مجندة تدس الملح في جرح حيفا
خاص ألف
2014-02-16
في كتاب "جلد أسود، أقنعة بيضاء" قدم فرانتس فانون رسماً دقيقاً لحال ونفسية الشعوب التي تم احتلال بلادها وروحها وثقافتها. فيرى أن أخطر الأمراض التي تواجهها الشعوب الواقعة تحت الاحتلال هو التماهي مع المحتل، والشعور بالدونية، والرغبة في الانتماء للأقوى والتخلص من الجذور، إذ أن تلك الجذور هي التي جلبت الاضطهاد ضد الشعوب المستضعفة، ويؤكد أن ذلك هو النوع الأخطر للعبودية، لأنها عبودية الروح والنفس.
وفي هذا السياق تأتي موناليزا عبده ابنة حيفا التي ظهرت في إعلان يحمل عنوان "ومضات من جيشنا" وهي تتفاخر بتطوعها للخدمة في "الجيش الإسرائيلي" وتحمل السلاح وتتدرب عليه لتحمي "دولة إسرائيل" التي تشرح بأنها جزء لا يتجزء منها، هذه الموناليزا هي خير مثال عن حال الشعوب الواقعة تحت الاحتلال و تتماهى مع المحتل القوي لتكون جزءا منه، وما هذا التماهي إلا عبودية تخللت ثنايا جسدها وروحها وعقلها فوقّعت صك عبوديتها مع المحتل حين انسلخت عن نفسها وخلعت روحها متقمصة بزة القوي "المستعمِر" وحاملة رايته.
ليس صدفة أن يتم الإشارة لموناليزا في الإعلان الترويجي، الذي يقوم به "جيش الدفاع الإسرائيلي"، على أنها فتاة مسيحية من حيفا، حيث إن نتنياهو قرر تجنيد العرب المسيحيين في الجيش الإسرائيلي لطمس الهوية العربية، وتمزيق النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع الفلسطيني فكانت موناليزا وأمها الأداة المناسبة لهذا الإعلان الذي من خلاله يحاول الاحتلال التشكيك بالانتماء الوطني للفلسطينيين وتقسيمهم إلى فئات مختلفة. ففي فلسطين الفلسطيني هوعربي فلسطيني بغض النظر عن انتمائه الديني، فمنذ عام 1956 فرض الاحتلال على الفلسطينيين الدروز الخدمة الإلزامية، ولكن هذا التعبير الفئوي لم ينسحب على شاعر المقاومة سميح القاسم حيث سقطت كل محاولات الاحتلال باختزال الفلسطينيين إلى فئات وبقي يحمل اسم عربي فلسطيني، وما ينطبق على سميح القاسم ينطبق على إميل حبيبي وإميل توما، وما ميز نضال الشعب الفلسطيني هو أنه نضال جامع للشعب الفلسطيني بكافة مكوناته. فلم يكن إدوار سعيد "خارج المكان" ولا بعيد عن التاريخ في فهمه ورؤيته للنضال الوطني الفلسطيني بل كان جزءاً أساسياً من مكوناته الثقافية والفكرية ورمزاً من رموز الثقافة الوطنية الفلسطينة على مستوى العالم، ولم يكن جورج حبش إلا قائداً أثبت الانتماء للوطن في وجه الاحتلال من خلال مسيرة نضالية رسمت درب فلسطين في بؤبؤ العين. ومازالت فلسطين تنجب المزيد من تلك القامات الوطنية والنضالية والفكرية التي لها كبير الأثر في صمود أهلنا في وجه الاحتلال في الداخل والخارج. .
الإحتلال ليس فقط قوة عسكرية تفرض سيطرة وهيمنة على أرض وموارد الشعوب المُحتَلة بل هو أيضاً محاولة جادة وحثيثة لاستلاب فكر وعقل هذه الشعوب. وتكمن عملية المقاومة في إدراك هذه الشعوب لواقع الاحتلال ومعطياته ورفضه، وهنا تفرض الشعوب الواقعة تحت الإحتلال إرادتها في مقاومة المحتل بكافة السبل، ولكن إن سقطت إرادة المقاومة والرفض يكون الإحتلال قد احتل وجدان وروح الشعب الواقع تحت الاحتلال حيث يتماهي الإنسان المحتل والمقهور والمسلوبة أرضه وتاريخه ووجدانه مع القوي المتسلط والمسيطر على كافة مظاهر الحياة اليومية.
في هذا السياق يعرّف د. مصطفى حجازي في كتابه "سيكولوجية الإنسان المقهور" المتماهي مع المتسلط على "إنه استلاب الإنسان المقهور الذي يهرب من عالمه كي يذوب في عالم المتسلط أملاً في الخلاص. وتأخذ هذه الظاهرة ثلاث صور: الأولى: التماهي بأحكام المتسلط. الثانية: التماهي بعدوان المتسلط. الثالثة: في آخر أشكال التماهي بالمتسلط يصل الاستعلاء أخطر درجاته، لأنه يتم بدون عنف ظاهر، بل من خلال رغبة الإنسان المقهور في الذوبان في عالم المتسلط. وهنا يكون الضحية قد خضع لعملية (غسيل مخ) من خلال حرب نفسية منظمة لتحطيم القيم الاجتماعية والحضارية للفئة المقهورة". وأم المجندة موناليزا هي مثال حي لذلك المستلب الذي تعرض لغسيل مخ فهي لا تتماهى مع القوي كابنتها فقط بل تعطي جيش الاحتلال الإسرائيلي القائم على جريمة الاحتلال والقتل والتهجير صك غفران فتسمي الجيش "جامعة وتعليم وأم ثانية لكل شاب وصبية"، حيث بالغت بصفاقتها في وصف جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي شُكل سنة 1948 من مجموعة عصابات إرهابية لم تتوقف يوماً عن قتل العرب والفلسطينيين. فعبوديتها وتماهيها مع المتسلط وصل إلى حد المدح وتبرئة جيش من المرتزقة من كل جرائمه المستمرة حتى يومنا هذا والتي مازالت يديه ملوثة بها ولا يستطيع هو نفسه نكران هذه الجرائم.
ورغم أن الإعلان يستفز كل عربي وفلسطيني إلا أن هذا الترويج وهذا الإعلان بحد ذاته ما هو إلا دليل على ندرة الحالة وغرائبيتها عن طبيعة الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، فعرب الداخل رفضوا كل محاولات اجتثاثهم من ثقافتهم ولغتهم، من تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، فهم الشوكة التي تؤرق ذلك التطلع لبناء "الدولة اليهودية" وتفضح عنصريتها، وما موناليزا إلا صوت شاذ عن فلسطينيي الداخل المتمسكين بعروبتهم وفلسطينيتهم، القابضين على الجمر ببقائهم وصمودهم، المهمشين في مجتمع الاحتلال والاقتصاد والوظائف.. هؤلاء الذين تسقط كل التسميات عنهم لتلتصق بهم صفة العرب، هم ما بقي منا، فهم يحيون يوم الأرض الفلسطيني ببقائهم على الأرض وكل يوم يمضي ما هو إلا يوم من أيام الأرض التي يزرعوها بمقاومة التهجير والتهويد والعنصرية.
ربما يأتي هذا الإعلان بعد أن استطاع الفلسطينيون داخل الخط الأخضر أن يشكلوا قوة تسعى لإماطة اللثام عن ممارسات إسرائيل العنصرية ضد العرب بتهجيرهم وتضييق سبل العيش عليهم ، فما إسقاط مشروع برافر إلا نجاح للتحرك العربي الفلسطيني في الداخل حيث تحاول إسرائيل ان تمحوا هذا الإنجاز أو هذا التحرك بإجراءات تمزق الإرادة الفلسطينية وتجعل من الفلسطينيين مجموعات بشرية مشرذمة ليس لها أي مشروع سوى العيش على الكفاف، وتجنيد العرب المسيحيين يأتي ضمن هذا الإطار، كما جرى مع العرب الدروز سابقا.ً.
تشاء الأقدار أن تكون حيفا هي مدينة موناليزا، وهي أيضاً مسرح رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"، فخلدون الطفل الرمز الذي تركته أمه صفية في حيفا، وأرغمت على الهجرة ودُفعت إلى القوارب التي أخرجتها من حيفا إلى الأبد، ما هو إلا دوف أو موناليزا التي انتمت إلى الجيش بمحض إرادتها لتنتمي إلى القاتل لا المقتول، إلى الظالم لا المظلوم، إلى السارق لا المسروق.... فلو أن غسان كنفاني كتب روايته عن سعيد وصفية الذين عادا إلى حيفا ليس بعد عشرين عاماً بل بعد أكثر من ستين عاماً لما زاد حرفاً على كلام سعيد الأب إلى دوف الإبن أو"موناليزا" حين اختار أن يبقى جندي احتياط في الجيش الإسرائيلي، قال سعيد الأب: "لا حاجة لتصف لي شعورك فيما بعد، فقد تكون معركتك الأولى مع فدائي اسمه خالد، وخالد هو ابني، أرجو أن تلاحظ أنني لم أقل إنه أخوك، فالإنسان كما قلت قضية، وفي الأسبوع الماضي التحق خالد بالفدائيين..." موناليزا وأمها اختارتا أن تلعبا دور دوف!!
ولكن ربما تأخذني المسارات النفسية لهاتين الشخصيتين إلى احتمالات أخرى ومآلات أخرى، مثلاً: لو أن أم موناليزا هجّرت مع من هُجر من حيفا، ربما كانت ستصل إلى سوريا أو لبنان أو الأردن، وعندها هل ستكون من جيش لحد وتلعب نفس دور جيش لحد في قتل بني جلدته وفي التماهي مع القوي والبلطجي في المنطقة وفي حماية إسرائيل والإنسلاخ عن واقعه وضميره العربي ؟؟ أو هل يمكن أن تفعل موناليزا كما فعلت دلال المغربي وتحمل السلاح وتركب البحر إلى حيفا على ظهر حلم مستحيل لتستشهد على أرض فلسطين؟؟ هل ستبقى موناليزا هي هي ؟؟!!
تختلف المآلات باختلاف الواقع بالتأكيد، ولكني لا أعرف مآلاً أكثر مأساوية لشعب يعيش تحت نير الإحتلال من المآل الذي وصلت إليه موناليزا وأمها، فهي تحتقر ذاتها ويحتقرها المحتل حين تتماهى معه ويحتقرها أيضا شعبها ، وما المعاملة المذلة لجيش لحد حين هرب إلى فلسطين المحتلة إلا أكبر دليل على التعالي والاحتقار لمن خان شعبه وقضيته، فتم التعامل معهم كجواسيس ليس أكثر برغم كل ما قدموه من خدمات للاحتلال!
ربما يكون هناك أكثر من موناليزا وأكثر من دوف بين الفلسطينيين ولكن سبتقى حيفا واحدة ،حيفا فلسطين، حيفا البهاء الذي يتفرج على موجة تحاول كسر شاطئ لا ينكسر، الفتاة المشردة بالخيمة، الحكاية المخبأة بالغيمة، المفتاح والبوصلة، شجرة السنديان الباقية، الشرفة المفتوحة لرائحة البحر والشوق، حيفا التي تبكي أهلها الذين حملتهم موجة إلى الغياب، حيفا تنادي: ياطريق دلهم على العودة يا طريق... حيفا ترتق جرحها وتحيك ثوبها وهي تردد: لا بد أنهم عائدون ... عائدون إلى حيفا.
سعاد قطناني
ام اسعد القطناني
2014-02-16
شكرا سعاد كتابتك رائعةوستبقى حيفا رمزا للنضال الفكري والثقافي والاجتماعي وسنعود يوما الى حيفا لابد ان نعود
08-أيار-2021
29-نيسان-2017 | |
17-أيلول-2014 | |
17-آب-2014 | |
04-آب-2014 | |
01-آذار-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |