أنتَ بَابُ المِنَنْ، يا أستاذَ الزَّمَان
يا قَوِيمَ السَّنَنْ، يَا مُزِيلَ المِحَنْ..
أنتَ نورُ الأحَد، أنتَ أصلُ المَدَد
أنتَ نِعْمَ السَّنَد، يا مُحَمَّد حَسَنْ..
أنتَ بَحرُ النَّدَى، أنتَ شَمسُ الهُدَى
في المَجَالِ بَدَى، فِي التَّعَالِي سَكَنْ..
أنتَ يَا أحمَدُ، أنتَ يا مُفرَدُ
عينُ ما يُشهَدُ، غيبُ ما قَدْ بطنْ.. †
.....
.....
مِن هُنا الترقبُ الأبديِّ لمطَالعِ سرِّها، مِن هُنا في وسعِ البصَرِ الممدُودِ بالبصِيرَةِ أنْ يرَى تُخُومَهَا المنتظَرَة طوالَ أزمنةٍ وقدَر، طُوالَ عُمرٍ مُهْدَرٍ ودُرُوب..
التَّفتيشُ الأخِير، القِرْبَة، الكُوبرِي العَتيِق، النَهرُ هادئٌ وَعَميق، كما أحَبَّ دائماً أن يكون، السِّهُوبُ في بَداءتِهَا، المنحنياتُ الخضرَاء، أعَالِي الرُّوح، آخِرُ العَسَاكِر في السِّكة يتناولون جرائدَ الصباحِ من كماسِرَةٍ ومُسَافِرين، الشاحِنَاتُ تحتَ رواكيبِ قيلولتِها تحتسي قهوَة الطَرِيق، تَلُوحُ بدَاياَتُ المدينَةِ في الأفُقِ المُمتَد، الأفُقُ الطيِّبُ الرَّحِيم، هُناكَ شَرقَاً سَتلَوِّحُ غافِرَةً ورحيمة، كما كانت دَائماً، وكما ستكونُ أبداً، تغفرُ النَّسَيانَات، الجُّروح والهدَر، كنتُ أُحْصِي الأيَّام بِهَا، أُسمِّي ببيوتِهَا الغُربةَ، أقطعُ نحوها الشَّوارعَ والنَّاس؛ مَحَطَّاتِ السِكَّة، الفقد، الأيَّام الغَادرَة، انتظرتُهَا يا سيِّدي منذُ أمادٍ وآمادٍ، منذ الأزلِ، انتظرتها بكلِّ أحوَالي، انتظرتها تأخذنِي إليك، انتظرتكَ تأخذني إليها، تمسحُ أزمَاناً وغُربَة..
ولا زِلتُ منتظراً يا سيَّدي،
فمتى المواقيتُ إذاً..؟
مَوَاقيتُها..
مَوَاقيتُك..
.....
.....
في زمانٍ ما سآتي اليها، عَارِياً من النَّاس، مسروقاً بالحُزن والأَسَف، ستأتِي المدينَةُ صَافِيةً وطيِّبة، تأتي حلوةً وبَشُوشَةً، في الخامِسَة، كما كَانت دَائِماً، أوقاتُ إيابنا المعتادَة، بعد قليل، بعد قليلٍ ننعطفُ شرقاً، لحظة الحلمِ، لحظة القلبِ في تمامِ نورِه، حينها تومضُ الرُّوح، تنمو البيوتُ رويداً رويداً على جَانبي الطَّريق، مَغمُورَةً بالشَّجَر، بالنَّاس، بالأغنياتِ القَدِيمَة، بالصَّباحِ والحكايا..
غَرْبُ النَّهر، السكَّة حَدِيد، ينبتُ أخضرٌ جميلٌ بطولِ الغربة، ينزل الله قريباً إلى سماءِ المدينة، قريباً كما كانَ في أزمنةٍ سَافرَت، يهبطُ العِبءُ كلُّه، كأنَّه محضُ حُلمٍ مَرَّ، وتُطِلُّ حياةٌ بأكملِها، رَقرَاقةً وعَاليَة..
.....
.....
منذُ العبور لنوَاحِي الفَاو، منذُ قهَاوِيها بِمُحاذاةِ السِّكَّة، منذُ جبالها الخضرَاء، منذُ سمرةِ النَّاسِ والقطَاطِي، تتغيَّر الأكوانُ رُويدَاً رُويدَاً، تغدو المَلامحُ أكثر دقَّة، تلقائيةً ونحِيلَة، لَونُ الأرضِ غَامِقٌ مثل حنان، نقطعُ المسافَةَ، السِّهوبَ، نعبرُ النَّهرَ بفرحٍ وأمل، الرَّهَد، حريرة، القَدَمْبَلِيَّة، الشّوَك، كلَّما عدتُ الى هنا أيقنتُ أكثر، الأيام باكِرَةٌ مثلَ طُيورِ الجنَّة، مثلَ فناءاتِ مدارسٍ ريفيَّة، مثل سنابل، أُلامِسُ فرحةَ أن الصَّباحَ لا يزال قيدَ شوارعهَا، لطيفَاً وآسراً مثلما كان، هنا لكلِّ لحظةٍ مذاقُها المفرَد، حضورُها المكتمل، لها مُطلَقُ ضَحكَتِها وَعمرِهَا الأخَّاذ..
تُرى كَم مرَّ يَا سيِّدي..؟
.....
.....
السَّوَاقِي، أويْتِلا،
للمَدِينةِ رائحة ليمونٍ وبَخُور، ولها بيوتٌ طيَّبة..
كلَّما أخَّرَتْنِي دروبٌ أعَادَنِي حَنِينُها، للمدينةِ ما لا يمَّحي أبداً، لها رُوحُهَا البيضَاء كجَلالِيبِِ خُلَفاء، لها ما هُوَ باقٍ كوَميضٍ في نواحي العمرِ الدَّاكِنة..
نعبرُ النَّهرَ والسَّواقي، السّورِيبَة، شوارِعُ الزَّلط العتِيقَة، نفسُ الدَّكاكينِ الاَّ قليلا، البيوتُ الحكوميَّة، السِّحناتُ الأليفة، الودعاء، كلُّهم أدركُوا السِّرَ فآثروا البَقاء..
وحدي أنا تَأخَّرْت، وحدي تَأخَّرْتُ يا سَيدِي..
.....
.....
الحَافِلاتُ في مَوقِفِ المدِينَة، صغيرةٌ وَحَنُونة، الملامحُ البجاويَّة بصمتها تمنحُ الأرجَاءَ سِكُونَاً وتأمُّلا، أكشاكُ البارِد، الأغنياتُ البجاويَّة، حَافِلاتُ الختميَّة، تكاسي البِيْجُو الزَّرقَاء، القهوة كما خُلقت أول مرة، التَّاكا آخرُ السَّفر، تحتضنُ البيوتَ كأُمّ، تمنحُ النَّظرةَ أمَانَها، تَدُلُّك أينما الغَيبوبَة، الخطواتُ طَاعِمَة، أتذوَّقُ المدينةَ شَارِعاً شَارِعاً، ملمحَاً إثرَ آخر، المحطَّة الأولى، الأسْكِلَة، المُربَّعات، الكنِيسة، السِّلك الشَّائك للحاميَة، العَسَاكِر على عَجَلاتهم بشرائطِهَا الملوَنة، بِأخضرِ ستراتهم الباهِت، لهم أُلْفةٌ هناك، مدرسة المزاد، فوَّال أبوخالد، الفسحَة، أشجار النيم، دكان فَكِي، مَسْطَبَات الغُرُوب، الغرفةُ البَنْبِيَّة الحميمَة، شَجَر القِريب، حبوبة مَريَم تعدُّ قهوتها البجاويَّة في أوَّل النَّهَار، كنَّا صغَاراً نترقَّبُ فَناجِينَها، تطلبُ انتظارَنا، تمنحنا البَرَكَة، الفنجان الثَّالِث وحدهُ يناسب الصِّغار، وتحكِي لنَا عنكَ يا سيِّدي، قهوتها لا تشبه القهوةَ هنا؛ قَهوَتُهَا طيِّبة، يَؤُمُّها الأطفالُ والمَلائِكة..
....
....
المغارِبُ تبدأُ من هُنَاك، من الختميَّة القَدِيمة، الجبَل يَكْسُوهُ لَونٌ غَامق، تَلوحُ البيوتُ في السَّفْحِ منثورَةً كفَوانيسِ الله في الأفقِ الغَارِب، ألوانِهَا البُرتقاليَّة ممزوجةٌ بالسَّنواتِ والمَطَر، شجرٌ ليَمونها، عَبَقُ لُطفِهَا، تمتزجُ عوالمٌ المُلْكِ بالملكوت، يتصاعد دُخَان الشَّايِ باللَّبن، وقتُ المغَارِب، الرَّتَايِنْ في دكَاكينِ الهدندوة، قُرْبَ رَوَاكِيْبِهِم، الرَّبابات، رائِحَةُ الحنَّة، رَملَةُ الشَّوارِع البَيضَاء تَتَذكَّرُ الخطواتِ بعِرفَة، يعودُ الناسُ إلى بيوتهم تامِّينَ كَمَا غَادَرُوها، لا ينقصُ الإنسانُ كثيراً هُنَاك، مبكِّرَاً الى حيشَانِنَا مثل كلِّ الطِّيور..
.....
.....
ليليَّةُ الخميس، تنصتُ الدُّنيا للصَّوْتِ الأبيضِ الرَّقيق، يبدأ من السَّفح هادئاً ومليئاً، من الفَسَحَة أمام الضَّريح، ثم يغمرُ المدينة َكلَّها بأمانٍ وعُذوبة..
يا سِرَاج الظُّلَم، يا عَمِيمَ الكَرَم..
أنتَ نونُ والقَلَم، أنتَ ما يَسْطُرَن.. †
حرَّكُ الهواءُ الرَّاياتِ القديمةَ بأدَبٍ ولُطف، يتجلَّى سُكُونٌ وإدراكٌ في الملامح المنصِتَه، تعلُو الأكوانُ والَّناس، الهواءُ صَافٍ ورقيق، ثمَّة نورٌ وحقِيقَة، هنا بقعةٌ رحيمةٌ في الدُّنيا لا تزال، هنا أنت سَاتِرَاً أرضَكَ الودودةَ مِن كثافةِ الدُّنيا..
هُنَا..
يطيبُ بها كلُّ الوجودِ ويتلألأُ..
سَنَواتٌ قَدِيمةٌ تتفتَّق من شِقُوقِ العمر، كانَ الوَقتُ قُبَيْلَ غُربَة، العمرُ في بِدَاياتهِ النَّاصِعَة، قبل رَحيلٍ وضَنَى، كلَّمَا عَاوَدَتنيِ المدينةُ غَمَرَتْنِي رائِحةُ مطر، دُخَانُ قهوة، أغنياتٌ هَدَنْدَوِيَّة، وجلابيبٌ بيضاء..
شي لله..
شي لله يا حَسَن..
† من قصيدة للخليفة (ودَّ المتعارض)
أغسطس/ 2007
© 2014 Microsoft Terms Privacy & cookies Developers English (United States)