الببغاء الأخضر / قصة جوزيف باين برينان ترجمة:
خاص ألف
2014-02-09
من سنوات مضت، انتبهت أن ظروف الحياة الحضرية تهددني بعدم استكمال رواية جديدة في الموعد المحدد الذي وضعه لي الناشر، انتقلت لغرفة في وينفورد عشت فيها خلال الصيف المنصرم، وينفورد قرية صغيرة تابعة لهضاب كونيكتيكوت الشمالية، و هي من غير صخب و لا ضجيج باستثناء حالات محدودة.
وصلت إلى البنسيون، في تشرين الأول و عملت بشكل متواصل لوقت متأخر من تشرين الثاني. و في النهاية، شعرت بالرضا على حسن أدائي، و قررت أن أحصل على يوم أجازة.
صعدت إلى سيارتي و تحركت بها من غير هدف في أرجاء المنطقة، و اعجبتني المشاهد و على وجه العموم لقد استمتعت بوقتي. و مع أن معظم أوراق الأشجار قد تساقطت، و ظهرت في الضوء الخفيف التلال كئيبة فعلا، انتابني الشعور بالبهجة من هذه النزهة القصيرة و خلفت عندي إحساسا طيبا بالعالم. .
و في وقت متأخر من المساء، و أنا أقترب من وينفورد، و آمل بسهرة خاصة في غرفتي الصغيرة داخل الفندق. انحدرت في طريق قذر و ضيق، و كان متفرعا من الطريق الأساسي .و من المعروف أنه طريق مختصر.
و سرعان ما ندمت من ذلك. فالطريق بحالة رديئة و يدعو لليأس و مزدحم على كلا الطرفين بأشجار الشوكران الضخمة و المتراصة و قد لطمت أغصانها جوانب السيارة و أنا أتقدم بها.
و حينما أزمعت على إشعال أنوار السيارة طار فجأة ببغاء كبير أخضر من بين الشوكران المتراصف على احد جانبي الطريق، خفق بجناحيه بذعر و ابتعد عن الزجاج الأمامي، و اختفى تحت الأشجار في الطرف المقابل.
جمدت للحظة حتى كادت السيارة أن تنحرف عن الطريق. أسرعت بالتوقف، و جلست أراقب الغابة و أنا اتساءل هل عيناي تخدعانني. لو أن طيرا أو ديك الغابات أو صقرا مر بعرض الطريق لجمدت لدقيقة من الوقت، و لكن لم يحصل شيء من ذلك. إنه ببغاء كبير أخضر، في نيو إنغلاند، و في أواخر تشرين الثاني...
تابعت النظر بالغابة، و حينها سمعت صوتا ارتفع بنداء مباشر يقول:" هنا يا توبي! تعال هنا يا توبي!".
في البداية تبادر لذهني انه صوت الببغاء. ثم رأيت سيدة ناعمة كبيرة بالعمر تظهر من بين الشوكران و تقترب من الطريق. نظرت حولها بشكل عام، بينما علامات الانزعاج تغطي وجهها المتجعد. كانت لها هيئة غريبة تدعو للشفقة و هي بثوبها المنزلي المتواضع و قبعتها التقليدية الصغيرة الداعية للسخرية .
غادرت السيارة و اقتربت منها. قلت:" ببغاؤك طار على الطريق من دقائق. و ذهب إلى الغابة". و أشارت إلى حزمة من أشجار الشوكران حيث أعتقد أنه اختفى. ووقفت جامدة و هي تحملق بي. و من الواضح انها لم تنتبه لسيارتي. و أخيرا ارتسمت على وجهها ابتسامة ضئيلة جعدت وجهها.
و بحثت بعينيها في داخل عيني. ثم همست:" ساعدني. ساعدني بالعثور على توبي. كنت أحاول القبض عليه من فترة طويلة. لقد أتعبني".
كان من المستحيل بالنسبة لي أن أرفض. فعيناها الشاحبتان لهما استغاثة تدعو للرثاء- و كانت مسنة جدا و ضعيفة و لها ملامح يائسة.
قلت لها:" من الأفضل ان تنتظري هنا. و سأرى إن كان بوسعي الإمساك به".
من غير انتظار لجوابها، دخلت بين الشوكران. كان أمامنا القليل من الوقت لنلعب به. فالليل قد خيم تقريبا تحت الأشجار. و بعد ساعة ستتحول الغابة إلى ظلام دامس.
و بدات أنادي على الببغاء باسمه: " تعال يا توبي. هيا يا توبي تعال!".
من مسافة بعيدة في الغابة جاء صدى مقلد و ضعيف يقول:" تعال يا توبي! هيا يا توبي تعال!".
في إحدى اللحظات اعتقدت أنني أرى لمحة من الطائر، في مكان مرتفع على غصن من أشجار الشوكران. و لكن لم أكن متأكدا. ربما هو مجرد شعاع أخير من نور الشمس التمع لفترة قصيرة على غصن أخضر. و ما أن ابتعد عن الطريق، أصبحت غابة الشوكران أكثر ازدحاما و تراصفا. و تقاربت الأشجار فيما بينها، و سدت الطريق التفريعات التي تنمو قرب سطح الأرض.
و اقترب الظلام بسرعة تفوق حساباتي. و معه جاء البرد. و على الرغم من أنني كنت أشق الطريق و أتحرك بدأت أرتجف.
و حينما توقفت أخيرا لألتقط أنفاسي، دخل في روعي لأول مرة هول و عبثية الموقف.
هنا وجدت نفسي، في الغسق، أخبط خبط عشواء بين الشجيرات و أتقدم عميقا بين أشجار غابة الشوكران التي انبسطت أمامي على مسافة أميال. بحثا عن ببغاء هارب لا أعرف عن مالكته شيئا!.
هززت منكبي و قفلت عائدا أقفو أثر بصمات أقدامي على الأرض. كنت بالفعل أكره العودة و الاعتراف بالفشل أمام تلك السيدة الناعمة المسنة ذات القبعة القديمة. و لكن شعرت ربما لن أصل لشيء إضافي لو تابعت التفتيش. ففي فترة بلمح البصر سيكون من المستحيل رؤية أي شيء على الإطلاق في هذه الغابة.
على أية حال، و في دقائق معدودات نسيت تماما مسألة العودة للسيدة العجوز - لأنني أدركت أنني فقدت طريقي إليها. مع انني لم أبتعد كثيرا عن الطريق، و لكن من دواعي دهشتي أنني لم اتمكن من الوصول له مجددا.
لقد خيم الظلام و لفني البرد القارس. و فقدت كل إحساس بالاتجاه و لكن لم أتوقف عن التأكيد لنفسي أنني لم أبتعد كثيرا عن الطريق. فهذا شيء غير وارد. غير أن نوعا من الرعب بدأ بالتراكم في صدري. و كما أعلم أن معطفي ليس مخصصا بتصميمه للاستعمال الليلي في برد غابات تشرين الثاني.
و أخيرا، و بالصدفة المحضة، وجدت نفسي على الطريق. و لحسن الحظ، كانت السيارة قريبة من النظر. فأسرعت إليها، و كنت متشنجا و بالحرف الواحد أرتجف من البرد، و هكذا أدرت المحرك.
و كما توقعت، كانت السيدة العجوز الناعمة قد رحلت. و ربما عادت إلى بيتها و هي تتألم من خسارتها للبغاء و ليس لأنني لم أعد أدراجي إليها.
و لدى العودة إلى الفندق، حصلت على حمام سريع دافئ، و استبدلت ثيابي، و شربت كوبين من البراندي، وهكذا تأخرت بالحضور إلى المطعم لدقائق إضافية.
و كعادتي منذ الدخول للفندق، جلست على طاولة كنت أشترك بها في العادة مع العقيد بوف و الآنسة غروفير و السيدة العجوز مدام سبينس.
حينما تساءل العقيد بوف عن أسباب تاخري، فكرت قليلا بالإجابة. ثم تماسكت و لا سيما بعد أن أخذ البراندي و الطعام الدافئ مفعولهما. و هكذا قررت أن أذيع سر كل ما جرى و كل ما توصلت له على الرغم من سخافته.
و قررت أن اروي الحادث العبثي من غير إضافات - مع أن هناك ما يغري بالتوسع و التخيل. و هكذا ابتعدت عن مطبات الميلودراما أو الإسقاطات الشخصية.
على أية حال سرعان ما انتبهت ، و يا للغرابة، حتى من غير زخارف كانت قصتي الصغيرة ذات مردود مشوق لدرجة عجيبة. ومنذ أول كلمة، حينما ذكرت الببغاء، توقف العقيد بوف عن تناول طعامه و وضع الشوكة جانبا، و كأنه لا يريد أن يخاطر بضياع كلمة واحدة. و خطر لي أن السيدة سبينس قد أصيبت قليلا بالشحوب، و بدت علامات الاهتمام على ملامح الآنسة غروفير. فقد همهمت قليلا بملاحظات عن الثلج و تابعت النظر من خلال النافذة.
وهكذا انتهيت من قصتي وسط صمت مريب. و أخيرا نظف العقيد بوف حنجرته وبعد تبادل نظرات مع السيدة سبينس و الآنسة غلوفير و كانت نظرات حبلى بالمعاني قال:" يا صاحبي، هذا هو الوقت و المكان المناسبان لتعرف شيئا هاما عن ، آه، لنقل المشكلة التي مررت بها".
سألت:" ماذا تقصد؟".
" جهز نفسك لتجمد من المباغتة".
" حسنا، ماذا؟..".
فتابع يقول:" الحقيقة أن الشخصيتين الأساسيتين في حكايتك الحالية - استبعد طبعا نفسك - هما من الأشباح".
أومأ برأسه حينما ساهد الدهشة و الاستنكار على وجهي و تابع يقول:" لا شك هذا يبدو عسيرا على التصديق، و لكن تلك السيدة الناعمة العجوز ذات القبعة القديمة اختفت من سنوات بين أشجار الشوكران". و هزت السيدة سبينس رأسها و هي ترتعش و قالت:" هذه الحكاية مشهورة و معروفة".
و تابعت:" هذه الحكاية معروفة هنا و على الأقل يتداولها المسنون بشكل يومي".
و بعد الحلوى، أشعل العقيد بوف سيجارا وقرر أن يروي " الحكاية المشهورة " المعروفة بين السكان المحليين و التي لم أسمع بها من قبل، و في نفس الوقت تابعت تناول طعامي و أنا في غاية الاهتمام و ربما لذلك لم أشعر بطعم و لو لقمة واحدة من الوجبة. و بدأ العقيد حكايته كما يلي:" السيدة الناعمة ذات القبعة الغريبة هي عانس تدعى الآنسة ميرشوم، و ذات يوم كان أهلها أثرياء من المزارعين الأثرياء، و كانوا يمتلكون قطعة أرض واسعة تحد غابة الشوكران التي تنمو على طول الطريق المهمل الذي أتيت منه.
حسنا ، باختصار أقول إن آل ميرشوم توفوا واحدا بإثر الآخر و لم ببق منهم في النهاية غير الآنسة ميرشوم. التي تابعت الحياة في المزرعة من غير علامات واضحة على وجودها، و كان عزاؤها ببغاء أخضر كبير الحجم احتفظت به كأنه حيوان المنزل الأليف، و لأنها وحيدة في هذا العالم فقد ارتبطت روحيا بالطائر، و كما قيل - و ربما هذه شائعات لا معنى لها - كان بمقدور الطائر أن يتحدث معها و كانت العجوز ميرشوم تتحادث معه لفترات طويلة. و لكن لا يرقى للشك أن الآنسة ميرشوم تنظر للبغاء كثروة لا يدانيها أي شيء آخر في هذا العالم الخانق.
حسنا و في بوم كئيب من أيام أواخر تشرين الثاني، من عام 1868 لنكون على وجه الدقة و التحديد، جاءت الآنسة ميرشوم تتعثر بخطواتها إلى وينفورد بحالة هياج شديد. و قالت و هي تذرف الدموع أمام أهل القرية أن توبي، و هو ببغاؤها المستأنس، قد هرب إلى غابة الشوكران. و توسلت في طلب المعونة للقبض على طائرها الثمين. و قد تأثر السكان المحليون بمشكلتها و لا سيما بعد هذا الاستعطاف، و نظموا فرقة للبحث و تغلغلوا بين أشجار الغابة في محاولة لإعادة صديق المرأة البالغة من العمر عتيا. و حينما شرعوا بالبحث كانت السماء إلى حد ما محملة بالغبوم و لكن لم يكن هناك نذير بعاصفة وشيكة. و فرقة البحث - الرجال و الصبيان - ضربوا بعيدا في أرجاء العابة. و من الواضح أن جهودهم من البداية كانت تبدو عبثية.
و على أية حال في المساء ، حين كان أكثر من نصف الباحثين في الغابة، هبت ريح عاتية . و سرعان ما تحولت لريح ثائرة. و زمجرت الرياح المرعبة في أرجاء الغابة و خنقت كل الأصوات الأخرى.
فاضطر أولئك الرجال و الأولاد الذين هربوا من الغابة للعودة إلى البلدة و ذلك لإنقاذ أنفسهم . و لم تكن هناك أية محاولة لإنقاذ الآخرين . بعضهم لم يتم العثور عليه حتى الربيع التالي. و بشكل عام، اختفى سبعة رجال و أربعة صببان في غابة الشوكران و لم يعرف أحد شيئا عن مصيرهم.
سألته بعد فترة صمت مطولة:" و ماذا عن السيدة العجوز".
قال العقيد:" خالفت النصيحة و سارت خلف بعض المتطوعين حتى دخلت الغابة معهم، و هي تنادي على ببغائها المحبوب. و هناك ضاعت مثل غيرها، و حتى هذه اللحظة لا نعرف أين هي عظامها الميتة. لا شك أنها ترقد في مكان ما من الغابة. و مهما بقي من الببغاء فإنه يرقد هناك أيضا. إنه مثلها لم يتم العثور على أثر منه.
و أعاد العقيد إشعال سيجاره و قال:" و بعد نهاية تلك المأساة. من حوالي ثمانين عاما، على الأقل إن دستة من الأشخاص الذين لا يوجد بينهم رابط و في أوقات متباعدة و دائما في فصل الخريف ذكروا أنهم التقوا بتلك السيدة الناعمة المسنة ذات القبعة الغريبة، و بلا استثناء بعد مرور قليل من الوقت على هذا اللقاء المثير للرثاء كانت تعصف رياح ثلجية هوجاء.
بعد نهاية الحكاية، نظرت الآنسة غلوفير إلى النافذة. و قالت باستسلام:" و الآن سوف تهطل الثلوج في الغد". و حينما نظرت إلى الخارج قبل أن أنسحب، رأيت النجوم مشرقة. فشربت جرعة أخرى من البراندي المركز، و هززت منكبي ساخرا، و ذهبت إلى السرير، و نمت بعمق على الرغم مما مررت به و على الرغم من حكاية العقيد بوف.
و لكن في الصباح التالي نهضت و كنت أرتعش، و مع أن الجو في غرفتي الهادئة دافئ و ودي. كان الجو في الخارج عاصفا و طبقات الثلج تغطي الأرض بمقدار نصف قدم. و رقاقات الثلج المندوف تعصف بها الرياح العاتية التي لا زالت تهب بسرعة جنونية.
الترجمة من كتاب " قصص و قصائد مختارة ". 1952.
جوزيف بابن بلاينان: ولد عام 1918 و توفي عام 1990. و هو كاتب قصة و رواية و شاعر أمريكي.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |