السم / قصة سوزاناه كارلسون ترجمة:
خاص ألف
2014-04-29
وصلت الحوامات في بواكير الربيع، و أمطرت المالاثيون بشكل غمامات صفر. جاءت لتسميم بيوض الذباب التي اختبأت في شاحنات الفواكه لتعبر الحدود من المكسيك إلى كاليفورنيا. جاءت لتسميم بيوض الذباب و لكنها سممت كل شيء. كان ذلك الربيع آخر فرصة أشاهد فيها عصفرا صقريا يحلق فوق خرابات بالو ألتو. لا يزال هناك عصافير صقور و لكن ليس في بالو ألتو. ليس بعد تلك الحادثة. كانت العصافير الصقور تطارد الصراصير التي هربت بعد أن غرقت أصواتها في ضحيج الحوامات. لقد غطت على أصواتها بأضواء الكشافات البيض و بالسم الأصفر، كان ضجيجها كأن السماء تعرضت للتقطيع بالسكاكين لشرائح و تلك الشرائح بدأت بالسقوط و الانهيار.
خلال ذلك الربيع أمضيت معظم وقتي في الخارج. كنت أختبئ من العالم بين الأعشاب الطويلة التي تنمو في باحة وراء البيت. و أنا أراقب البيت و هو يقف في إطار من النباتات العشبية الطويلة. تأملت أيضا الغيوم و نسور ديوك الحبش و ذوات الذيل الأحمر و العصافير الصقور و هي تدخل و تخرج من هذا الإطار الأخضر.
و ذات مرة قرأت والدتي لي قصيدة عنوانها " عصف الرياح". و لم أستوعبها، و لكن أحببت موسيقاها. كان لها رنة ناعمة، تمنحك الأحاسيس التي تشعر بها إذا لامست جسمك العاري بقع باردة. و أخبرتني أن عصف الرياح هو اسم آخر للعصفور الصقر، و قد فهمت لماذا. فقد رأيته ذات مرة في الباحة. رأيت عصفورا صقريا و هو ينتظر معلقا في الهواء لخمس دقائق أو أكثر، رأسه منتصب، و يتأمل جحر ظربان. حينما انقض عليه كان يبدو كأنه جزء من الأعالي، كأنه نجمة، أو غيمة، و سقطت. وددت لو ولدت عصفورا صقريا و بمقدوري الجمود في السماء بهذه الطريقة، و أسقط فقط حينما أقرر طي جناحي و أنقض مثل حجر يتدحرج من أعلى.
شعرت بأواصر القربى مع الحيوانات المتوحشة التي تأتي لنا أحيانا من بين التلال. و كان يبدو أنها محط كراهية الجميع. و فهمت بوقت باكر أن لا أظهر علامات الغبطة و المرح إذا شاهدت جرذا على السطح بين اللبلاب الذي ينمو خلف منزلنا. أو ظربانا في شرفتنا الخلفية، و هو يلتهم الطعام المتبقي في صحون قطط البيت. كان والدي يضرب الظربان بما يتوفر بين يديه و يهدده بدس السم له أو إطلاق النار عليه. و كان يعلم أنني أفضل الهرب و الحياة مع الظرابين التي تعيش في التلال لو ألحق بها الضرر. أخبرته أنني أزمعت على ذلك. و هذا ما أفكر به في كل الأحوال.
و ذات ليلة قابلت الظربان في الخارج. و جلست بمنتهى الهدوء بينما أم ظربان و ستة صغار يتسللون على أصابع أقدامهم في الظلام. و كنت على وشك إلقاء القبض عليهم. حذرتهم كي لا يقتربوا من هنا لأن والدي حانق عليهم حقا و ربما يقتلهم. لم أبلغهم ذلك بلساني، و لكن علمت أنهم فهموا الرسالة الصامتة فقد رفعوا نظراتهم نحوي و لحسوا بألسنتهم الحمر الصغيرة بقايا من طعام القطط التي قد تيبست على وجوههم.
وقف والداي بلا حركة وراء النافذة، و لم يتمكنا من الحركة خشية أن يصل لي رذاذ المواد السامة.
و كذلك اختفت الظرابين بعد وصول صوت الحوامات المرعب. كان الخمسة أو الستة الصغار يعتدون على البيت كل ثلاثاء و خميس ليلا و ربما نقلوا السم للطعام الموجود في الصحون. و حينما بدأ المرض يصيب القطط توجب علينا إدخال صحونها و طعامها إلى أرض المطبخ.
كان والدي يضرب بقوة كل باب يلمسه في ذلك الربيع. و كان الصوت يرفع من توتر جو البيت كأنه كهرباء ساكنة. كان التوتر على أشده حتى أنني شعرت بشيء يقسو في داخلي و يصبح كالزجاج، و يزيد من احتمالات الانكسار و التشظي. لم تغادر الوالدة غرفة مكتبها، و حينما ذهبت إليها شاهدت وجهها منهارا على سريرها النهاري. أخبرتني أنها مشغولة و يجب أن أتركها وحدها. قبلت قفا رأسها و عانقتها، و لكنها لم ترفع وجهها عن الوسادة.
و في إحدى الليالي و أنا أشاهد التلفزيون نشب عراك بين الوالد و الوالدة و هما في غرفة النوم. رفعت الصوت و وضعت السماعة في أذني و لكن لم يختف الصوت تماما. جاءت الوالدة لغرفة المعيشة و قالت:" لو عليك أن تختاري هل تفضلين أن تكوني معي أو أن تبقي مع والدك؟".
كانت عيناها ملتهبتين بلون أحمر و دامعتين، و كان وجهها مشدودا كالقناع.
قلت:" أنا في وسط برنامج تلفزيوني. أعتقد سأبقى هنا".
جاء والدي إلى غرفة المعيشة و قال بصوت كالفحيح:" لا تباشري معها بهذه الطريقة".
ركعت والدتي، و لفتني بذراعيها، و وضعت خدها بنعومة و لطف على خدي. و رمقنا الوالد من الأعلى للحظة، ثم غاب الغضب من وجهه تماما. كل شيء ذهب و غاب، و أصبح ضئيلا و مسنا. رفع نظاراته و مسح شيئا من زاوية عينه، ثم غادر الغرفة.
لم نحصل على الفواكه في ذلك الموسم. و ذات يوم توجب علينا أن نجني البرتقال و التفاح و الليمون و الكمثرى التي نضحت و هي على أغصان أشجارنا. وضعناها في أكياس خيش و تركناها على الرصيف الأمامي و ذلك قبل حملها و تجفيفها في اليوم التالي. كنت أخفي ثمرة واحدة بالسر في خزانتي، تحت كومة من ثيابي الشتوية. و عندما حضر المفتش، اختبأت في الحمام، خشية أن يلقي نظرة على خزانتي و يعتقلني بتهمة التهريب.
كان علينا الاحتفاظ بالقطط في الداخل لحوالي أسبوع بينما هم يرشون الأشجار في باحتنا. لقد كرهت القطط هذه الحالة. فهي ليست قطط منزل و قد نبهتنا القطط لسخطها بإلحاق أكبر قدر ممكن من البؤس بنا. لقد تركت الصندوق الذي اشتراه الوالد لها فارغا. كانت القطط تفضل النباتات المبرقشة و السجاد الممدود خلف الكنبات لهذه الغاية.
كان يأتي يوميا رجل لرش الأشجار. إنه لا ينقر على الباب، فقط يفتح البوابة و يدخل كأنه قادم لبيته. كانوا جميعا يرتدون البذات البيض و الخوذات البيض المزودة بأقنعة. كما لو أنهم رجال فضاء بيض. لقد تخيلتهم كائنات فضائية و تخيلتهم جواسيس ، لقد تخيلتهم بشتى الصور و الأشكال غير الواقعية. و لكنهم كانوا أشخاصا من لحم و دم، حينما عدنا للخارج مجددا كانت الباحة مخططة باللون الأصفر، و شاهدنا طيورا صغيرة ميتة تحت عش في شجرة تفاح. و لم يسمح لي والدي بالتقاطها و دفنها بشكل لائق. لقد وضعها في أكياس من البلاستيك و ألقى بها في القمامة. و قال أيضا يجب أن أتوقف عن عادة مص إبهامي.
قالت لي الوالدة إنها لا تعتقد أن ذلك ضروري. قالت إنها تعتقد سوف تكون الأمور على ما يرام لو غسلتها أولا. و قال والدي إنه عليها أن تكون أكثر نباهة فالبنت يجب أن تتذكر إنه عليها غسل يديها طوال اليوم.
قالت الوالدة:" هذا غير صحيح. أنت لا تعرف ابنتك جيدا".
قال الوالد:"و أنت لا تعرفين معنى تربية الأطفال". و لكندخلت الوالدة إلى البيت و اختفت فيه.
فيما بعد كان والداي متفهمين و انتظرا أن أتوقف عن هذه العادة بالتدريج. و ضغطا قليلا لأشعر بضرورة الإقلاع عن هذه العادة يوما ما. كنت أعتقد في قرارة نفسي أنني لن أتوقف عن مص إبهامي حتى أبلغ عمرا مناسبا أكون مستعدة فيه للتدخين.
و في أحد الأيام جلست على مقعدي الذي يشبه حبة بازلاء و ذلك في منتصف بركة من بول القطط. و حين انتبهت انفجر شيء بداخلي. كأن العالم غير من مساره. حتى أنا شخصيا فقدت شخصيتي القديمة. لقد امتلأت بالغضب العارم و أغشي على بصري. و ذهبت أبحث عن القطة التي فعلت ذلك.
كنت أعرف تابي طوال الوقت. إنها مسنة. و تسير بخطوات بطيئة و حذرة. و تتعثر أحيانا كما لو أنها ثملة. و مؤخرا بدأت تسقط من فوق بعض الأشياء عوضا عن أن تقفز من عليها. و رأيتها نائمة على كنبة في غرفة المعيشة. فالتقطتها من عنقها و حملتها إلى غرفة نومي.
ضغطت أنفها فوق البركة التي على الكرسي و ضربتها بكل قوتي. ثم ألقيت جسمها الأعرج و المترهل فارتطمت بباب الخزانة. رقدت هناك لدقيقة من الوقت كما لو أنها لاقت حتفها، ثم رفعت رأسها المبلول و نظرت لي و هي تنفخ و تموء. فحضنتها و وضعتها على صدري و أنا أبكي.
قالت الوالدة إنها ستذهب برحلة عمل. كانت تفعل ذلك طوال الوقت. و لكن في هذه المرة استغرقت أياما لتحزم متاعها، و أحيانا كنت أسمع صوتها، ثاقبا و باردا و هو يمر من خلال هواء الليل بأعلى صوت. و كان صوت الوالد يهدر عبر ألواح الأرض الخشبية، و هو يرد على صراخها بصوت أعلى. و باستثناء الحوامات هذا هو الصوت الوحيد الذي يتردد في كل الليل. فصراصير الحقل قد ابتعدت و غادرت. حاولت أن أملأ غيابها بالموسيقا من راديو صغير وضعته على الوسادة. و لكن هذا لم ينفع. لقد تبدلت الأحوال و سارت باتجاه أسوأ.
ثم إن رائحة ذكية و منعشة بدأت بالانتشار من خزانتي كلما فتحتها. كنت أعلم ما هي و خشيت أن يشمها والداي و يبلغ بهما الغضب مداه. و ذات ليلة فتشت في أكوام الثياب المكومة في أرض الخزانة بحثا عن الفاكهة. و لامست يدي شيئا رطبا ثم طار سرب من الذباب الأبيض من وراء ستار الظلمة و هاجم الغرفة.
وقفت أتأمل الذباب و هو يطير عشوائيا، حتى بلغ السقف و عاود الهبوط منه. كانت تبدو حشرات ناعمة، مثل بطات ميتة. لم أستوعب لماذا نود جميعا القضاء عليها. فتحت النافذة و وقفت بجانبها. و همست أقول:" استمعي يا ذبابات. الجميع يكرهونك هنا. و يرغبون بالقضاء عليك. يجب أن تطيري عائدة للمكسيك. يجب أن تعودي لموطنك". و طردتها واحدة بإثر واحدة و أجبرتها على المرور من النافذة و راقبتها و هي تذوب مثل رقاقات الثلج في سماء سوداء مبسوطة. قلت لها:" أسرعي بالطيران". كنت أسمع صوت الحوامات القادمة، و شفراتها التي تدور و التي تقطع العالم إلى شرائح.
الترجمة من موقع ( أوثيرز دين - عرين الكاتب ). تاريخ نشر القصة يوم الجمعة ،20 كانون الأول، 2002.
سوزاناه كارلسون Susannah Carlson : كاتبة أمريكية معاصرة. تكتب القصة و الشعر.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |