رواية / بنات الرياض (الفصلين الخامس والسادس)
2006-05-07
(5)
وليد وسديم: قصة من الأدب السعودي المعاصر
يعتقد الرجل أنه بلغ غايته إذا استسلمت المرأة له، بينما تعتقد المرأة أنها لا تبلغ غايتها إلا إذا شعرت بأن الرجل قد قدّر ما قدمته له.
أنوريه دي بلزاك
كتبوا لي قائلين: لست مخولة للحديث بلسان فتيات نجد. إنك مجرد حاقدة تحاول تشويه صورة المرأة في المجتمع السعودي.
مازلنا في البداية يا أحباب. إذا بدأتم الحرب عليَّ في الإيميل الخامس، فماذا ستقولون عني بعد قراءة الإيميلات القادمة؟! «جايكم خير»!!
***
دخلت سديم مع أبيها على وليد الشاري في غرفة الضيوف، وقدماها بالكاد تحملانها من شدة ارتباكها. لم تصافحه اقتداءً بقمرة التي أخبرتها عند خطبتها أن أمها نبهتها ألا تمد يدها لراشد إذا ما دخلت عليه في وقت الشوفة (الرؤية الشرعية). وقف لها وليد احتراماً واتخذ مقعده بعد جلوسها هي وأبيها، الذي راح يسأله عن أمور متنوعة لم تستطع التركيز فيها. بعد مرور بضع دقائق خرج والدها من الغرفة مفسحاً المجال لهما للحديث والتعارف بحرية.
لاحظت سديم إعجاب وليد بجمالها من خلال نظراته لها عند دخولها عليه. رغم أنها لم ترفع رأسها طويلاً لكنها لمحته وهو يتفحص قوامها حتى كادت تتعثر في مشيتها. شيئاً فشيئاً استطاعت سديم أن تسيطر على ارتباكها وتتغلب على خجلها بمساعدته. سألها عن دراستها وتخصصها في الجامعة وعن خططها المستقبلية وهواياتها وصولاً إلى منطقة السؤال المحرمة: المطبخ!
سألها: وانتِ ما تبغين تقولين لي شيء؟ تسأليني عن شيء؟
أجابت بعد تفكير: أبغى أقول لك إني ألبس نظارات.
ضحك عن اعترافها وضحكت معه. بعد قليل قال لها وهو يحاول استفزازها:
على فكرة سديم، ترى وظيفتي فيها سفرات كثيرة للخارج.
ردت عليه سديم بسرعة وهي ترفع أحد حاجبيها بغنج:
ما هي مشكلة. أنا أحب السفر!
أعجب بفطنتها وردودها الشقية، وطاطأت هي رأسها وقد احمر وجهها بشدة. أحست بأنها بحاجة إلى فرملة لسانها بعد ذلك، وإلا فإن العريس سوف يهرب من طول لسانها! أنقذها دخول والدها بعد دقائق قليلة فاستأذنت منصرفة بسرعة بعد أن منحته ابتسامة عريضة ومنحها ابتسامة أعرض، فخرجت من الصالة وفي قلبها عصافير تزقزق.
بدا له وليد وسيماًَ، مع أنه ليس من النوع المفضل لديها من الرجال، فهي تحب اللون المائل للسمرة وهي أبيض مُشرَّب بحمرة. شاربه الخفيف مع السكسوكة وتلك النظارة ذات الإطار الفضي الصغير، كانت تضيف إلى وجهه الكثير من الجاذبية.
طلب وليد من أبيها بعد انصرافها أن يسمح لها بمهاتفتها للتعرف عليها أكثر قبل إعلان المِلكة، فوافق الأب وأعطاه رقم هاتفها الجوال. اتصل بها وليد في وقت متأخر من تلك الليلة. ردت عليه بعد تردد. عبر لها عن مدى إعجابه بها. كانت يتحدث قليلاً ثم يصمت كأنه ينتظر منها تعليقاً على ما يقول. قالت له إنها سعدت بالتعرف إليه ولم تزد، فأخبرها أنه قد فُتن بها وأنه لن يطيق الانتظار حتى عيد الفطر ليعقدا قرانهما.
توالت اتصالات وليد بها بعد ذلك. كان يهاتفها عشرات المرات كل يوم، أُولاها عند استيقاظه من النوم في الصباح وقبل توجهه لعمله، وآخرها مكالمة مطولة قبل النوم تمتد حتى بزوغ الشمس أحياناً. كان يوقظها من نومها ليسمعها أغنية أهداها إياها عبر الإذاعة، وكان يطلب منها كل يوم أن تختار له نظارة أو ساعة أو عطراً من محال مختلفة ليقوم بشرائها في ما بعد حتى يكون كل ما يرتديه على ذوقها.
أصبح حب وليد لسديم مثار حسد بقية الفتيات، خاصة قمرة التي كانت تتحسر على نفسها عند تصف لها سديم مكالماتها مدى تعلقها بوليد وتعلق وليد بها، فتبدأ قمرة باختلاق الأكاذيب عن حياتها السعيدة مع راشد، وما يفعله وما يجلبه لها حتى لا تشعر بالنقص أمام صديقتها.
تم عقد القران. بكت خالة سديم كثيراً وهي تتذكر أختها أم سديم، رحمها الله، التي ماتت وهي في عز شبابها ولم تفرح بابنتها الجميلة، وبكت ولدها البكر طارق الذي كانت تتمنى أن تكون سديم من نصيبه. أُجبرت سديم على أن تبصم في الدفتر الضخم، بعدما جوبه بالإهمال احتجاجها على عدم السماح لها بالتوقيع. قالت لها خالتها: «يا بنتي ابصمي وبس. الشيخ يقول تبصم ما توقع. الرجال بس هم اللي يوقعون».
بعد عقد القران أقام والدها مأدبة عشاء دعا إليها أقاربه وأقارب العريس، وفي مساء اليوم التالي جاء وليد ليرى عروسه التي لم يقابلها منذ الرؤية الشرعية. قدم لها في تلك الزيارة الهدية المتعارف عليها في فترة المِلكة: هاتف جوال من أحدث الموديلات في السوق.
في الأسابيع التالية كثرت زيارات وليد لسديم، معظمها كان يتم بعلم والدها وقليل منها دون علمه. كان عادة ما يأتي لزيارتها بعد صلاة العشاء ولا ينصرف قبل الساعة الثانية صباحاً، أما في عطلة نهاية الأسبوع فقد كانت الزيارة تمتد حتى ساعات الصباح الأولى.
كان يدعوها مرة كل أسبوعين إلى العشاء في مطعم فخم، أما في بقية الأماسي فقد كان يجلب معه طعاماً أو حلويات تحبها. كانا يقضيان الوقت في الحديث والضحك أو في مشاهدة فيلم استعاره من أصدقائه أو استعارته هي من صديقاتها، ثم بدأت الأمور تتطور، حتى ذاقت طعم القبلة الأولى.
كان معتاداً على تقبل وجنتيها كلما قدم لزيارتها أو أراد توديعها، إلا أن وداعه لها تلك الليلة كان أشد سخونة من ذي قبل. ربما كان للفيلم الذي شاهداه معاً دور في خلق الجو المناسب حتى يطبع على شفتيها العذراوين قبلة طويلة.
بدأت سديم استعداداتها للزفاف. كانت تطوف المحلات مع أم نوير أو ميشيل أو لميس، وكان وليد يرافقها في بعض الأحيان، خاصة إن كانت تنوي شراء ثياب للنوم.
تحدد موعد الزفاف بعد انتهاء امتحانات آخر السنة، وذلك بناء على رغبة سديم التي خشيت أن تتزوج في عطلة الحج فلا تتمكن من الاستعداد بشكل جيد للامتحانات النهائية، وهي الحريصة دوماً على التفوق في دراستها. أثار قرارها استياء وليد الذي كان متلهفاً إلى الزواج بأسرع وقت، فقررت أن تراضيه.
ارتدت في تلك الليلة قميص النوم الأسود الشفاف الذي اشتراه لها ورفضت أن ترتديه أمامه يومها، ودعته للسهر في بيتها من دون علم والدها الذي كان يقضي الليلة مخيماً في البر مع أصدقائه.
الورد الأحمر الذي نثرته على الأريكة، والشموع المنتشرة هنا وهناك، والموسيقى الخافتة التي تنبعث من جهاز التسجيل المخفي، كلها أمور لم تثر انتباه وليد كما أثاره القميص الأسود الذي يكشف من جسمها أكثر مما يخفي. وبما أن سديم كانت قد نذرت نفسها تلك الليلة لاسترضاء حبيبها وليد فقد سمحت له بالتمادي معها حتى تزيل ما في قلبه من ضيق تجاه تأجيلها لزفافهما. لم تحاول صده كما اعتادت أن تفعل من قبل إذا ما حاول تجاوز الخطوط الحمراء التي كانت قد حددتها لنفسها وله في بداية أيامهما بعد عقد القران. كانت قد وضعت في ذهنها أنها لن تنال رضاه الكامل حتى تعرض عليه المزيد من «أنوثتها»، ولا مانع من ذلك في سبيل إرضاء وليد الحبيب، من أجل عين تكرم مدينة.
انصرف وليد بعد أذان الفجر كعادته، إلا أنه بدا مشتتاً وحائراً على غير العادة، اعتقدت أنه يشعر بالتوتر مثلها بعد ما حصل. انتظرت سديم اتصاله المعتاد بعد وصوله إلى منزله، خاصة أنها بحاجة ماسة لرقته وحديثه بعد ليلة كهذه، لكنه لم يتصل. لم تسمح سديم لنفسها بالاتصال به وانتظرت حتى الغد ولكنه لم يتصل أيضاً. قررت على مضض أن تمهله بضعة أيام حتى يهدأ ثم تتصل هي لتستفسر عما به.
مرت ثلاثة أيام وسديم «ما جاها خبر». تخلت عن ثباتها واتصلت به لتجد هاتفه النقال مقفلاً. ثابرت على الاتصال به على مدار الأسبوع وفي أوقات مختلفة علها تنجح في الوصول إليه ولكن هاتفه النقال ظل مقفلاً، وخط غرفته الثابت كان مشغولاً باستمرار! ما الذي يجري؟ هل أصابه مكروه؟ هل ما زال غاضباً منها إلى هذا الحد حتى بعد كل محاولاتها لاسترضائه؟ ماذا عن كل ما منحته إياه في تلك الليلة؟
هل أخطأت بأن سلمته نفسها قبل الزواج؟ ويلاه! هل جُنّ وليد؟؟ أيعقل أن يكون هذا ما دفعه للتهرب منها منذ ذلك اليوم؟ ولكن لماذا؟ أليس زوجها شرعاً منذ عقد القران؟ أم أن الزواج هو القاعة الضخمة والمدعوات والمطربة والعشاء؟؟ ما هو الزواج؟ وهل ما فعلته يستحق أن يعاقبها عليه؟ ألم يكن هو البادئ بالفعل؟ ألم يكن هو الطرف الأقوى؟ لِمَ أجبرها على ارتكاب الخطأ ثم تخلى عنها بعده؟ من منهما المخطئ؟ وهل ما حدث خطأ في الأصل؟؟ هل كان يمتحنها؟ وإذا كانت قد فشلت في الامتحان، فهل يعني ذلك أنها لا تستحقه؟ لا بد من أنه ظنّ أنها فتاة سهلة! ولكن ما هذا الغباء؟! أليست زوجته وحلاله؟ ألم تبصم ذلك اليوم في الدفتر الضخم إلى جانب توقيعه؟ ألم يكن هناك قبول وإيجاب وشهود وإشهار؟ أم أن كل ذلك لا يعني أنها أصبحت زوجه شرعاًَ من دون حفل الزفاف؟
لم يخبرها أحد عن ذلك من قبل. هل سيحاسبها وليد على ما تجهل؟ لو أن والدتها كانت على قيد الحياة لتحذرها وتوجهها كما كانت تفعل خالتها أم قمرة مع ابنتها لما حدث ما حدث. ثم إنها سمعت قصصاً كثيرة عن فتيات قمن بمثل ما قامت به مع وليد وأكثر في فترة المِلكة وقبل الزفاف! حتى أنها سمعت عن كثيرات ينجبن أطفالاً مكتملي النمو بعد العرس بسبعة أشهر فلا يكترث سوى قلة ممن يلاحظون مثل هذه الأمور... فأين الخطأ؟
من يرسم لها الخط الدقيق الفاصل بين ما يصح فعله وما لا يصح؟ وهل الخط الفاصل في الدين هو الخط نفسه المرسوم في عقل الشاب النجدي؟ كان وليد يلومها كلما حاولت صده بقوله إنها زوجته على سُنة الله ورسوله، وكانت خالتها وأم نوير يحذرانها من مجاراته لأنها ماتزال خطيبته فقط! فمن تصدق؟ من يشرح لها سيكولوجية الشاب السعودي حتى تتمكن من الفهم! هل اعتقد وليد أنها فتاة «مجربة»!!؟؟؟ هل كان يفضل أن تصده؟؟ هي لم تفعل أكثر من التجاوب معه بالطريقة التي تراها على شاشة التلفاز أو تسمعها من صديقاتها المتزوجات أو المجربات، وقام هو بالبقية! فما ذنبها إن هي قبلت بمجاراته وعرفت كيف تتصرف معه في موقف كهذا؟ لم تكن المسألة بحاجة إلى كيمياء وفيزياء! فما هذا الغباء الزفتي الذي يسفلت عقل وليد؟؟؟
اتصلت بأمه فأخبروها أنها نائمة. تركت اسمها للخادمة وطلبت منها أن تخبر سيدتها أنها تصلت بها، وانتظرت اتصالاً من أم وليد فلم تحصل عليه... هل تخبر أهلها؟ هل تخبر والدها عما تم في تلك الليلة السوداء؟ كيف ستخبره؟ وما تخبره؟ وإن سكتت، فهل ستسكت حتى موعد العرس؟ وماذا سيقول الناس يومها؟ العريس طفش؟! لا! لا يمكن أن يكون وليد على هذا القدر من اللؤم! لا بد أنه في غيبوبة في أحد المستشفيات. أن يرد في المستشفى أهون عليها ألف مرة من أن يتهرب منها بهذا الشكل!
ظلت سديم في حيرة من أمرها، تنتظر زيارة من وليد أو اتصالاً. تحلم بأن يأتيها راكعاً طالباً الصفح. لكنه لا يأتي ولا يتصل! سألها أبوها فلم تجب، وإنما أتته الإجابة من وليد: ورقة طلاق! حاول الأب أن يفهم من ابنته سر هذه المفاجأة التعيسة فانهارت باكية بين يديه ولم تفصح له عن شيء. ذهب غاضباً لوالد وليد الذي نفى علمه بأي شيء وأخبره بأنه متفاجئ مثله بما حدث! كل ما قاله وليد لأبيه أنه اكتشف عدم راحته لعروسه ففضل فسخ العقد الآن قبل أن يتم العرس ويدخل بها.
كتمت سديم سرها عن الجميع، وظلت تلعق جراحها بصمت حتى جاءت الصدمة الثانية: رسوبها في أكثر من نصف المواد في عامها الجامعي الأول.
(6)
أنا لميس والأجر على الله!
على الدفاتر خلّفتُ الصِبا نـــــــــــــتفاً وفي الفصول تركتُ القلبَ أجزاءَ
على الطباشير شيءٌ من دمي... عجباً تبدو الطباشير رغم الجرج بيضاءَ
غازي القصبي
أعترف بأن قدرات الناس على الربط والتحليل ما انفكت تفاجئني! رسائل كثيرة وصلتني تسألني عن هويتي الحقيقية، وهل أكون إحدى الفتيات الأربع اللواتي أكتب عنهن في هذه الإيميلات؟ ولمَ لم؟ ما رأيكم في أن أضع لكم رقماً لإرسال توقعاتكم حتى تظهر على إحدى محطات الأغاني؟ خلونا نترزق الله! نضع مذيعة لبنانية مهضومة تستقبل توقعاتكم على طريقة:
«بونسوار لإلكون، مين بتتوأعوا تكون الشخسيي المجهولي؟ أمَرَ يَما سديم يَما ميشيل يَما لميس؟ احزوروا وبتربحوا تزكرتين مع إكامي ببيروت تتجوا تحضرونا بحفلة البرايم! ويمكن أن يكون الحز من نسيبكون وتفوزوا بساعة بؤرب الحبيب، يا للي هوي شخصيتنا المجهولي! احزور وما تتأخر! اتصل أو ابعتلنا «إس إم إس» ع هالأرآم المكتوبي ع الشيشي».
حتى الآن تنحصر أغلب التوقعات ما بين قمرة وسديم، واحد فقط يرجح كوني ميشيل، لكنه يستدرك قائلاً إن انكليزية ميشيل أفضل من إنكليزيتي... هو أنا تكلمت إنكليزي أصلاًَ!؟ صحيح تجيك التهايم وأنت نايم! يو قت أكيوز وايل يور أسليب! حتى لا تقولا إنني لا أعرف إنكليزي... ما أضحكني فعلاً هو إيميل من هيثم من المدينة المنور ينتقدني فيه لتعصبي لبنات الرياض «البدو» وإهمالي لشخصية تميس، أعني لميس، حبيبة القلب مازولا. هل يعرفها الأخ من ورائي؟ ولا يهمك يا أخ هيثم. إيميلي اليوم سوف يكون عن لميس، ولميس فقط... بس لا تزعل علينا يا أبو هيثم يا عسل: «أبو هيثم عسل بدون ميم قبل العين، والحدث يفهم!». وش نسوي يا أبو الهياثم؟ بدو! ما علينا شرهة! على رأي إحدى دكتوراتي الحجازيات في الجامعة: بَدَوِيّة زِفتة!
***
على الرغم من التشابه الظاهري بين لميس وتوأمها تماضر، إلا أن هناك اختلافات شاسعة بين الأختين في الطباع والأفكار، ومع أنهما اشتركتا في الفصل في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، وحتى في دراستهما الجامعية حيث التحقت كلتهما بكلية الطب البشري، إلا أن تماضر كانت وحدها مثار إعجاب الأساتذة والأستاذات، لجديتها الشديدة وشخصيتها المنضبطة، بينما كانت لميس «الدافورة أو الشاطرة الكول» المفضلة بين الأختين لدى زميلاتهما، لظرفها وقربها من الجميع، مع محافظتها على مستواها الدراسي المرتفع. كانت لميس أكثر جرأة وشجاعة من تماضر التي تؤثر السير إلى جانب الحائط، وتصف أختها دائماً بالمتهورة واللعوب.
كان والدهما الدكتور عاصم حجازي عميداً سابقاً لكلية الصيدلة، ووالدتهما الدكتورة فاتن خليل وكيلة سابقة في الكلية نفسها، كانا العاملين الأساسيين في نجاح الفتاتين وتفوقهما الدراسي الملحوظ. منذ ولادتهما والأبوان يحرصان كل الحرص على توزيع الأدوار في ما بينهما حتى يوليا كلاً من الطفلتين ما تحتاجان إليه من اهتمام ورعاية. ومع دخولهما الحضانة، فالروضة، فالمدرسة، كان اهتمام الأبوين يزداد، وحرصهما على تميز ابنتيهما يتكثف.
لم ينجب الزوجان سوى هذا التوأم، الذي لم ينجباه إلا بعد عناء وعلاج طويلين داما على مدى أربعة عشر عاماً، رزقا بعده برحمة من الله هاتين الطفلتين الجميلتين. لم يحاولا الإنجاب بعد ذلك، حيث إن سن الأم أصبحت متأخرة، ومحاولات الإنجاب بعد ذلك قد تؤثر سلباً على صحتها وصحة الجنين.
من أطرف الحوادث التي مرت بلميس أيام دراستها الثانوية، عندما كانت في الصف الأول الثانوي، كان أن اتفقت هي وميشيل وزميلتان لهما في الفصل على تبادل بعض أفلام الفيديو. في اليوم المقرر جلبت كل منهن أربعة أفلام. اتفقن على توزيع الأفلام الستة عشر في ما بينهن في آخر الدوام، إلا أن الحظ التعيس أو («القرادة»، الرجاء الرجوع إلى الإيميل الأول للشرح)، كان لهن بالمرصاد. سمعت الفتيات عن نية الإدارة بتفتيش الفصول وحقائب الطالبات بحثاً عن الممنوعات وعلى رأسها أشرطة الفيديو والكاسيت.
لم تدر لميس هل وشت إحدى الفتيات بهن، أم أنه مجرد سوء الحظ الذي يلازمها. ارتبكت الفتيات الأربع وأسقط في أيديهن حينما تسرب خبر التفتيش، والمصيبة أن المخالفة لم تكن عبارة عن شريط أو اثنين. إنها ستة عشر شريط فيديو! مع أربع من أوائل الطالبات! يا للفضيحة التي لم تكن على البال! على رأي ماري منيب: «دي اللي حصل واللي جرى لا ينكتب ولا ينقرا»!
جمعت لميس الأشرطة من الفتيات، ووضعتها في كيس وَرَقي كبير، وطلبت منهن أن يتصرفن على طبيعتهن «وهنا تتضح قدرات لميس الإرهابية». أخبرتهن بأن كل شيء سوف يكون على ما يرام وأنها ستتولى الموضوع.
ذهبت بالكيس خلال الفسحة إلى دورة المياه، وراحت تبحث عن مخبأ مناسب. لم يكن المكان مناسباً، فالكيس كبير وهي تخشى أن تجده أي من العاملات فتقوم بالاستياء عليه أو إيصاله للإدارة، وحينها لن تكون مشكلتها مع الفضيحة المدرسية بل مع زميلاتها اللواتي لن ترضى أي منهن أن تفرط بأشرطتها! حاولت إخفاء الكيس في خزانة الفصل إلا أنها شعرت بأن المكان مكشوف ومتوقع. كان الأمر أشبه بلعبة «غميمة» في وقت ومكان غير مناسبين.
جاءتها الفكرة العبقرية! طرقت باب غرفة المعلمات وطلبت رؤية معلمتها المفضلة أبلة هناء، معلمة الكيمياء. جاءت أبلة هناء مرحبة بهذه الزيارة المفاجئة، وبجرأة شرحت لميس موقفها الصعب، فراحت أبلة هناء تولول:
«وشو بدك يانا نساوي يا لميس؟!»؛
«ولي عا قامتي!! مستحيل! ما بقدر خبيهون عندي!»؛
«لو عرفت الإدارة، والله ليفنشوني!»؛
«معقولة يا بنتي سطعش فيلم مرة واحدة! يا عيب الشوم عليكي».
أخذت المعلمة الكيس الضخم تحت ضغط لميس بعد تردد طويل، ووعدتها بأن تفعل ما بوسعها لإنقاذ سمعتها.
انقضت بعض المسؤولات في الإدارة على فصل لميس في الحصة الخامسة وقمت بتفتيش حقائب الطالبات وأدراج الطاولات والخزانة عن أية ممنوعات. خبأت بعض الطالبات ما يحملنه من أشرطة كاسيت «واحد أو اثنين» أو قنينة عطر أو ألبوم صور صغير أو جهاز بيجر في جيوب المريول المدرسي، ووقفن وظهورهن ملتصقة بجدران الفصل. كانت أعين صديقات لميس تدور مع المفتشات بهلع و هن بانتظار أن يعثرن على أفلامهن في حقيبة لميس!
أثناء الحصة الأخيرة، جاءت أحدى الساعات إلى فصل لميس مخبرة إياها بأن مديرة القسم الثانوي بالمدرسة قد طلبت رؤيتها. أطرقت لميس مفكرة: «هادي آخرتها يا أبلة هناء؟ تفتني عليا؟ أيش هادا الخوف؟ هادا وانتي أبلة طلعت خوافة أكتر مني! صحيح الأبلات ما لهم أمان».
دخلت لميس مكتب المديرة بلا خوف. «ذا دامج إز دون» ولن ينفعها الخوف والارتباط، لكنها كانت تشعر بحرج شديد، فهذه ليست المرة الأولى التي تقع فيها في مشكلة من هذا النوع ليتم استدعاؤها إلى مكتب المديرة.
وبعدين معك يا لميس؟ مو كفاية اللي سويتيه الأسبوع الماضي لما رفضتي تِعْلمينا مين البنت اللي حطت الحبر الأحمر على كرسي الأبلة في الفصل؟
تطأطئ لميس رأسها وتبتسم رغماً عنها عندما تتذكر كيف وضعت زميلتهن أوراد بضع نقاط من أنبوبة قلمها الأحمر على كرسي المعلمة بين الحصص. دخلت الأستاذة لتفاجأ بالقطرات الحمراء على جلد المقعدّ وقفت مشدوهة للحظات والطالبات يغالبن ضحكاتهن ثم سألت:
ـ من كان عليكن الحصة اللي قبل هاي يا بنات؟
ـ (بصوت جماعي): أبلة نعمت يا أبلة؟
خرجت الأستاذة مسرعة من الفصل لتبحث عن أبلة نعمت التي تكرهها الطالبات جميعاً، وبطون الطالبات تؤلمهن من شدة الضحك!
ردت عليها لميس يومها بغضب:
ـ أبلة أنا قلت لك إني ما أقدر أفتن على صاحباتي.
ـ هاذي اسمها سلبية يا لميس! إنتي لازم تكونين في صفنا إذا كنت حريصة على مستواك وعلاماتك. ليش مانتي مثل أختك تماضر؟
بعد هذا التهديد الصريح، والسؤال المستفز المعهود «ليس مانتي مثل أختك تماضر» قدمت أم لميس الدكتورة سميحة للقاء المديرة، وحذرتها من استخدام هذا الأسلوب مع ابنتها مرة ثانية. مادامت لميس لم تكن هي من قامت بترتيب المقلب، فليس من حقهن أن يطالبنها بإفشاء سر صديقاتها، والأفضل لهن كمعلمات أن يبحثن عن الفاعلة الحقيقية بأنفسهن عوضاً عن محاولة تسخير لميس للتجسس لحسابهن لتخسر بذلك احترامها لنفسها ومحبة رفيقاتها الكبيرة لها. صحيح أن المعلمات يسألنها دائماً لِمَ ليست كأختها تماضر، لكن صديقاتها بالمقابل يسألنها لِمَ ليست تماضر مثلها!
كانت لميس متأكدة من أن المدير ستكون أكثر تساهلاً معها هذه المرة، خاصة أنه لم يمض على زيارة والدتها للمدرسة سوى أيام. كانت لوالدتها مكانة خاصة في تلك المدرسة، فهي رئيسة جمعية أمهات الطالبات منذ خمس سنوات ولها الكثير من المشاركات الفعالة في نشاطات المدرسة الخيرية، علاوة على أن ابنتيهاا من أبرز الطالبات في تلك المدرسة، وغالباً ما يتم اختيارهما لتمثيل المدرسة في المسابقات الثقافية على مستوى المنطقة.
قالت لها المديرة:
ـ أنا وصلني الكيس مثل ما انتي شايفة لكن أنا وعدت أبلة هناء أني ما أعاقبك وأنا عند وعدي. كل اللي حاسويه هو أني راح آخذ الأفلام معي اليوم وارجعها لك بعدما أتفرج عليها.
ـ تتفرجي عليها؟ ليه؟!
ـ علشان أتأكد إن ما فيها أفلام كده والا كده (وهي تغمز).
يا له من طلب مكشوفّ لِمَ لا تطلب منها بصراحة أن تستعير الأفلام لمشاهدتها؟ على أية حال، لن تتمتع هذه المديرة الكريهة بأفلامها بعد هذه المشاكل التي تقحمها فيها كل يوم.
ـ آسفة يا أبلة. الأفلام ما هي حقتي، وصاحباتي لو عرفوا إنو الأفلام اتخدت راح يبهدلوني.
ـ ومن هم صديقاتك هذول؟
يا لهذه المديرة التي لا تكف عن السؤال المحرم.
ـ ما قدر أقول لك يا أبلة. حيعرفوا إني قلتلّك وأنا وعدتهم إني أحل المشكلة لوحدي.
ـ مشكلتك يا لميس إنك مسوية فيها زعيمة عصابة وكل التهزيء يجي على راسك إنتي في النهاية! إما أنك تِعْلميني أسامي البنات اللي معك أو إني حاصادر الأفلام!
ـ (وهي تحاول اكتشاف صدق المديرة من كذبها) يعني يا أبلة، لو قلتلّك أساميهم دحينا ما حيوصل لهم خبر؟ ولا حيعرفوا إني فتنت عليهم؟ ولا حتعملي لهم حاجة أكيد؟
ـ أوعدك.
أخبرتها لميس بأسماء شريكاتها في الجريمة وأخذت الأفلام بعد ذلك ووزعتها بينها وبين صديقاتها الثلاث قبل انصرافهن إلى بيوتهن وهن يسألنها أين كان المخبأ وكيف استطاعت أن تتخلص من هذا الكيس الكبير! اكتفت لميس بابتسامة واثقة وقولها المعتاد: أنا لميس والأجر على الله.
هكذا كانت شخصية لميس، وكانت تماضر على العكس منها، هادئة ومطيعة، ورافضة لكل ما تقوم به أختها العنيدة.
رافضة؛ كانت تلك الكلمة بداية لأكبر خلافات لميس مع أختها تماضر، ومع بقية الشلة أيضاً.
08-أيار-2021
07-أيار-2006 | |
24-نيسان-2006 | |
24-نيسان-2006 | |
24-نيسان-2006 | |
09-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |