بريق النور / ديبورا ليفي ترجمة:
خاص ألف
2014-07-16
هذا آخر سبت في شهر آب. وأليس تنتظر حقائبها في مطار براغ، ولكنها تعلم من قبل وعلى وجه اليقين تقريبا أن الحقائب لن تظهر. لعشرين دقيقة مر حزام الحقائب المتحرك على السكة بحركة دائرية بطيئة مخدرة، كأنه نهر رمادي ميت. حقائبها ليست عليه. نعم، يمكنها أن تملأ استمارة. ويمكنها أن تعطي المسؤولين رقم موبايلها وعنوانها في الفندق القريب من مالا سترانا، ولكنها تحاول أن تقنع نفسها أنها فقدت كل شيء. الموظفة المرحة البسيطة المسؤولة عن الحقائب الضائعة ( اسمها بيترا) تعلم أن ملء الاستمارة ضياع لوقتهما كليهما ولكنها تجشمت العناء لتدل أليس كيف تتصرف. كانت أنفاس بيترا مشبعة برائحة اليانسون أو شيء من هذا القبيل. ولم تكن أليس مهتمة حقا: فهي بالكاد تستطيع قراءة خطها المتعجل. وأسوأ ما في ذلك أن شاحن بطارية موبايلها في الحقيبة المفقودة. وحتى لو استعادتها شركة الطيران وطلبت منها أن تحضر لتستلمها، سيكون موبايلها في ذلك الوقت لا يعمل.
لدى بيترا نظام مستقر للتعامل مع المفقودات- ولديها معلومات أخرى أيضا. حذرت أليس من سائقي السيارات الغشاشين. وهناك ميكرو باص سيقودها إلى هدفها بسعر مخفض بالمقارنة مع التاكسي. أيضا، بما أن أليس فقدت حقيبتها مع شاحن الموبايل، عليها استعمال الهواتف العامة وشراء بطاقة مكالمات ذكية. ورقم الطوارئ ١١٢. ثم أخبرتها هناك فيلم في الحديقة كل ليلة ثلاثاء. وهو مجاني ولكن يجب أن يكون المشاهدون بأبهى حلة.
إنها ليلة الثلاثاء وأليس ترقص في حديقة في وسط براغ بثوب أزرق ترتديه من ثلاثة أيام.
تبين لها أن الفلم الذي ذكرته بيترا هو عرض في الهواء الطلق لبرنامج وثائقي من إخراج مارتين سكورسيزي يصور فيه فرقة رولنغ ستون.
ها هم الأقزام يعضون ذراعها، والساعة الآن الحادية عشرة ليلا والقمر يشع على الحضور. رقصت معها امرأتان صربيتان، ياسنا وأندريانا، بينما مايك جاغير يغني" نعم، أنت أضأت حياتي". قابلتهما أليس للتو ولكنها كانت سعيدة بصحبتهما. قالت لياسنا إنه حينما يبتعد مايك عن مكبر الصوت ليستبدل ثيابه، يحل على الحلبة القنوط والموت فقط لأنه غير موجود أمامها. مثل سير الحقائب المتحرك في المطار حينما أدكت أن حقيبتها ليست عليه أمام ناظريها.
وقف صديقا ياسنا وأدريانا في الطابور لشراء البيرة. ولوحا بأيديهما لرجل يبيع للقادمين من فرانكفورت وصاحا:" نريد النقانق!". ألحت أدريانا على شراء شطيرة لأليس أيضا. أضافوا الكاتشب للنقانق وشربوا البيرة وراقبوا البجعات النائمات فوق المياه العميقة في الفلتافا. وحينما انتهى الفلم دعوا أليس لتشترك معهم في السباحة في الغد في بحيرة على مشارف براغ. ومن الواضح أنها ليست بحيرة حقا، بل هي منجم قديم فاضت مياهه من عدة سنوات خلال عاصفة مطرية. وهو بالقرب من حقل للذرة وهناك قلاع بالجوار وغابة ونسور. هل سترغب بالانضمام لهم؟. هزت أليس رأسها وابتسمت وابتهجوا جميعا ورفعوا على شرفها زجاجات البيرة في السماء القاتمة.
وفيما بعد، حينما تمشت على الرصيف نحو الفندق في مالا سترانا أيقنت أن الوصول إلى الريف بلا مقتنيات غير الثياب التي ترتديها قد زاد من قلقها، ولكنها أصبحت أكثر تقبلا وتأملا.
السيارة التي توقفت أمام فندقها يوم الأربعاء مساء هي مرسيدس محطمة. شاركت أدريانا بالمرسيدس مع ثلاث عائلات أخرى وكان الأربعاء من حصتها للقيادة. تحرك ياسنا وبيترا وديميترا الذين كانوا يجلسون في الخلف لإفساح مكان لأليس كي تضغط نفسها فيه. هناك شخص آخر في السيارة أيضا. وتم تقديمه لأليس بصفة ملحن موسيقا إلكترونية عبقري ولامع وموهوب. أخبرها الملحن أن اسمه أليكس ولكن بمقدورها أن تدعوه بالملحن لو شاءت. ثم لم يضف ولا كلمة طوال بقية المسافة.
وحينما وصلوا أخيرا إلى البحيرة والتي كانت في الماضي منجما، كانت المياه الخضراء راكدة ومستوية. واعتقدت أليس أنها البحيرة تمتلك نوعا من القوة التي ستمتصها إلى أعماق الأرض وتجبرها على الاختفاء مثل حقيبتها الضائعة. أعارتها ياسنا ثياب السباحة ولكن استغرقت أليس وقتا لاستبدال ثيابها. طوت ثوبها الأزرق بعناية ثم وضعته على صخرة. كان الجميع في المياه، باستثناء السيد الملحن الذي رفض السباحة وجلس على نفس الصخرة قرب ثوبها، وهو يزرر سترته ويرتعش من البرد. وحينما التقت عيناه بعيني أليس هز كتفيه وترجم ببطء اللوحة التي هي على باب البحيرة. قال لها إنها تعني" خطر! السباحة ممنوعة". وراقبها و هي تهبط في الممر الطيني وتغوص في المياه. كان باردا ولم يعد بوسعها أن تشعر بساقيها. سبحت ياسنا وأدريانا حتى مركز البحيرة حيث هي أعمق ما تكون. وهناك عقصوا شعورهم الشقر وسبحوا بهدوء وروية معا مثل البجعات في فلتافا. وبعد فترة أداروا ظهورهم وحدقوا بالسماء.
غادرت أليس المياه وجلست تنقط بالماء قرب السيد الملحن أو أليكس أو كائنا من يكون. قدم لها كيس بلاستيك. في داخله مربع ثقيل من الكعك المحلى. وشرح لها هذا بقلاوة صنعتها أمه العائدة للتو من زيارة إلى بلغراد. لم تكن مثل البقلاوة التي اعتادت عليها أليس فهي ثقيلة كالخبز. أخرج موبايله وسمعته أليس يقول: أنا قرب بحيرة خارج براغ مع أليس القادمة من بريطانيا، ولذلك أتحدث معك بالإنكليزية. أرادت أن أخبرك أنها أحبت الكعك.
وحينما انتهت المكالمة قالت أليس إنه يمتلك الموبايل من النوع الذي تمتلكه.
قال: هذا جيد يا أليس، وأخبرها أنه مثل أدريانا وياسنا خلال الحرب عليه أن يتخطى ثلاثة حدود ليصل إلى براغ. وبين حين وآخر كانت تلاحظ نظرات حزينة في عينيه. وأوشكت أن تسأله عن شيء حينما زحفت ياسنا وخرجت من المياه وراءه وقبضت على ثوبها الأزرق كأنه علم. فقد سقط من فوق الصخرة ولوثته الأوحال.
في طريق العودة إلى براغ توقفوا في بار لتناول البيرة وطلب أليكس صحنا من الخنزير المدخن. وبينما الآخرون يتكلمون قال لأليس: مع أنهم جميعا من صربيا فهم لا يعرفون بعضهم بعضا في بلدهم. وقد تعارفوا في براغ لأول مرة. وقال في الواقع نحن لا نود أن نتقابل دائما لأننا لا نعرف كيف ستكون علاقتنا بالضبط. سألت أدريانا أليس هل سمعت بفيلسوف أوروبي شهير. وأخبرتها باسم الفيلسوف. لكن أليس لم تعرفه. قالت أدريانا لأليس حسنا كانت له زوجة بمنتهى الجمال. جميلة مثلك. شعرها أشقر وطويل. ولكن هذا الفيلسوف، والذي نحبه جدا لأنه كتب عن الحياة كما نراها نحن، مشغول دائما حقا. دائما يلقي محاضرات في أرجاء العالم. وربما حاليا يكتب محاضرة في مكان ما، ولو أنه منتصف الليل فزوجة الفيلسوف الجميلة تتحدث على الهاتف وتقول لزوجها، قبل نفسك قبلة عمت مساء وسأقبل نفسي قبلة مماثلة وربت على شعرك الليلة وسأربت على ذراعي الليلة. لم تفهم أليس لماذا يضحكون كثيرا. فهي تشعر بالوحدة وأنها خارج المسار مهما كان نوع المسار، وعلى أية حال هي ليست متيقنة أن هذا المسار ليس جيدا بما فيه الكفاية لتسير عليه. " هل أنت على ما يرام يا أليكس؟". لمسها أليكس بأنامله الطويلة وهو يقول:" بالمناسبة، أحب فعلا هذا الثوب الأزرق". وسألها عن ميقات العودة للملكة المتحدة، فأخبرته إنها ستغادر لاحقا هذا المساء.
فقال:" أوه". الليلة ستقبلين نفسك قبلة عمت مساء وسأقبل نفسي بالمثل". وأخبرها أنه سيخرج الليلة بنزهة في الغابة ليحرك ساقيه قبل أن يقود السيارة عائدا إلى براغ. كانت الغابات فقط قبالة البار على الطرف الثاني من الطريق. وسألته أليس هل يمانع أن تنضم إليه؟. فهي ترغب برؤية أوراق فصل الخريف.
غطت الغيوم السماء في الوقت الذي قطعا فيه الطريق إلى بداية مدخل الغابة. وحينما وصلا هناك، لم ترغب أليس أن ترافقه بنزهته. فقد بدلت رأيها. قال لها:" حسنا، على أية حال، أنا سعيد حقا برؤيتك". ولوح بيديه قليلا وقبض فجأة على طرف شعرها الأشقر بأطراف أصابعه. ورغبت أن تسأله أين يقع موطنه على الخريطة ولكن كان هذا مهينا وسخيفا وليس بمقدورها أن تسأل سؤالا من هذا النوع.
أفلت شعرها وقال:" حقا أحب ثوبك الأزرق وأحزمتك الحمراء. ولو توقفت عن العمل بمهنتي الخرقاء، ذات يوم سأشتري لك زوجا من الأحذية". ثم ذهب إلى الغابة.
كان المناخ يتبدل وأرادت أن تعود إلى بيتها في إنكلترا. تحرك عصفور بين الأغصان المرتفعة في شجرة. راقبت العصفور وفكرت بأدريانا وياسنا وهما تسبحان في مياه البحيرة الباردة العميقة. لقد تعرضتا للأذى الذي لم تتعرض له. فقد تركتا كل الفصول وراءهما في بلدهما الذي غادرتا منه.
وحينما شاهدتاها تراقبهما تساءلت هل ضاع أليكس. هل حدث له مكروه في الغابة؟. اعتقدت أنه على وشك أن يصاب بمكروه. هذا ما شعرت به حين كانت عند سير الحقائب المتحرك. شعور بالفظاعة في المعدة مع إحساس بفقدان الحقيبة. وخطرت لها أفكار غريبة وهي بانتظاره. وتساءلت هل هناك ناس يختبئون في الغابة لأنهم فقدوا بلدانهم وبيوتهم وأطفالهم وأختهم وابن عمتهم واعتقدت أن أليكس فقد شقيقه وأباه بسبب أقوال أدلى بها سابقا. وفكرت بالاستمارة التي توجب عليها أن تكتبها في المطار وبالموظفة التي تبدو يائسة وضجرة وهي تسجل كل المفقودات.
احتكت خامة ثوبها الأزرق ببشرتها وهي تذرع الطريق في محيط الغابة بخطواتها. وهبت الرياح فجأة ثم شاهدته.
كان يقترب منها. وفي شعره أوراق صغيرة. وعندما اقترب جدا منها أخبرها أن اسمه ليس أليكس. ليس بالضبط. ولكنه أليكساندر. وأخبرها أنه شاهد غزالا في الغابة بقرون صغيرة وكيف اعتاد على اقتناء ماكينة القهوة الإيطالية في مطبخه في مسقط رأسه وقد أحبها كثيرا، يقصد ماكينة القهوة الإيطالية، ولكن ليس مسقط رأسه. فهو لم يتعلق به.
وهو آسف لأنه أضاع فرصة مشاهدة فلم رولنغ ستون في الليلة الماضية في الحديقة . مشاهدة الفلم يعني أنه سيكون بجوارها لفترة إضافية. ضغط أليكساندر على شفتيه و خفض عينيه. واقترح أن يشحن لها موبايلها قبل أن تغادر إلى لندن. وقاطع ذراعيه على صدره ومال للخلف على كعبي حذائه ليراها من زاوية أوضح، ثم أخبرها إنه من الرائع أن يراقبها وهي تسخر منه بينما الرياح تعبث بشعرها وتبعثره هنا وهناك.
ديبورة ليفي Deborah levy: كاتبة بريطانية من مواليد جنوب إفريقيا. وهذه القصة مترجمة من مجموعتها ( فودكا سوداء) الصادرة عن دار بلومزبيري عام ٢٠١٤.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |