملك، ودخولهم إلى البلاط، وتحطيمهم كل شيء عدا كرسي العرش.. يمكن للمخرج الاستغناء عن السينما بالتمثيل الدراماتيكي الصامت)
إنها المرة الأولى التي أسير في موكب المهزومين مع الغنائم والسبايا.. كان الأسرى يجرون بالسلاسل، ويضربون بأسواط ثلة من الجند الكوتيين..وكان الجنديتحرشون بالسبيات ماشاء لهم التحرش الجنسي أو المعنوي.. أما أنا فقد حملونيبمهابةإلى موقعي الجديد على عربة مزينة بالذهب الخالص..وكان لزاما على العامة تقديمالولاءوالقرابين تحت قوائمي الذهبية.. كان الكوتيون ينشدونأناشيدهم الجبلية، ويهزون الأرداف وهم يرونني محمولا بشموخ على تلك العربة.. يهتفون، ويصفقون، ويلوحون بسيوفهم التي ما تزال تقطر دما.. يقيمون الولائم والكرنفالات.. يمارسون طقوس النصر ويبيحون للعساكر فعل ما يرغبون فيطلقون شهواتهم الجامحة بلا حدود.. يضعونني على مكان مرتفع ليراني الجميع.. ثم يطبق الصمت على المكان إذ تعلن أصوات الأبواق عن وصول موكب الملك.. ينحني الجميع بمهابة حتى يجلس الملك وورثته عليَّ مائة عام مظلمة من تاريخ بلاد ما بين النهرين.. لقد ذاق شعب سومر وأكد صنوف العذابات والمعانات وكنت الوحيد الذي يحتفى بي هنا وسط ظلم وظلام الكوتيين أو هناك حيث صنعت ومنحت الحياة أو في أية بقعة يختارها جليسيَّ الجديد.. مرة سيطر قاطعوا الطريق عليَّ فاعتقدت أنهم سيرمونني نهبا للنار ولكنهم كغيرهم مارسو طقوس مراسيمهم في العراء ثم جاء زعيمهم ليجلس عليَّ وسط أهازيجهم الغريبة وهكذا صرت أتنقلمعهم من ارض إلى أخرى محمولا على عربة مطهمة خيولها، ومزخرفة ألواحهابالفيروز واللازورد كانوا قد غنموها في إحدى غاراتهم الشرسة حتى صادفوا من تصدى لهم وأبادهم عن بكرة أبيهم فأعدتإلى حياة المدينة مرة أخرى.. واستقر بي الحال في مدينة الوركاء.. وجلس عليَّ هذه المرة الأمير أوتو حيكال الذي لقب نفسه ملك سومر وأكد بعد أن قضى على الكوتيين قضاءً مبرما.. قلت في نفسي ربما سيطول بي المقام هنا ولكني وجدت نفسي انتقل إلى مدينة كانوا يسمونها (أور) ربما نسبة لملكها أور نمو الذي كانت لي معه هذه القصة:
بعدتوسعالفتوحات، وتحول أور إلى امبراطوية قوية وصلت حدودها إلى الشرق الأدنى شعر الملك بارتياح كبير لأن السومريين أحبوه حبا جما، وقدسوه كما لو أنه كبير الآلهة، ولم يعد للجيش ما يقوم به سوى إشباع ملذاته التي تجاوزت حدود المعقول والمقبول حتى ضاق الناس ذرعا (يتوقف قليلاً) في تلك الفترة كان نجل الملك قد شب عن الطوق، وفتن بالسومريات أيما فتنة، وراح يتخذ منهن جليسات، ومحظيات شئن ذلك أم أبين.. فلم يترك عذراء لعذرتها، ولا زوجة لزوجها، ولا غانية لحالها حتى صار الناس يجبرون البنات، والزوجات على ملازمة بيوتهن خوفا من توله نجل الملك بهن وأخذهن إلى حيث يشاء فان شبع منهن قتلهن ورمى جثثهن في نهر الفرات أو ــ وهذا ما يحصل نادرا ــ يطلق سراحهن ليعدن إلى بيوتهن منكسرات.. اعتقد الناس أن هذا كله يحدث من دون علم الملك، وان عيونه الاستخباراتية المبثوثة في كل مكان تغض الطرف عن أفعال نجله المشينة.. ولكن ما حدث لأحد قادة الملك هو الذي وضع النقاط على الحروف.. فبعد أن جنَّ نجل الملك شهوة ورغبة في ابنة القائد أمر من يحضرها إليه ففعل بها ما فعل ثم تركها لحال سبيلها فأخبرت أباها بما حصل لها من نجل الملك وزبانيته فثارت ثائرته وأزبدوأرعد أمام قصر نجل الملك إلا أن نجل الملك كان ماكرا فأمر رجاله بتجريده من السلاح وإدخاله عليه فأذله أيما مذلة.. خرج القائد وقدم شكواه للملك فأرسل في طلب نجله.. مثل النجل بين يديه، وأمر القائد أن يوجه لنجله الاهانة بالطريقة التي وجهها له فخجل القائد من ملكه وقال بانكسار قد عفوت عنه بحضرتك أيها الملك المعظم فأكرم الملك القائد وأجزل له العطاء والهدايا، وجعله على رأس جيشه الإمبراطوري فسكت القائد حتى يومه الأخير.. في تلك الليلة السوداء عاد الملك غاضبا على غير عادته وراح يؤنب نفسه كثيرا، ويلعن اليوم الذي جلس فيه عليَّ ثم وجه إلي العديد من الركلات.. كسر ثلاث من قوائمي، وخلف الكثير من الجراح العميقة في بدني وإذ هدأت فورة غضبه ورآني بهيئتي المدمرة راح يبكي مثل امرأة ثكلى، ويعتذر مني ويرثي لحالي.. قال بنبرة أسف:
(يقلد الملك) لا عليك يا كرسيي الحبيب سأعيد ترميمك، وسأجعل فريقا من الحكماء يسهر على راحتك، وعشرات من الخدم يتعاقبون على مسحك وتنظيفك.. وسأخصص بعضا من أبطال الجند لحملك إلى فناء القصر كلما احتجت لمرأى الزهور.
(يعود لشخصيته) لم استغرب معاملته لي كما لو كنت أثيرته من النساء.. عندما استكملوا تطبيبي وأعادوا إلي هيبتي جاء الملك وجلس عليِّ باسترخاء ومحبة.. أمر حاجبه إدخال من له شكوى فتعاقب المشتكون عليه ولم يخرج أحد منهم إلا ومنحه الملك كل ما جاء من اجله..كانت آخر المشتكين امرأة غاية في الجمال.. اقتربت من الملك وقدمت شكواها فاستجاب لكل طلباتها ثم قال بمعسول الكلام:
(يقلد شخصية الملك) من أين جئت أيتها الفاتنة؟ وكيف لم أرَ كل هذا الجمال في بلادي! جمالك الملكي يذهلني، ويجعلني التمس منك وصالاً.. هل ترين.. أنا الملك بعظمته وجبروته يلتمس وصالك أيتها السومرية.. دعيني أتمتع بما لا تملكه أية واحدة من نساء قصري الإمبراطوري.. هات يديك الحانيتين.. دعيني أتذوق سحر أصابعك، وأحس بحرارة صدرك لاحترق بدفء أنفاسك الزكية.. هذا الجسد النوراني لا يليق إلا بمن هو مثلي فهل كان بعلك أفضل مني حتى تتمنعي؟ تعالي.. تعالي.. ادخلي في روحي.. عانقيني بأشد ما يكون العناق.. نعم هكذا .. هكذا.. هكذا يا صغيرتي.. دعيني أذوب في شهوة لا أفيق منها.. دع لهاثي يحرر كل آهة كامنة في دخيلتي.. إنني أذوب فيك.. أغرق في أعماقك كأنثى لا قرار لأعماقها السحيقة.. حسنا.. حسنا.. حسنا.. آآآآآآآه ما ألذك يا امرأة (صمت) اذهبي راشدة وإياك إياك أن تحبلي مني فالدم الذي يسري في عروقك ليس دما ملكيا نبيلاً.. هل فهمتي؟ أخرجي واحصلي على ما جئت من اجله.. وداعاً.
(يعود لشخصيته) بعد خروجها من بلاط الملك توجهت إلى الشرفة مباشرة، ثم سمع الملك صرخة مدوية (تهز أرجاء المسرح صرختها) لقد قذفت بنفسها من شرفة الملك إلى الهاوية.. في اليوم الثاني تناقل الناس أن متسللة حاولت قتل الملك ولما اكتشف الحرس الملكي أمرها قذفت بنفسها من النافذة.. فاحتفل الناس بسلامة الملك ثلاثة أيام بلياليها.. استمر نقلي من بلاط إلى بلاط، واستمر جلوس الملوك عليَّ ملكاً بعد ملك، ولم أجد فرقا كبيرا بين واحد وآخر عندما يتعلق الأمر بالاستئثار بي ككرسي له من السحر ما له من العظمة.. مررت بكل السلالات، والامبراطوربات، والأمراء، والملوك، والسلاطين.. وفي أوروك ذات الأسوار استأثر باهتمامي خامس ملوكها گلگامش الذي كثرت مظالمه للناس فتوجهوا بالدعاء إلىالآلهة العظام علها تنجيهم مما لحق بهم من المظالم.. لكن الآلهة لم تستطع فعل شيء، واكتفت بإرسال الإلهة عشتار لإغوائه لكنها فشلت فانهال گلگامش عليها سباً، وشتماً، وفضحا لكل ما ارتكبته في مغامراتها العشقية الماجنة.. وعندما يأس الناس من الآلهة راحوا يشتمونها كما شتمها گلگامش.. واستمروا بشتمها حتى هذه اللحظة.. عرفت من أحد المؤرخين أن العراقيين هم الشعب الوحيد الذي يسب الآلهة لكنني لم أحقد عليهم أبداً فلقد عانوا ما عانوا من النكبات، والمكابدات، والمظالم ما لم يعان منه بقية البشر.. انتهى بي الحال إلى مدينة السلام وهذا هو ما يطلقونه عليها.. شعرت بارتياح كبير واسترخاء تام.. فناسها مثقفون، وأبناؤها كادحون، وعلماؤها مجتهدون، وساستها مولعون بالفن، والإعمار، والجمال، والأدب الرفيع.. وفي قصورها الباذخة تقام السهرات، والاحتفالات، واحتساء الخمور الراقية، والرقص على أنغام العود والدرابك والدفوف.. كانت المدينة عامرة بالمدارس والمكتبات وبيوت العلم والعلماء حتى اعتقدت أنها مدينة السلام فعلاً وقولاً.. وكبقية السلالات فأن حكامها أغرقوا أنفسهم في الملذات ولم يلتفتوا لشؤون البلاد والعباد فأعاد التاريخ نفسه أو بعضا من نفسه، ومرت مدينة السلام بظلام، وظلمة استمرت دهوراً.. لم يهاجمها الكوتيون طبعا بل جنس من البشر الضاري الذين لا يبقون في المدن التي يغزوها معلما حضاريا إلا ودمروه تدميرا.. إغرورقت عيناي بالدموع وأنا أرى خزائن مخطوطاتها الهائلة ترمى بمياه دجلة..أسَّرني المغول التتار، وعاثوا بي فسادا.. ومع أنني كنت مدللا بينهم كوني رمزا من رموز انتصاراتهم الهمجية الكبيرةإلا أنني شعرت بالقرف من أساليب حياتهم البربرية.
شاء القدر أن أعود إلى مدينة السلام مرة أخرى.. فدهشت مما رأيت.. رأيت أسلحة فتاكة غريبة لم يصنعها إنسان من قبل.. وأخرى تحلق في الفضاء وكأنها الجن لكنها تمطر الأرض بوابل من.. من.. من.. من نار.. احترقت مدينة السلام، وهرب أهلها طلبا للنجاة من السعير الذي صبته على رؤوسهم تلك الأجسام الجنية الطائرة.. ولاذ بعضهم بمدينة أشنونا، والعجيب العجيب أن ساستها ما إن انطفأت نارها، وبرد سعيرها حتى بدأوا يصافحون غزاتها وكأن شيئا لم يكن على الإطلاق.. إتفقوا على استلام مقاليد الحكم فاستبشر بعض الخلق خيرا.. واعتقدتُ أنهم لكثرتهم سوف ينسون أمري فأهمل في ركن ما من أركان حصن الاخيضر أو ينتهي بي الحال في متحف المدينة ولكن ما أن استتبت الأمور قليلا حتى استأثر بي واحد من أولئك الأدعياء.. جلس عليَّ بخوف وقلق أول الأمر لكنه سرعان ما شعر باسترخاء وراحة كبيرتين.. وعلى الرغم من الزمن الطويل الذي مر بي منذ فجر السلالات وحتى يومنا هذا خرجت منه الغازات نفسها فأغلقت فمي وانفي وكل فتحة في جسدي ولكن على الرغم مني اخترقت تلك الغازات كل مسامة من مسامات جسمي.. كنت اسمع كل ليلة أصوات مفرقعات نارية خارج بلاط الرئاسة، وكنت أظن أنها من اجل أفراحهم بعودتي سالما لدار السلام.. ولما لم تتوقف تلك الانفجارات عرفت أنهم يستخدمونها لقتل العشرات من الأبرياء لسبب أو لآخر..وعرفت أنهم دفعوا الناس إلى هاوية الحروب الطائفية والمذهبية و.. و.. الخ.. حينها فقط بكيت وهذه هي المرة الأولى التي أبكي فيها على مدينة منذ فجر السلالات.. بكيت طويلا بدموع من دم حتى تملكتني الرغبة بالعودة إلى نفسي.. وها أنا ذا أعود (يتحرك باتجاه الكرسي الكبير) أعود.. (يجلس على الكرسي.. يتوحد مع الجسم الذي ظل جالسا على الكرسي.. يعتصر نفسه) أعودُ.... وفي نفسي........ شيء.......... من......... مدينة السلام.
(تطفأ الأضواء إلا دائرة منها تظل مسلطة على الكرسي الكبير كما في بداية المسرحية ثم تبدأ بالاختفاء تدريجيا مع الكلمات الأخيرة).
أديلايد: نهاية 2012
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2013 | |
17-شباط-2013 | |
28-كانون الثاني-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |