بين الفرات والنخيل ...! / مرثية /
خاص ألف
2014-06-17
إلى عبد العزيز السوادي
ــ تركتَ دمكَ يغرق في الفرات ... نبوءةً لدمعِ الأمهات ودمع أمّك ...!؛ الذئاب لا تشم المعنى والريح !
تلكم مهجتي ....
حكايةُ الصيف والقيظِ في طفولتي مذ كان القمرُ في المهدِ تؤرجحهُ يدُ الخالقِ فوق الخليقة ...!
إلى سيرة الطينِ فوقَ الشواطئ الفراتيةِ أمدّ جسدي نهراً فاضت عنه ضُحيكات الصبايا السمرِ المنمّقةِ وجوهنَ بوشومٍ خضراء كعشب الصباحِ الرطبِ بين أصابعِ أمي ... والمنجلِ!
هذا حصادُ السنين ... أماهُ ..!
هذا الرقادُ الآني فوق زند الفراتِ يشبه حضنكِ العابقِ برائحة التنورِ وأهازيج النساء عند السَحرِ يخبزنَ للحياةِ أرغفةِ الصبر ِ ويُبعدنَ الدخان الماكرِ بنفخاتِ من ثغورهنَ إلى المدى .. بعيداً .. بعيداً عن أعين الأطفال وأحداقهن التي تقتنصُ السهولَ بنظراتِ الطيور الجارحةِ للقبّرات الواجلةِ بين سنابل الحنطةِ ... وكأن القنصَ بالنظراتِ يردي الأحلامَ أيضاً ...!
لستُ نبياً أقرأُ كفّ الغيبِ من وحي الأيامِ
ولم أكُ أدري .. أنني سأحظى بقيلولةٍ أبديةٍ فوق الرملِ ذاته... ذاته الذي رعرعتُ طفولتي وخطواتي المتلعثمة عليهِ ...!
لم أدرِ أن خدّي ستمسحه ذرات الرمال ككفِ عرافةٍ تقاضت أجرها مُسبقاً من قِطاف شجرةِ التين التي زرعها والدي في صِغري وقالت للنجوم التي تلألأت في عيون أصدقائي :
ــ هنا حتفهُ ... !
بإصبعها النحيل أشارت إلى أوراقِ البردي والقصبِ المغروس جذورها في طين الوداع ..!
تلكم روحي ...
مازالت تتسلّق أشجار التوتِ لتحظى بحجرٍ يكتظُ بالثمارِ السكّرية الرائحة والمذاق ..!
الثمار ذاتها التي قدّمتها أنا لحبيبتي في ظهيرة يوم ما عندما كنتُ والصبيةُ نشدّ مآزرنا إلى صدورنا بنسيج القنّبِ ونركضُ حفاةً متسابقين تحت لذعِ الرمال المتأججةِ إلى الماءِ الزلال كقلوب الأمهات اللائي يتنظرنَ عودتنا بفارغ الصدرِ ....!
لم أكن أدري ...
أنّ ذئاباً سوف تحاصرني وحدي ...!
ذئاباً بأنياب لامعة ...! تُطلقُ مخالبها في الريحِ خلفي ...!
وعواؤها رعدٌ يضربُ في المدى ويرجّ الغيومَ ويثني سنابلَ قلبي !
ذئاباً نهشت قبلي وبعدي كل الوجوه الجميلة في مرايا الأمهات والآباء والملائكة !!
وجاءت السيّارةُ قربَ البئر ورموا أصواتهم حجارةً في لجّها .. ولم يجدوني !!
من روحي نسجوا حبالاً وقلبي دلوٌ إلى الماءِ .... ولم يجدوني ...!
وعادوا إلى الحُلمِ بوجوهٍ مبهمةٍ
فاستيقظَ النوم بين جفونِ الصبحِ الوسنةِ يتثاءب بأشداقٍ واسعةٍ كقبرٍ فارغ ينتظرُ جسدي الموشوم برصاصةِ غدرٍ عرفت طريقاً ... حتماً !
ويدي مغلولةٌ إلى صدري بجدائلَ شفيفة لمراهقةٍ كنتُ أعطيتها حفنةَ توتٍ ذات ظهيرة ...!
تلكم حكايتي ... أقصّها على مسامعِ الغيبِ ومسامعكم ...!
وأُذني التي أصختِ الصمم فوق الرمل حين قُتلتُ لم تكن تقصد ذلك ...!
بل كانت تُصغي إلى وقع أظلاف الذئابِ القادمةِ عكس الريح بوبرها اللزج ِ المضمّخ بالأحمر ودماء أطفالٍ قد أعرفهم .. أولا أعرفهم ...!
أو كانت تصيخ السمعَ لضحكاتي في الطفولةِ عندما كنت أجلسُ على غصنٍ عال أدلّي ساقيّ وأرمي الصبيةَ بثمار لم تنضج بعدُ كقلبي الذي ذاق طعم الرصاصة اليوم ونضجَ وسقط َ لذيذاً من أعلى شجرةِ عمري إلى أفواهِ ذئابٍ متخمةٍ لم تُقلّبه حتى بعصاة أو تشمّ نبضه ....!
يا أيها المتروك هناك ... بين شاطئين !
بين ظهيرة ٍ وغسق .. بين خطوات رجال يبحثون عني وعن صوتي الذي تركته في آذانهم رهينةً للذكرى والتذكر ...!
وصورتي التي لمّا تزل مرسومةً في أحداقهم الواسعة .. البُنية .. الخضراء .. السوداء .. العسلية .. الزرقاء .... أحداقهم التي تقتنص الأحلام من سريرها قبل النوم ومن تحت الوسائد !
يا أيها الخفيف .. الخفيف كخوص نخلةٍ يحملكَ الفرات إلى بر الأمان !
إلى دغلٍ صغير يتسعُ لجسدكَ بعيداً عن أنوف الذئاب ِ التي تشمّ حتى رائحة الصمت !
بأظافركَ ...
بأظافركَ التي تكدّسَ تحتها رمل الفرات وطينه ... التي كنتَ تحكُّ بها ظهرَ الحكايات الصامتة كي تحكي للسمائيين سيرة العمرِ القصير ومفاتنه !
بأظافركَ ... أنهش الطرقات وامض ِ ... درباً بين الحشائش والنخيل وأعشاش الحجلِ والقطا الفارغة ...! امضِ إلى داركَ مزيّناً بالغبارِ والدمِ وفي فمكَ حفنةٌ من حنطة أجدادكَ .. ازحف بهدوءٍ إلى مبتغاكَ ... فالسماءُ تعطيكَ وقتاً إضافياً ... لا تستعجل .. جسدكَ مازال غضّاً ورهينةَ للأرضِ لازال هنالك وقتٌ للقاءِ الربِ في ملكوتهِ وعلى عرشه ِ فوق الماء .. هذهِ حجّتكَ أيضاً.. فلقد قتلتَ فوق الماء ...!
وستعيشُ كسمكةٍ بلا ذاكرة .. في الماء ..!
لأنّ الذكرى سكين ... والذاكرةُ غمدٌ مشروخ يقطرُ منه الدمِ !
.........................
حينما تصلُ إلى داركَ ... إلى غرفتكَ .. إلى موطئ قدمكَ وعند جدار اللبن والقش تماماً ... اتكئ بهدوء ... دون صوت .. كيلا توقظ الموتى الذين سوف يجيئون بعدك ...!
انظر إلى الزاويا العليا في الغرفة .. إلى النافذة الخشبية القديمة .. وسمّر نظركَ فيها
كالمسامير التي تصدّأت فيها ...
ابتسم ... أيها الفراتي
وارمي ببذار القمح من فمكَ إلى التراب
في كل زاويا من الدار
في كل شبر وخطوة ...... حتماً عندما تستيقظ من موتكَ حينما يسعلُ الحقلُ
ستجدَ آلاف السنابل الذهبية
حبلى باسمكَ وصفاتكَ ... وأسماء من رحلوا قبلك وبعدكَ
الذين أحبوكَ .. وأحببتهم
دون قصد ..... كما الرصاصة التي قبّلتكَ دون قصد
فلقد كان عليها أن تستقر في جبين قاتلك !.
08-أيار-2021
15-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
03-نيسان-2021 | |
27-آذار-2021 | |
06-آذار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |