"سأخبر الله بكل شيء" هي آخر ما قاله طفل سوري قبل أن يودعنا إلى الأبد.

لا أعرف إسمه ولكني سأسميه "رسولنا إلى الله"....

رسولنا إلى الله... من أين ستبدأ وماذا ستقول وقد وعدتنا وأنت تلفظ آخر أنفاسك بأن تخبرالله بكل شيء ثم رحلت إلى مملكة الأبدية. أبكي روحك التي أحست بالظلم وقررت الرحيل، ولكن هل لي أن أطلب من قلبك خفقة أخرى كي تنتظر لحظة وتسمعني، أرجوك لا ترحل... امهلني خفقة اخرى فقط !!

رسولنا إلى الله ...روحك طاهرة فأنت لم تُبتلَ بالمعاصي كما هو العالم، فلماذا تموت الآن!! قلبك ما عرف الفرح إلا بقدر حبة السكر... صغيري لم تر عيناك سوى الخوف والجوع والوجع،عرفت الغبار والدخان قبل أن تعرف الغيمة، عرفت الموت قبل أن تعرف الحياة، فماذا ستقول عن أمنياتك، ماذا ستخبّر عن رفاقك الذين تقاسمت معهم الضحك والبكاء؟؟!! عرفت الشكوى قبل أن تعرف الكلام! عرف قلبك الوجع دون أن يعرف طعماً للدلال أو الشبع!! ماذا ستقول عن قلبك الصغير حين ارتجف من الجوع بين عظمة وجلدة؟! ماذا ستحكي حين استحال الكلام عويلاً وبكاء؟! هل ستستعير من كل اللغات أصواتها لتقول: لم يسمع بكاءنا أحد، لم يلتفت لليلنا أحد، خذلنا الجميع!! أو ربما ستختزل الكلام بآه ودمعة ليعرف الله كم ظُلمت!!

أعرف بأنك ستشكو إلى الله كل العالم حين تواطأ مع القاتل وقرر الصمت. حين تقف أمام باب الله أوصيك أن تقول: يا الله يا كريم متنا جوعاً وبردا وخوفاً بأرضك، تركت إخوتي يموتون قبل أن يعرفوا الحياة. أنت تعرف وأنت خير العارفين أنه لا ينام من جاع أو خاف أو شعر بالبرد، وقد ابتلي اطفال سورية بالجوع والخوف والبرد والمرض، فكيف ينامون، كيف يعيشون بعد أن صار الموت أقرب إليهم من رمشة العين!! يارب أنظر إلينا أصبحنا في كل مكان على وجه البسيطة مبعثرين كحب قمح تنقره الغربان فلا هو ينمو كما تشاء الحياة أو يموت كما يشاء الموت!! يارب لا خوف يشبه خوفنا في ليالينا الطويلة حين تصم أصوات القتل قلوبنا.. حين ينخر البرد والموت عظامنا... يا الله عرفت صوت الموت قبل أن أفهم معنى الحياة.. عرفت صوت أمي حين كانت تصرخ لا حين كانت تداعبني.. عرفت حضن أبي حين فارقني... يا الله بتنا نعرف كيف يقرص البرد أطرافنا ويعضها كحيوان مفترس. يا بصير، وأنت أقرب من حبل الوريد، ألم ترَ أمهاتنا تلهج بالدعاء للخلاص صبح مساء، ألم تسمع صوت الجوع تجهش به بطوننا وأنت السميع العليم... اتخذنا من الكهوف بيوتاً، من عروش الشجر مأوى، من الكرتون سريراً... يا رب يا عالم بما ظهر وما خفي من عري وجوع وتعب... يا رب ساعدنا مالنا غيرك يا الله.

لا تنس يا رسول الشكوى أن تحكي حكاية مئتي ألف روح رحلت وأكثر، لا تنس حكاياهم وقد أعادت تشكيل التراب.. وغيرت معادلة الحياة في الماء حين استحال وصار عطشاً في عروقهم... لك أن تحكي قصتهم مع الهواء حين تلوث بالموت... أما السماء فكما تراها مكتظة بأرواحهم ولكل روح حكاية...

يا صغيري أطلب من الرب وأنت في حضرته: يا الله لا تختبر صبرنا أكثر فنحن لن نصير أنبياء لأنك ختمتهم منذ زمن بعيد... فالوقت لم يسعفنا حتى نقطع الحبل السري لأطفالنا، لم نلفهم بقماط الصغار بل بشرنقة الموت البيضاء لففناهم وزرعناهم من جديد في التراب، لم يشفع لهم عمر الحليب، لم تشفع دعواتنا لك، فلا تختبر صبرنا أكثر.

أخبره عن أحلام طفل تحاول الخيمة أن تأكل ذكرياته فأغمض عينه ليعود هناك إلى الوطن... إلى الأريكة والسقف والبيت والأصحاب!! تحدث عن وجع الخيمة محملاً بذل اللجوء، عن تعب الناس من الرحيل، عن الغبار حين يعصف فيخلع الفراش ويصرخ بوجه طفل: أنت لاجئ!! عن التعب الملوث بطين وبرد المخيم، عن لهاث الخوف في القلوب، عن زئير الجوع في البطون... قل له: تعبنا من التعب يا الله..

أعرف يا صغيري أن الكلمات ستتعثر بلسانك الذي هجر الحليب باكراً ولكن تحملني واحمل وصاياي وقل: يا رب لماذا في سنوات عمري القصيرة عرفت أن الوطن هو تعب وحزن... عرفت أن الوطن يعني الخوف والحواجز، والغربة تعني البرد والجوع، فحياتنا القصيرة توزعت بين مر وأمر... يا إلهي غاب الحمام عن سمائنا، لم نعد نجري وراء الفراشات في ركضنا المستحيل، بتنا نعرف أن السماء تحمل الطائرات والبراميل لتصنع الموت والخراب... والغيم الذي كان يحمل مطراً يسقي غلالنا أصبح يهطل هماً على خيامنا و ثلجاً يقتل الحياة في أطرافنا...

قل لله: يا الله إنك تسمع دعوة الداعي إذا دعاك والألسن ما كفت عن الدعاء، أنظر! السماء مكتظة بالارواح والأدعية!! رفعنا أيدينا إلى السماء، ابتهلنا لك، لكنك لم تستجب، أهو العقاب أم أم الغضب، ولا أظنه امتحان فأنا مت قبل أن أصل إلى بوابة السؤال!! ماذا فعلنا لتمكّن الجلاد منّا نحن الصغار!! ماذا فعل كبارنا حتى تنخسف الأرض بهم ويتوهون هائمين على وجهها، أو ينشق البحر ويبتلعهم الموج ويهلكون!! يا الله لفظتنا الأرض والسماء وكأننا فائض على الحياة، يا رب أنا حزين مستكين مستسلم لحكمك، إذا أردت أن تحاسب الظالم فقد وصل بظلمه ما يفيض عن أي عقاب وقصاص، اكفنا شروره يا الله فقد تعبنا، مزق الجوع جلودنا وفتتها البرد، فقأ انتظار الفرج فرحنا، نسيَتنا كتـُبنا ودفاترنا، صارت مقاعد صفوفنا حطباً لمستقبل يحترق ...

يا ورق النعناع يا غصن الريحان يا صغيري، أعرف كم أثقلتُ على روحك ولكني سأقول لك آخر الكلام ، خبّر الله أن ما زاد الهم هماً والجرح إيلاماً، إن في سوريا من يقتلون ويذبحون ويشهرون السياط ويجلدون الناس باسمه، هناك من يرفعون رايات الموت ويصيحون: هذا من أجل الله!!! إنهم يشترون بالقتل صكوك غفرانك!!

ربما تكون كلماتي وجعاً يشبه وجع كل الناس، أو آهاً لا ترتقي لموت طفل من الجوع أو البرد أو حتى لدمعة من دموعه...ربما تكون كلماتي مكرورة كشريط مشروخ، أو ربما تكون هذياناً يرتمي على صفحة الورق الصماء، لهذا لك أن تقول ما تريد يا صغيري وأما أنا فسأصمت!

سعاد قطناني