سماسرة الجثث
خاص ألف
2014-02-23
أحمد بغدادي
منذ أن بدأت ظاهرة الاختطاف تتكرر على الأراضي السورية من قبل مجموعات تهدف إلى المنفعة المادية أولاً، وثانياً أتت بشكل آخر كمبادلة المخطوفين بين الأطراف المتقاتلة " الخاطفة " لإحراز مكاسب معنوية وفرض الكلمة العليا على الطرف الآخر، خرجت ظاهرة أخرى لم يكن لأحد من السوريين أن يتصورها قطعاً أو يظن أنها سوف تحصل يوماً ما مهما كانت ظروف الحرب وقساوتها؛ تلك الظاهرة التي أدمت قلوب الأهالي وخاصةً الأمهات والآباء، هي عدم تسليم جثث أبنائهم الذين قضوا في المعتقلات أو القتلى بأسباب أخرى من المستشفيات أو من أماكن الاعتقال إلا بدفع مبالغ طائلة أغلب ذوي الموتى لا يستطيعون دفع هذه المبالغ إلا بشق الأنفس بعد بيع ما تبقى لديهم من ممتلكات أو الاقتراض من الأقارب والأصدقاء وغيرهم مما يزيد وطأة الألم والحزن أكثر، والذل الذي يعيشونه يتضاعف ليصير خبزهم اليومي بعد فقدان أحد أفراد العائلة وانكفائهم بين طيات الضياع والتخبط في وطن ذاقوا فيه ما لم يذقه أحدٌ على أرض وطنه من ابن وطنه !!.
روتْ إحدى السيدات التي أتت من محافظة بعيدة لبعض الأصدقاء قصتها المؤلمة بحرقةٍ وإجهاش.
تقول السيدة:
وصلنا خبر مقتل أخي بحادث مجهول في العاصمة ولم نعرف سبب وفاته ولم نتوصل إلى جواب من أحد عن طريق الاتصالات والمراسلات والوسائط من قبل بعض الأصدقاء في دمشق.
فاضطررتُ للسفر إلى الشام كي أستطيع التأكد من الخبر والتعرف على جثة أخي في إحدى المستشفيات الحكومية كما وردت المعلومة. ما راعني ومضّني عندما وصلتُ إلى الجهة المعينة التي نقلت الجثة من تحت أحد الجسور في العاصمة إلى المشفى، معاملة بعض العناصر و صف الضباط للجرحى المتواجدين لديهم قبل نقلهم للطبابة، إذ كانوا يركلون الجريح على رأسه أو يضعون بساطيرهم على وجوههم وعلى جراحهم،ويرافق ذلك السباب والكلمات الشنيعة التي لم ترد بقاموس الشياطين!!...
سألني أحد الضباط عن سبب قدومي، فأخبرته بالأمر. أشار بسبابته أنْ أقف جانباً... هكذا بقيت واقفة نصف النهار وأنا أتردد إليه بين الفينة والأخرى وهو يطردني إلى مكاني!
قضيت الوقت وأعصابي تحترق وأنا أبكي بشدة وحرقة.. وقد رأف بي الصخرُ الجلمود ولم يرأف قلبه الآدمي !!
وبعد مضي النهار، رقّ ( الرجل ) وأنا أشاهده طيلة الوقت يعطي الأوامر لذاك وذاك وهو يتمختر حيناً وحيناً يجلس على كرسيه يشرب " المتة " !
أرسل إلي جندياً كي يخبرني بالقدوم. وعندما أخبرته بالتفاصيل مرة أخرى، قال لي وهو يقهقه: ــ هنا ليس لديك عمل.. اذهبي إلى المشفى القريبة من هنا كي تتأكدي من جثة أخيك الإرهابي !!!.
ــ وها هو ذا أخي الكبير المريض الهرم .. صار إرهابياً دون أن يدري وهو قتيل أمر ٍ مجهول ويدٍ مجهولة ... لربما اغتالته للسلب ِ أو للتسلية وقت مروره بسيارته أمام قناص يدغدغه السأم...!
بصقتُ في جوفي متخيلةً أنها في وجهه الدميم ... ومضيت إلى الكابوس .
كان وصولي إلى المستشفى في الليل تقريباً. وكانت الجثث في الممرات والغرف فوق بعضها وأنين الجرحى ينخر العظام ويفتت تراص الجدران ويصمــّها !
اشترط عليّ المسؤول عن ثلاجة الموتى بدفع مبلغ 50 ألف ليرة سورية كي أرى جثة أخي وعدم الاعتراف بالضبط المدوّن بهِ، أي أنني أنكر أنه أخي !!
لم أفهم لماذا ...؟!
وكان هنالك شرطٌ آخر.. إذا أردتُ استلام الجثة ونقلها إلى محافظتي لدفنها، علي دفع مبلغ 300 ألف ليرة سورية خلال يوم واحد والمضي إلى مقصدي دون كلمة !!.
عرفت بعدها من خلال أحد الممرضين المستائين من هذه الحالة، أن المبالغ تلك يتقاسمها ضابط وبعض المشرفين على هذه السمسرة!.
وبشأن مبلغ الــ50 ألف وعدم اعترافي بأنه أخي، كان جواب الممرض: (( إنهم يستخدمون الجثث لأفلامهم الرخيصة على الإعلام، ومنها ما يتم بيع أعضاء منها )) قالها وهو يلتفت حوله متوجساً أمراً غريبْ !.
بكيتُ .. بكيت.. حتى استيقطت كل الجثث من أدراج الثلاجات ومن على الأسرّة الحمراء، ولم يستيقظ أخي ...!!.
***
تلك هي التجارة المربحة في هذا الوطن الآن ...!
وكأن جثث أبناء الوطن الذين دفعوا دماءهم كي تحيا الأجيال القادمة ومنها أبناء الجلادين والمشرفين على التعذيب والتقتيل وذل الناس، أصبحت سلعة لديهم، كيف ولا هم من امتهنوا كرامة البشر طيلة أربعين سنة !
إن هذه الظاهرة التي نتحدث عنها لم تكن سوى قطرة في بحر القتلة الذين أمعنوا في دماء السوريين وأذاقهوهم ويلات التاريخ خلال ثلاث سنوات !
ما خفي أجرم من ذلك! وغداً سوف ينكشف للعالم ما يبتر جبين الإنسانية لا ينديه أو يغرقه !!
وتلك السيدة التي روتْ قصتها هي واحدة من آلاف السيدات اللائي رأين وعشنَ حالاتٍ أفظع وأقسى، ومجازر لم ينجُ منها لربما سوى من رواها بلسانٍ متجمّد !.
لم ولن يصحو ضمير العرب شعوباً وقادة... ولا ضمير العالم .. ولا أي ضمير...!
فهذا ما عهدناه وما نراه إلى الآن من صمتٍ يكاد أن يكون خرافياً لم تألفه الصحارى والمقابر في أبعد نقطة على هذه الكرة الأرضية !.
الشعب السوري الحر وحده فقط ... من سوف يوزّع صكوك الإنسانية قريباً لكل البشرية ولكلِ من يدّعي الضمير المستيقظ.
08-أيار-2021
15-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
03-نيسان-2021 | |
27-آذار-2021 | |
06-آذار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |