أصول التدوين و أنماط الكتابة عند جمال الغيطاني ( ٣-٤)
خاص ألف
2014-06-05
لم يرتكب جمال الغيطاني الفواحش في كتاباته. لقد قدم آيات الاحترام و التقدير لتاريخه النفسي و الوطني، و كان يقترب من العصور السابقة بشيء من الورع و التبجيل سواء في تقدير الظواهر العمرانية لمصر المحروسة أو في تقدير حضارتها الغابرة.
و بهذا الخصوص اقترب من فترة الفراعنة بنفس الإجلال الذي اقترب به من أوابد و رموز الإسلام غير السياسي الذي قاد لاحقا لأسلمة " مصر".
لقد وقف بنفس الخشوع و الرهبة أمام الأهرامات و المساجد. و لم يفرق بين مصر الوثنية التي عبدت الإنسان أو الملك الإله و بين مصر المسلمة التي تفاقمت فيها الأحوال و أنتجت أول ميليشيا جهادية.
إن لجمال الغيطاني ولعا بالتاريخ يصل لدرجة التقديس.
و هنا تجب الإشارة إلى أنه تعامل مع مفهوم التاريخ كظاهرة و ليس بشكل عصور غابرة من الماضي السحيق.
ولقد اتبع استراتيجية تفرق بين الوجدانيات التاريخية و ماديات الماضي الشخصي.
فهو يبدو مذنبا و شقيا كأنه نسخة من توم سوير أو هكلبري فين في سيرته ( الموزعة على دفاتر التدوين). لكنه ينظر للتاريخ المصري بكل فتراته و كأنه معبد لا يجوز فيه إلا الصلاة و ترتيل الأناشيد و بذل التأملات لاكتشاف منابع الإيحاء و دلائل لا فناء الوجود.
و لذلك لو نظرنا لطريقة تفسيره للماضي نلاحظ إن له أسلوبين:
- تركيب تاريخ البلاد و يحمل دلالة معرفة نفسية و روحية. مثل عمل جمال حمدان عن شخصية مصر. و هذا يعني حكما أنه لغويا بصيغة المبني للمعلوم. و لا حاجة لإعادة تعريفه. و كل ما يصدر عنه هو بديهيات و لو كان في جانب أسراري أو إشراقي.
- تركيب تاريخه الشخصي و يحمل غالبا دلالة تنكير. و تغلب عليه صيغ المبني للمجهول حيث أن الفاعل غير معروف و غامض. و هناك مسافة بين أداء الأفعال و أسلوب تمفصلها مع ذات الانتاج.
لقد كان الغيطاني في معظم دفاتر التدوين إنكاريا. أو أنه يستنكر ما أقدمت عليه يداه من آثام و أخطاء.
و على أية حال إن نظرة جمال الغيطاني لتاريخ مصر تختلف عن كل من سبقه. فإذا كان جرجي زيدان و محمد فريد أبو حديد أعادا الصياغة بشكل موضوعي و بطريقة جزافية. كان همها الأول تقديم العظات أو إثارة ما لدينا من مشاعر تعاطف مع الضعيف و المظلوم و مشاعر إدانة و استنكار ضد الطغاة و السفاحين. فإن الغيطاني أعاد تركيب التاريخ من زاوية ذاته. بطريقة الإسقاط و الترميز. و قد خلق ذلك مشكلة فنية..
لقد كانت (الزيني بركات ) رواية مخصصة لمشاهدة تطورات العصر المملوكي بانحلاله و مفاسده و ساديته. و لكن أطروحتها تتلخص في اكتشاف طبيعة الصراع على السلطة. إنها لا تختلف بشيء كثير عن الأطروحة المركزية لباتريك سيل في كتابه المشوق ( الصراع على الشرق الأوسط) و لا عن أطروحة كريم بقردوني في كتابه الذي يكاد يكون ترفيهيا و هو ( السلام المفقود).
لكلا الكتابين مقاربة مشوقة و ترفيهية لتدهور الأوضاع في الشرق الأوسط في زمن العسكرتاريا و تقاسم السلطات و ما يقف وراء ذلك من تآمر و دسائس و نرجسية تصل لدرجة المرض النفسي.
لقد كان الكتابان دراسة في ظاهرة انتاج الطغاة و حضانة الحروب الأهلية ذات المضمون المذهبي و الطائفي.
لقد كانت الغاية من الرواية إسقاط الماضي على الحاضر و لذلك خلت من روح الإرشاد أو الاتجاه التربوي الذي تراه لدى بعض الإيديولوجيين و لا سيما كتاب السير الإسلامية أمثال أحمد باكثير. لقد ذهبت الرواية بعيدا مع تحليل الظاهرة. ما لا يقبل التسلسل التاريخي و لكن التدفق و التواصل النفسي.
ما الفرق بين البصاصين في الزيني بركات و عالم المخابرات في نظام عبدالناصر و السادات. ألم يكن البصاص يعتمر قبعة مزركشة و يسكن في فسطاط فاخر الرياش و يمتطي الجياد الأصيلة. و ألم يكن رجال المخابرات بعد ثورة يوليو يقودون الإم دبليو التي تسابق الريح و يخبئون عيونهم بنظارات فاحمة السواد و يسكنون في فيلا في المقطم و مصر الجديدة؟؟!!..
إن الهم الأساسي اهذه الرواية هو ظاهرة التعذيب و فساد السلطات و ليس استعادة تاريخ المدونة بوقائعها. لقد استعاد منها الخلفيات و المغزى فقط.
وإن هذا يفتح أمامنا المجال لمقارنة جادة و ذات معنى بين صيغ الأفعال و تصنيفها في أعمال جمال الغيطاني المختلفة. و لنأخذ كمثال خلسات الكرى ( من دفاتر التدوين - حيث أن شكل كتابة السيرة هو الغالب ) و أوراق شاب عاش منذ ألف عام ( من نصوصه ذات المعنى أو التركيب التاريخي - حيث يستعمل إنشائيات و بلاغيات المدونة المملوكية ).
و للتوضيح أضيف (ليالي سطيح ) لحافظ إبراهيم ( كمثال عن مدونات عصر التنوير و النهضة).
سوف نلاحظ أن تواتر صيغ الفعل الحاضر في أوراق شاب ( مع أنه يفترض أنها تاريخية ) تزيد على مجموعها في كل من الخلسات و الليالي.
أما بالنسبة لصيغة الماضي ( كمعيار على النظر للخلف و على الروح الرجعية - إيديولوجيا أو سياسيا ) نلاحظ أنها بلغت في الليالي ثلاثة أضعاف ما هي عليه في الأوراق.
و لنأخذ ذلك كدليل و شاهد على الخلاف في المرجعية إن لم نقل على خلاف في موقف الكاتبين من معضلة الوجود و طرق صعوده أو حتى اكتشافه و التعبير عنه.
و توضيح ذلك بالجدول التالي:
خلسات الكرى
الصيغة ..... الفعل الماضي...... الحاضر..... الأمر
التواتر .... ٨................ ١٢........... -
٪............ ٥.٦..............٨.٥............ -
أوراق شاب عاش منذ ألف عام
الصيغة...... الماضي........الحاضر.... الأمر
التواتر........ ١٤.......... ٢٢....... ١
٪.............. ١١.٨......... ١٨.٥.....٨,.
ليالي سطيح
الصيغة..... الماضي.... الحاضر...... الأمر
التواتر....... ٣٣....... ١٠........ -
٪............. ٣١.١.......٩.٤......... -
إن طرق التعبير عن إسقاطات الماضي على الحاضر تختلف تماما عن معايشته.
و هذا إيضا يمكن توضيحه بمتابعة بسيطة و عامة لمشهد الكتابات النسوية. فمارغريت دوراس و فرجينا وولف تعبران عن الأزمة بصيغة الماضي. لأن كل أزمات العالم المعاصر تتحول في الضمير النسائي لنوع من الاحتراق البطيء لتبديد نظاميات اقتصادية تتغنى بالأحزان و تحتضنها.
إنهما في كل النماذج المعروفة تستعملان تيار الشعور للتأكيد على راهنية الماضي أو استمراريته و لإلغاء كل أشكال الحدود بين الأزمنة. و هذا نلاحظه عند قاصة سورية هي السيدة قمر كيلاني.
فكتاباتها ( امرأة من خزف ) و ( اعترافات امرأة صغيرة ) هامسة و متألمة و مكبوتة. و طوال الوقت تعاني الشخصيات من حصار و سوء تفاهم و بالتالي من اغتراب. و من النقطة الأخيرة ( الاغتراب ) تبدأ غادة السمان رحلتها بتقريع ضمير العالم المتيبس الذي أصابه الجمود و القحط و العطالة العاطفية.
إن الأساليب النسوية في الكتابة بعيدة عن السلوك الإنتحاري. و لو أرادت المرأة أن تقتل نفسها تفعل ذلك بشكل وديع. أن تلقي نفسها تحت عجلات قطار ( آنا كارنينا ) أو تغلق باب بيتها و تنتحر باستنشاق الغاز ( سيلفيا بلاث - و هذه نهاية حقيقية ). و لكن نادرا ما تفتح النار على الأعداء في الجبال و بين المرتفعات ( كما فعل همنغواي في لمن يقرع الجرس).
و يمكن التأكيد على ذلك من خلال قصة لكريستال أربوغاست. و هي كاتبة أمريكية معاصرة. تعمل سكرتيرة في محكمة الجنايات. و لذلك معظم قصصها تدور حول قصص واقعية من الأرشيف الجنائي. و منها قصة ( شريك الزنزانة - cellmate).
باعتبار أن القصة تعيد تركيب أحداث موضوعية منتهية بسبب وفاة بطل الأحداث يفترض أن تكون الجمل طويلة و معقدة و يتخللها ما نسميه بالماضي التام. و لكن هذا يصح على قصص الغيطاني و أمثاله فقط. لا سيما أنه تبنى بلاغيات نهايات العصور الذهبية للإسلام، حيث كانت اللغة المدهشة و المحسنات البديعية مقصودة لذاتها لا لمعناها.
لقد رأينا في قصة كريستال أربوغاست تركيزا على الماضي البسيط و الذي بلغت نسبته خمسة أمثال الماضي المركب أو المستمر was أو الحاضر المستمر is.
و الدليل على ذلك في الحدول البسيط التالي:
نمط الأفعال.... الماضي البسيط........Was .........Is
تواتر الفعل ٨٩ ١ ٣٤
٪. ٤.٧ ١.٨ ٥.,.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |