أصول التدوين و أنماط الكتابة عند جمال الغيطاني ( ١- 4) /
خاص ألف
2014-05-26
أفكار و حدود
في اللغة ( دون) ضد فوق و هو تقصير عن الغاية و تكون ظرفا. و يقال ( دوّن) الديوان: جمعه. و منه : ( الديوان و الدٓيْوان): و تعني الصحف أو الكتاب. و يفهم من ذلك أن التدوين هو تنزيل للأفكار من موقعها في الذهن المفكر إلى موقعها في الكتابة.
و هذا التفسير، الذي يبدو لنا على شيء غير قليل من الغرابة، يوفر للكتابة وظيفة غير وظيفتها الأصلية ( التعبير عن أفعال تتطور و تنضج بمرور الوقت ) بحيث تتحول لمدونة ثابتة هي فضاء أو مكان أو لنقل وعاء يحتفظ بالمعاني.
إن التدوين حركة تؤثر بها الظروف. و لكن على اعتبار أنه يصدر عن نشاط نفسي يختلف عن الإيحاء ( مثل النصوص و الكتب السماوية ) فقد تحول من مجال التعاليم و الأفكار الخالدة إلى مجال الدوال ( حيث يوجد سياق خاص بالتواصل يختلف حسب المناسبة و أساليب التفسير). و هذا نشاط يتأثر بالعصر و الحقبة و الأفكار السائدة و مفهوم القوة و يكون بعيدا عن الديمومة التي يعبر عنها خير تعبيرالنشاط الروحي.
و بعبارة أخرى: إن المدونة أداء وضعي متعارف عليه و له جانب ذاتي و شخصي ( وجدان و عاطفة ) يلعب دورا أساسيا في كل من الإرسال و التلقي.
و انطلاقا من هذه النظرة المتحولة لكل من الزمان و المكان و هما من الأسس التي لا مفر منها في التجربة البشرية يمكننا النظر في خصائص التجربة الفنية المتميزة لجمال الغيطاني.
فهي تجربة غنية تقف على مسافة واحدة من التحديث و التأصيل. و لكنه فعلا لم يكن توافقيا. بل إنه على أشد ما يكون من الحزم حيال التكوينات و العناصر. فالأصول في مدونته بلا قيمة ثابتة و يمكن القول إنها جاءت من خلف المعايير.
و يمكن التدليل على ذلك من النقاط التالية:
١- لقد أعاد النظر بالمفاهيم الفلسفية و الجمالية لمعنى " الزمني" و ليس " المكاني". فالقاهرة لديه ليست مدينة ذات خصائص جغرافية و لكنها حقبة من التاريخ بما تنطوي عليه من أحداث جسيمة ستترك ندبة في الذهن. بمعنى أنه أصر على المتحول في معادلة أدونيس و ليس الثابت. لقد كان أقرب لروح المدونة لا شكلها و معيارها.
٢- و حاول تعريف كل الأشياء الخارجة على نطاق المعارف. و للتوضيح إنه اقترب من الحداثة الغامضة التي ليس لها أب و المستوردة لأرض لم يحرثها أحد بعد عن طريق الأصول. فقد وظف العمارة و الكتابة المملوكية لتشكيل الذهن الحديث و المعاصر.
٣- ومع أنه بدأ مع نهاية الخمسينات و اشتد عوده في الستينات و هي مرحلة النهضة الوطنية المعادية للمشروع الإمبريالي الداعم للحداثة، لم يتورط مثل غيره في حملة البروباغاندا و لا في الهتافات و الشعارات. و التف من حول الإيديولوجيا المخجلة و العارية و وفر لها عاطفة مصدرها هو شرطها التاريخي أو ضرورتها.
معنى الزمان و المكان
يؤكد غاستون باشلار أن ( اللحظات الفاعلة يتم إنجازها دائما على صعيد يختلف عن الصعيد الذي ينفذ فيه الفعل) و هذا يضع الزمان بالمعنى الدقيق للكلمة في موضع علامة. كأنه كلمة لها معنى ( ص ١٣٣).
فالعلامة كما هي حال الدال في اللغة حامل للمعاني. ما أن تدخل في سياق حتى تصبح جزءا من نظام خطابه. فتنفصل عن معنى القاموس و تتحول إلى إشارة ( علامة في شبكة من العلامات المتجاورة).
إن البناء النهائي هو الذي يضلل القارئ و يغير من مغزى المفردات، لأن كل شيء يصبح مرهونا لذات إنتاج و ذات استهلاك و ميثاق غامض و متحول بينهما.
لقد كان لزمن الأحداث عدة مستويات عبر تاريخ الكتابة و هي:
١- الأزمنة الثابتة التي تقاوم التبدل. و تعرف باسم الأزمنة الروحية. و هي تتطور مع الخطاب. و لا تنفصل عنه. إنها أزمنة غير تواصلية و تعمل على التبشير برسالة تأتي من الأعلى لتخاطب من هم أدنى منها. و هذا يفترض حكما وظيفة تربوية و تعبوية. و قد لعب جمال الغيطاني في عدة مناسبات بهذه الأساليب و سخرها بصفة أداة حاملة. كما فعل في الزويل ( كموروث شعبي) و متون الأهرام ( كرسالة حضارية من أزمنة غابرة).
٢- زمن الوقائع و الأحداث. و هو أقرب لمفهومنا عن السيرة الشخصية. و يترادف مع لحظات الأداء. و هو ليس مثل سابقه ( يتوسل بشكل رؤيا و إنشاد) و لكن يغلب عليه نشاط العين أو نشاط النظر و الإبصار. و لكن يضاف له نشاط التاويل و التفسير و الذي تغلب عليه الذات المنتجة و طريقة نظرتها لما يجري.
و إن هذه المتتالية التي نراها بالعين و نسمعها بالأذن تحتاج لمسرح أحداث .
و إذا حصل عدم انسجام بين زمن و مكان التطورات ينشأ نوع من التعارض الذي يتسبب لموضوع الرغبة بالكبت. و هذا كما هو متوقع مصدر لعصاب سيتسبب للبطل و الشخصيات بالاضطراب و ستميل الأحداث لتكون ألغازا غامضة و بالتالي ستتوسع الأحلام و قطاع اللاشعور ( الجيوب السرية للأحداث). و أقرب مثال على ذلك في: ذكر ما جرى، ووقائع حارة الزعفراني. و هي أعمال تقوم أساسا على عقدة نفي و رفض ما هو كائن.
٣- زمن الواقع النفسي و الطبيعي. و هو إخباري بذاته. و تتجاور فيه العناصر و الأدوات و تنتظم في بنية شاملة و عضوية. بمعنى أن الزمان يكون متوالية تتسلسل فيها المشاهد.
و يمكن تمثيل كل لحظة بنقطة على محور أفقي متصاعد. و تكون الحقبة هي الخط الذي يصل بين نقطتين هما بداية الأحداث أو المشاهد و نهايتها.
و يمكننا دائما التمييز بين الأفعال التجريدية كما هي بذاتها و كما هي لذاتها. أو التمييز بين الفعل و طريقة الأداء. حيث أن الأول يكون مستقلا و عاما و الثاني له خصوصية و يفترض على الأقل وجود شخص حامل و مكان حاضن. أو قوة تطبيق و مهد.
و أفضل النماذج على ذلك نفثة مصدور و دفاتر التدوين التي تتراوح بقيمتها الفنية من رواية تعتمد على الذاكرة إلى خواطر و لوحات قصصية لها رصيد واقعي في ذاكرة الكاتب.
كما أرى إن هذا التصنيف يبدل من حدود النوع و يؤثر في البنية و طرق التعبير عنها و حتى على المفردات و التراكيب.
مثلا إن الاهتمام بالمكان و الزمان الثابت يرفده اهتمام بالمشاهد و المناظر الطبيعية المنبسطة التي لها دلالة ملحمية مثل قصور و مساجد المماليك بزخارفها التي لا تفنى و الاي تشبه الصلاة و التراتيل ذات النبرة الثابتة و المتكررة. و هذا يفترض وجود شخصيات بسيطة متصلة بالبيئة الحاضنة. لا يؤثر بها توالي العصور و السنوات. إنها أرواح حارسة تعمل من فوق الواقع و تعتبر جزءا لا يتجزأ من عقيدة المكان و رهبته و خشوعه.
و لذلك إن المفردات من نوع خاص مثل: الحلم، الباطن، الوجدان، النفس. و ما يترتب عليها من تراكيب و أداء.
و هنا يغلب المجاز على الحركة و تكون الجمل غير تامة. مثلا الجمل الإسمية تتألف من اسم و جملة فعلية. اما الأفعال فتكون بلا فاعل، فالفاعل هو النفس الخالدة أو الله جل جلاله. و لو أنها أفعال شريرة يكون الفاعل غامضا و مختبئا خلف حراسه او في داخل حصونه و تغلب عليه صفات و نعوت الشيطان و كل أبطال الظلمات و عالم الظل و ما شابه من قوة إبليسية في مكمنها تحت الأرض. و الزيني بركات مثال نموذجي على عالم الرهبة و الموت و الأفعال الدنيئة و التي تتفنن باساليب التعذيب في أقبية و سجون سرية.
و لكن في حال الاهتمام بالسيرة و الوقائع يغلب على المدونة الجمل التامة ذات المدلول الداخلي. و ذلك في إطار من المغامرات التي لا ينقصها الحنين و التعاطف.و كانها قصص تشويق و رومانس. أو حب و هيام.
أما في حقل النشاط الطبيعي و الذي يتخصص بإعادة تركيب الواقع فهو يركز على صفات المكان و كل المرئيات. و بطريقة من إثنتين: العين العادية و عين الكاميرا. و قد يتطلب ذلك قصة سياحية يكثر فيها استخدام الكاميرات و لغة المرشد السياحي.
***
لقد ترك جمال الغيطاني وراءه كنزا من الاشكال و الأساليب الأدبية. و انعكست فيها طبيعة مقاربته لما حوله: هل اقترب من بواطن الامور بعينه ام بقلبه أم بذهنه الوقاد و المستنير.
و لضرب مثال على ذلك يمكن أن نلجأ لحرف الواو. فهو حرف علة أصلي - تفصيل ذلك في الإمتاع و المؤانسة - الليلة الثامنة- و باعتبار أنه لا يمكن أن يخلو منه نص ( إلا إذا غاب قسرا جريا على عادة أدباء عصور الانحطاط ) يمكن أن نجد منه الأنساق و المعاني التالية:
١- معنى القسم. و معنى ربّ للتعليل و معنى الحال. أو أنه يكون في أصل الفعل و الاسم.
٢- معنى الاستئناف أو حرف الجر أو أن يكون حرفا زائدا ( مقحما ) لا ضرورة له. ثم معنى الحال مجددا.
٣- معنى العطف و ربما الاستئناف.
و يمكن توضيح تفاصيل ذلك في الجدول التالي:
النمط .... سفر البنيان ( ص ١٦٤).... ذكر ما جرى( ص٥)....نفثة مصدور(ص٧)
واو الحال........ ٣
٪ ١.٩٢٣
واو الاستئناف ٢ .............................٦........................١
٪. ١.٢٨٢....................٥.٢٦٣.............٦٤٥،.
واو العطف. ٢.............................٣..................٨
٪. ١.٢٨٢...................٢.٦٣٢..............٥.١٦١
لقد كان للواو ثلاث مقامات حسب طريقة تعامل النص و كاتبه مع زمن الأحداث. و لذلك أمكننا ان نرى ثلاثة اشكال متباينة لكل شكل نمط و بالتالي معنى و مقام. كما يلي:
١- واو الحال و يهتم بالباطن على حساب الظاهر. و تراه في التجليات و المواقف.
٢- واو الاستئناف و هو رابط في صيغ البنية من منظور رؤية ذاتية خاصة.
٣- واو العطف و يفيد التسلسل الظاهر و المنطقي للاحداث.
لقد كان حرف العلة ( الواو ) يتردد كثيرا في النماذج الوجدانية غير الواقعية. و ربما ذلك لطبيعة التعبير الفني عند الغيطاني. فهو يتعامل مع الأسماء و الأفعال من منظور الداخل أو الذات و هذا يكون على حساب واو الفارقة ( واو الجماعة في الأفعال ). فالنص لديه دائري و بلا أضلاع و في مركزه تجد ذات الكاتب المفردة و أحاسيسه و عواطفه و طريقة إدراكه للأمور و تفسيرها من خلال ما تتركه من أثر على قلبه و ليس عينه، على مشاعره الخاصة و ليس على نشاطه الحيادي الذي له هدف واحد و هو التواصل البريء و اللانفعي.
و توضيح ذلك في الجدول التالي:
النمط. ( زمن ثابت ) معناه : القسم، التقليل، الحال، من أصل الفعل و الاسم
الأمثلة: عجائب و الله عجائب ، سفر البنيان ( ص ١٦٤).
النمط ( وقائع) معناه: الاستئناف، حرف الجر، حرف زائد، حال.
الأمثلة: الصياغات الإجرائية التي أباحت..(ص٥ ، ذكر ما جرى).
النمط ( واقع): العطف، الاستئناف.
الأمثلة عديدة و لا داعي لذكرها.
لقد كان لكل نمط حرف ( واو ) خاص به. و كأنه كلمة لها معنى. و غني عن القول أن الكاتب لم يكن ينتقي حروفه عن عمد و لكنها كانت تأتي بشكل تلقائي و عفوي حسب الحالة النفسية. و هذا تسبب بفرق واضح في طريقة تكرار و تواتر حرف الواو كما في الجدول التالي:
النمط - سفر البنيان ( ١٦٤)- ذكر ما جرى( ٥)- نفثة مصدور ( ٧)
واو من أصل الفعل ١٠------------------٣------------------٢
نسبة مئوية. ٦.٤---------------٢.٦---------------١.٢٩
واو من أصل الاسم ١٥......................١٥........................١٧
نسبة مئوية. ٩٠٦ ١٣٠١٦ ٩٧، ١٠
أسماء موصولة و عطف٤..................٣.............................١
نسبة مئوية. ٢.٦٦...........٢.٦٣........................٠،٦٥
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |