لمحةٌ حولَ شجر الحَنان في الشَّعر السُّودَاني:
أنس مصطفى
خاص ألف
2014-05-18
يَأتِي زَمَانٌ مُوغِلٌ في الشَّجَر، ثمَّ يَأتِي زَمَانٌ حَيثُ لا أحَدَ عَلَى قَيدِ شَجَرَة..
لَكنَّ النَّاسُ تُراقُ بالحْنين وَهُنَا شَجَر..
كانت في الفناءِ الأماميِّ لبيتنا، كنَّا نُسمِّيها بطريقةٍ أخرى: (اللاَّرنجة)، ربَّما للتسميةُ علاقةٌ ما بالنطقِ الطفوليِّ للأشياء، أو على الأقل هي هكذا في ذلك البيتِ الأمدرمانيِّ العتيق، ليس بوسعي تذكَّرُ ملامحها على نحوٍ دقيق، لكنِّها كانت خُضرةً غامقة، رائحةً نفَّاذةً وحوشاً فسيحَاً وطفولة.
كانَ النَّارنج موجوداً في البيوتِ وقتها، في المدنٍ والأرياف، أعادني اليهِ حضورهِ الحميم في أزمنةٍ سابقةٍ للشِّعر السوداني بحيث أحتوت العديد من النصوص على شتلاتِ نارنجٍ مسقيَّة ويانِعَة، أرتبط النّارنجُ في مجملها بالحنان، يعثرُ عليه في مذاق الكلمة وسياقاتها، مثلما يتبدَّى أنَّ تلك الأوقاتِ كانت رحيمة، أوقاتٌ سمحت بنموِّ تلك الأشجارِ بِبساطةٍ وأمل، لكنَّها غادرت فغادر النَّارنجُ ولم يعد يظلَّلنا في النُّصوص، تغيِّرت عادات النَّاسِ فأرتحلَ النَّارنجُ بعيداً عن أيَّامنا الشعريَّة، كما أنَّ أشجاراً أخرى تفتَّقت في الأحواضِ القديمة.
"سَأظلُّ أبحثُ عن صَدِيقَة
كَانت اذا ما أينعَ الناَّرِنجُ ترَقصُ في انتفاضَاتٍ رَشِيقَة
كَانت مَعِي في الدَّار،ِ في الربَواتِ، في قَلبِ الحدِيقَة"..(كجراي)
غادر النَّارنجُ إذاً ، لاحقاً بالصَّديقاتِ الرَّاحلات لأقدارهنَّ البعيدة، غادرَ كجرَاي ثم لم تلبث أن تعاقبت أجيالٌ من النِّصوصِ لم تعد تشتلُ النَّارنج أبَدَاً.
سكَّة ومصيرٌ آخرٌ يحملنا إليه محمد المكي ابراهيم في (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنتِ):
"إنِّى ذاهبٌ،
ومع المد الجديد سآتى
هل عرفتينى؟
فى الريحِ والموجِ
فى النوء القويِّ
وفى موتي وبعثي سآتي
فقولي قد عرفتيني
وقد نقشتُ تقاطيعي وتكويني
فى الصخر والرمل ما بين النراجين
وإني صرتُ فى لوحِ الهوى تذكار.."
سيد أحمد الحردلو لامسَ النَّارنج أيضاً في نصوصهِ وأدرك سرَّه، كما تفرَّد بانتباههِ للحنان في الطُّنضب، تلك الشجيراتُ المهملة شعريَّاً:
"تزفُّ الضَّوءَ من ظلٍ لظلِ
وتكلِّم الصَفصَافَ والنَّارنج.."
.....
"يا فَمها، ياأنتَ يا عنَّاب،
يا عنقود حنبقٍ في طنضبات قريتي.."
نمت العديد من أشجارِ الحنانِ اذاً في وِهَادِ الشِّعر السوداني الجميلة، مودعة خضرةً آسرة ومدىً مورق، نمت زهور خُزامى، ورود، جلِّنار، فلٌّ، وياسمين، كما نمت برتقالات وليمون، سدرٌ وسيسبان، طلح وحنَّاء، والأخيرَة شجرةُ الفرح والأمَّهات، رغم أنها لم تفارق وإلى الآن بيوت الختميَّة القديمة بكسلا حيث عاش كجراي إلا أنَّ كجراي لم يكتبها، في حينِ كتبَ شابو حنانها:
"شَجَرَةُ حنَّاءٍ
كَانَت حُضناً للرِّيحِ العَابرةِ الخضرَاء"..
كما التقط شابو بطريقة نادرة حنان النيَّم أيضاً، شجر البيوتِ الشَّائع، وأهزوجة الطُّرقات في حنينهِ إلى الكوَّة، مدينته الأثيرة:
"وعندما يسيرُ في شعابها القَمَر
والنيِّم يرَتوِي شُعَاع
تحسُّ أنها تُعانقُ البعيدَ والبعيد..
وتغزلُ الضياءَ من أحلامها العذراءَ والظلال"..
ارتحلت هذه الأشجار إذاً لمصائرَ مَنسِيَّة، في الوقتِ الذي كشفت فيه أضواءُ فجرٍ تالية من الكِتابة الشعريَّة عن نموِّ شجرٍ جديدٍ بمدلولاتٍ مغايرة، الحَرَازُ كان من أبرزها حضوراً في الشعر العامِّي، كأنَّ الحَرَازَ شجرٌ دارجي، الحَرَازُ أثارَ الإهتمام كشجرٍ مُنَاهِض، يعاند أفتتانَ الشَّجرِ والنَّاسِ بالمطر في مناخاتنا المداريَّة القاسية، هكذا بدا لنا، إلا أنَّ تساقط أوراقهِ في الخريف ربما هو ضربٌ آخرٌ من المحبَّةِ للمطر لم يتسنَّى للناس ادراكه بعد.
"صُدْ لي مَلامْحَك يَا حَرَاز رِيح العَوَارِض غَربَّت
فَرتِق ضَفَايرَك للرَّزاز جيَتَ العَصَافِير قربَّت"..حميَّد
أشجارٌ أخرى كالنَّخَلِ والأبنوس ارتبطت كثيراً بمدلولاتِ الهويَّة رغم ورودها أيضاً كحنان:
"الَّليلة استقبلني أهلي
أهدوني مِسبحَةً من أسنانِ الموتى
إبريقاً، جمجمةً
مصلاةً من جلدٍ الجاموس
رمزاً يلمعُ بين النَّخلةِ والأبنوس"..محمد عبدالحي
أمَّا محجوب شريف، فهو نسيجُ وحدِه، لذا تغدو الأشياءُ كلها عنده حناناً من الأمِّ وحتى السِّجون:
"بيني وبينك الضَّحكَة ورحيق الشَّاي،
وطعم الخبزِ والسُّترة، ومَساءَ النوُّر
وعمق ِالإلفة بينَ النَّهرِ والنَّخلة،
وغُنَا الطَّمبور،
وصدق العُشرَة بين الأرضِ والإنسان"..
الملفتُ للإنتباه أنَّ العشبَ ظلَّ نابتاً بطولِ أزمنةٍ شعريةٍ ممتدة، بمدارسها المختلفة، وبمدلولاتٍ متباينة جدَّاً، بحيث يصعب تحديد موقعه بالضبط وإدراكُ حنانه، وردَ العشبُ في مجملهِ كرمزٍ لبدءِ الحياةْ.
"أدرِي جيِّداً
لكننَّي كَالعُشبِ أنمو دَائِمَاً
أزدادُ بالشَّمسِ إخضِرَارَاً
أزدَهِي باَلضَّوءِ".. الصادق الرضي
هنا يتجلَّى العشبُ فارعاً لَدَى الصادق الرضي، لا يسمح بضياعِ لونه، كتابة الحنان لدى الصادق تمتزج بالجسارة في القمحِ والعشب، بينما تأتي حناناً صافياً في اليَاسَمِين:
"آه فَاطِمَة الرَّاحلة
قـــــدْ تـــداعــى الــتــوحُّـدُ
وانـفـرطَ الـكـونُ واسـتـوتِ الـمزبلة
فـاقـبـلي صـــوبَ هـــذا الـجِـدارِ
لك ِالياسمين ُوللساَّقطين َالرَّمَاد"..
أحتفى محمد المكِّي بالعشبِ أيضَاً كرمزٍ للحياة بين فجواتِ الموت الفسيح:
"حيثُ لا ينبتُ العشبُ لا يصهلُ النَّهر
لا تَتَصَابى الصَّبايا ولا يَستبَينُ الكَلام"..
كما قالَ أيضاً:
"ستكونُ الحديقةُ مأنوسةً"
ثمَّ قال:
"ويكون الضُّحى في أوائلهِ، والنَّهارُ مطيرٌ
فإنِّي أحبُّ المطرْ
وتكونينَ حافيةً حين تأتينَ في ثوبكِ المنزليَّ، وفي حسنكِ الأبديَّ
وفي عطركِ المدَّخَرْ
وتكونُ أصابعُ كفَّيكِ جائِلةً بين سحري ونحري
وغائِصةً تحتَ شعري
وتكونُ السَّماءُ معبأةً بالقدَاسةِ
ملتصقٌ وجهُها بالشجرْ"..
في كتابات أُخرى لمعت نباتاتٌ ما لمعاناتٍ سريعة ثم خبت بغيابِ كتَّابها، مثل الزُّونيا ذات الحضورِ النادرِ في قاموس الشعر السوداني، الباهية جداً لدى عبدالرحيم أبوذكرى:
"تؤرِّقني عَينَان
عينانِ أحسُّ خلالهمَا فَرَحَ الزُّراع
إذا طابَ الموسِمُ،
ونَدَى الأشجارِ وفقفقةِ الأنهار..
لونهما الزيتونيُّ يذكرِّني بالبيتِ، وأوقاتِ الشَّاي،
يصباحِ العيدِ، بشتلاتِ الزونيا
وخلاوي القرآن"..
وكمَا قالَ يضاً:
"من عَتمةِ نفسي أعطيكِ وأعطيكِ
ليتكِ لو تُعطِينِي
لو تخترقيني كالسِّيفِ المصقولِ
أو أنك كالزُّونيا آكلُ في ظلِّكِ وأقيل"..
تحدَّثَ أبو ذكري عن القمحِ أيضَاً كرمزٍ للوعودِ الآتية:
"أفتحُ الشُّرفةَ للنُّورِ الجديد،
فأرى القمحَ يغطي بيدري،
ويحييني إخضرارٌ وإخضرار"..
وعلى نسقِ الزُّونيا وردَ الصفصافُ والسيَّالُ أيضاً في كتاباتٍ شعرية نادرة، فالصفصاف نفسه نادرُ الوجودِ هنا، فقد كتب الراحل محي الدين فارس رابطاً بين شؤؤون الوجدِ والشجر:
"وتزغردُ الجاراتُ، والأطفالُ ترقصُ، والصغار
والنخلُ، والصفصافُ، والسيَّالُ، زاهيةُ الثمار
وسنابل القمح المنوِّر، في الحقولِ وفي الدِّيارْ"..
كما قال ميخائيل نعيمة في قصيدته "النهر المتجمد:
"ها هو الصفصافُ، لا ورقٌ عليه ولا حجال
يجثو كئيباً، كلما مرَّت بهِ ريحُ الشَّمال"..
أما السَّنابل الجميلة فلا تزال باسقةً في شمسِ الكتابة الشعريَّة منذ فجرها الأبيض وإلى الآن وربما لأوقاتٍ آتيةْ، تكادُ تردُ في كتاباتِ جل الشعراء، منذ البحورِ الصَّافِية وإلى شواطئ النَّثر، السَّنابل كالبحر، كالسَّمَاء، كالأنبياء والحبيبات، لها سحرُها الأخَّاذ، سمتها الآسرِ وسرِّها الغريب، وهو ما عناهُ النُّور عثمان أبَّكر حين قال:
"لسنابلٍ أعطينَ عُمري لونهُ ومذاقهُ
حبِّي لكم"..
...
...
وبعد..
بعد الغيابِ البائنِ لأشجارِ الحنانِ عن الكتابة الشِّعرية على هذهِ الأرض، هل تنوي أشجارٌ أخرى إغداقَ حنانها مرةً أخرى ليتسنَّى لنا القول مع عاطف خيري:
"الحنانُ أخِيرَاً..
على التَّرُوسِ الغريبةِ سالْ"..
الصورة للسيد احمد الحر دلو
أنس مصطفى/الخرطوم