تسجيل المدونة

إن أسلوب تسجيل التدوين هو إضافة من جمال الغيطاني للكتابة.

لقد تفرعت من الحداثة أشكال ضد الميتروبول ( أدب المدينة ) و لكنها التزمت بأخلاقياته و منهجه و من ذلك أدب الفلاحين و الريف عند يوسف القعيد.

و قل نفس الشيء عن إعادة تسويق التاريخ. لقد كان إنتاجا للحدث نفسه مع ظلال و تلوينات بلاغية عند معروف الارناؤوط. و هو أيضا حال ثلاثية هيلاري مانتيل المعروفة باسم ( وولف هول - بلاط الذئاب).

فقد احتفظت بطبقات العمارة القديمة و ما يرادفها من طبقات عند الإنسان: الشعور و اللاشعور و ما بينهما من صور و معلومات. و لم تتخل كذلك عن التراسل و المشافهة الكتابية ( الحوار الطويل الذي يتحدث مباشرة و بالإنابة).

إن أحدث الامثلة على هذا الأسلوب تراه في (ليل علي باب الحزين) لعبدالخالق الركابي. فالرواية بناء يتكون من طبقتين. الأولى أحداث غزو العراق عام ٢٠٠٣ و الثانية ذكريات طويلة عن ثورة العشرين و الاحتلال البريطاني و ينقلها الراوي على لسان أحد الأصدقاء. و هذا يعني أن الراوي الأساسي - موضوع الأحداث مستتر.

و هو ما لا يتوفر في أدبيات الغيطاني. إنه لا يقبل أن يفلت من قبضته شاردة أو واردة. حتى أن زمن الأحداث يتماهى مع زمنه النفسي .

لقد كانت ميزة الغيطاني أنه ارتبط عضويا باختيار المدونة ذاتها و ليس محتواها.

و إذا كانت هناك مشكلة فهي في طريقة الاختيار. فالشخصيات و الأماكن و الأحداث الواقعية و الموجودة حتما تدخل في فلتر أو مصنع يعيد إنتاجها.

إن الغيطاني يبعث الحاضر المتحجر من رقاده بشكل أشباح من الماضي. و لا يلعب لعبة توفيق الحكيم و لا زكريا تامر. إنه لا يفسر شخصياته التاريخية بمنظور الفاصل الوجودي لمعنى الزمن كما في أهل الكهف مثلا.

لقد كان دائما ينظر للحاضر بمرآة من الماضي. و كأنه جان بياجيه الذي يتعرف على نفسه من صوره في المرآة.. إن التاريخ عند الغيطاني يعيد نفسه بشكل من الأشكال، و يمكن القول إنه ينفذ بالفن فكرة العود الأدبي التي تحدث عنها مارسيا إلياد.

و هذا يضع رؤيته بين قرسين.. فهو يقترب خطوة من ذهنية الحداثة ( شعار لا شيء يعلو على النص ) و في نفس الوقت يبتعد خطوة عن الواقعية .

لقد كان دور مدونة الغيطاني يتلخص في البحث عن مشروعية للحداثة في زمن لا يؤمن بها . من منا لم يسمع بأزمة مجلة شعر و بعدها مجلة حوار التي اضطر رئيس تحريرها للانتحار بسبب اتهامات بالخيانة و العمالة.

لم يكن الغيطاني كاتب روايات تاريخية و لكنه استعمل بعض القشور و الأدوات من التاريخ.

و كما أرى إن (الزيني بركات ) مثلا رواية معاصرة تتحدث عن كواليس السياسة لآخر ملك في دولة محمد علي. و لكن بقراءة ثانية يمكن أن نرى أنها تتحدث عن أزمة الضباط الأحرار و الصراع المستعر بينهم الذي أخذ شكل موجتين:

بعد تفجير الثورة مباشرة لحسم النتيجة لصالح العسكر و ليس السياسيين. (في الرواية الأمراء و ليس شهبندر التجار و أتباعه).

ثم بعد نكسة حزيران بين السياسيين أصحاب الرتب العسكرية و ضباط الميدان و المخابرات. و في الرواية تجد تفصيل ذلك بصورة الصراع الدامي بين آمر السجون و العسس و بين رجال الدولة و البلاط.

و أيا كان الأمر إن جمال الغيطاني لم يلتزم بقوانين أية مدرسة. بالعكس إنه التزم بقانون الظاهرة الخاصة به. التي دخلت للفن من باب شموليته و مركزيته. بحيث أن الذات هي التي تتحكم بالموضوع. و لذلك هي شمولية خاصة و تتحرك مع الحدث لا من فوقه و لا من ورائه. إنها أساليب لا تفرض على النص شيئا من خارجه و لا تحاول أن تسانده بمحتوى إضافي. أو مغزى يتراكم فوق معنى الدلالة النفسية.

و للتوضيح يمكن إجراء مقارنة بين قصته ( لماذا طار العصفور ) و القصة التي ورد ذكرها سابقا ( شريك الزنزانة ) لكريستال أربوغاست.

إن كلتا القصتين تتألفان من فقرات ( مقاطع - وحدات بناء صغرية ) و كلتاهما تتعاملان مع الأحداث بالمشاهدة و المتابعة و ليس من ضمن الفضاء النفسي.

بمعنى أنهما تعملان بطريقة الكاميرا و الذاكرة. أو طريقة البناء الواقعي للحدث.

و لكن بتفكيك كل نص على حدة لفقراته و لتراكيبه يمكن التوصل لملاحظات جوهرية تعزو لكل أسلوب فلسفة خاصة به و نهجا متعينا يعبر عن استراتيجية متميزة في بناء و قراءة الصور و الأفعال كما يلي:

قصة لماذا طار العصفور

الفقرة. ١. ٢. ٣. ٤. ٥. ٦. ٧

عدد الجمل. ١٥. ١٧. ٢١. ٢٥. ١٠. ١٨. ١٣

عدد الكلمات. ٥٠. ٥٥. ٦١. ٦١. ٣٥. ٨٠ ٣٥

عدد الحروف. ٤. ٥.١ ٤ ٤.١. ٤.٣. ٣.٦ ٤.٣

البياضات. ٦٦ ٦٦. ٧٣. ٨٢ ٤٢. ٨٠. ٤٦

المبني للمجهول .................صفر.............................

سهولة القراءة. ٦٦.٦ ٦٤.٦ ٥٨ ٤٨.٨ ٧٠ ٨٨.٨ ٥٣.٨

قصة شريك الزنزانة

الفقرة. ١. ٢. ٣. ٤. ٥

الكلمات ٢١٨ ٣٩٦ ٤٣٤ ٣٩٧. ٢٣٥

البياضات ٤٣٦. ٤٣٦. ٥٠٨. ٤٦١. ٣٦٧

الجمل. ٢٤ ٢٤.٦ ٣٠,٨. ٣١. ١٦.٨

الحروف. ٤.٣. ٤.٤. ٤.٣. ٤.٢. ٣.٩

م. للمجهول٪ ٨. ١٢. ٩. ١٦. صفر

س. القراءة. ٧٠.٧٠. ٦٦.٣. ٧٣.٩. ٧٥.٣. ٨٣

و على ما أعتقد إن ما يلفت الانتباه هو التقابل العكسي بين صيغة البناء للمجهول. صفر عند الغيطاني و حوالي ٥٠٪ من الجمل و العبارات ( لو تعاملنا مع كل فقرة على حدة ) عند أربوغاست.

إن هذه الفوارق الملحوظة لا تأتي من ضمير المؤنث و المذكر و لكن من أسلوب نقل الأحداث.

فجمال الغيطاني كاتب يهتم بالحالة الراهنة و بالتعايش مع الواقع بكل جلافته و خشونته. إنه كاتب مقاتل. يعارض التسلط و العذاب و القهر. و يؤنب المذنب و يعمل على تصويب انحرافات و تشوهات العالم.

إنه طرف فيما يحصل.

و هو يعرف أعداءه جيدا. فالأفعال تتصدر التراكيب و الجمل. و الفاعل واضح و لا لبس فيه.

و البياضات ( الفراغات بين الكلمات بتعبير بارت ) تبدو بأضيق الحدود.

بينما تأخذ قصة كريستال أربوغاست المنعطف المعاكس. إنها تسدل ستارة على الفاعل و تتعامل معه كأنه غير موجود أو كهوية لشخص غامض. لا سيما أن هناك جريمة لا نعرف من ارتكبها. و ترتب على ذلك استعمال جمل طويلة ( تتألف من عدد مضطرد من المفردات ) وبينها نسبة أعلى من البياضات.

و مع ذلك إن قصة أربوغاست لا تترك للقارئ مجالا مفتوحا للحدس و التكهن. إنها تسهل علينا أمر متابعة الأحداث. و لذلك تبلغ درجة سهولة القراءة ( نسبة الكلمات أمام عدد الجمل ) ما يزيد على ٧٠ بالمائة.

إنها لم تهتم مثل الغيطاني بالتأمل و عالم اللاشعور. وبالنشاط النفسي الصامت. و أسرارية عالم الشخصيات المنطوية على نفسها المتحصنة بالظلام و اللأدرية. لقد كانت في تراكيبه دائما نوايا مبيتة ليس من السهل الإقرار بها. حتى أن الفاعل الموجود هو نواة لخطط و مكائد مدبرة لا نعرف عنها شيئا. و لذلك بالكاد تتجاوز درجة سهولة القراءة لديه المعدل ( حوالي ٦٠ بالمائة).

***

لقد حمل جمال الغيطاني منذ البداية هموم تحديث أشكال الكتابة. و إن خدعة المدونة إن دلت على شيء فهي تدل على اهتمامه بالجانب الذاتي. ما نسميه بالخصوصية النوعية لطرق قراءة الفن و علاقته مع الواقع.

و تبدو لي الذواكر هي الجانب المادي من واقعيته. فهو لا يتعامل مع الحياة بشكل مباشر. و لكنه دائما يقفز إليها بالإنابة.

من باب الماضي و التاريخ إذا تشابه مع حالة الحاضر. بهدف إدانة جمود و تخلف الحياة السياسية المعاصرة.

و من باب الحاضر إذا تشابه بشكله و مجرياته مع واقعه النفسي الذي يسقط و يتفكك. و هذا بهدف إدانة الحالة الوجودية الراهنة ( انظر الحصار من ثلاث جهات و خطط الغيطاني- البطل فيهما و هو رمز لذات الكاتب يعاني من اغتراب يصل لدرجة الانفصال عن المحيط).

و من هذه النقطة بدأ جمال الغيطاني كل رحلته مع الكتابة. لقد أكد على غربته في المكان ( كان يعود بتخطيط المدينة و البيت لفترات منصرمة بعيدة ) و على انفصاله عن اللحظة ( أول كتبه عن شخصيات عاشت قبل ألف عام).

و ربما كان هذا هو الدافع لاختيار شكل المدونة بالسجع الذي يميزها و بالجمل المباشرة و المسهبة و بأدوات الزينة التي نقول عنها " بيان و بديع " و التي كانت تعبر عن ظاهراتيات اللغة و ليس ظاهراتيات الإنسان.

إن لفت الانتباه لشيء يحمل أحيانا معنى معارضته و السخرية منه. و لقد كانت إشارته لفساد أدوات الكتابة تعني فيما تعنيه الإشارة لفساد الأمكنة و انحطاط الفترة الزمنية.

أيار ٢٠١٤