الماضي بعيون الحاضر – قراءة في رواية لنجم والي
خاص ألف
2014-08-16
مع أن رواية (تل اللحم) لنجم والي هي حكاية المترجم عن اللغة الألمانية، فإنها تبدو أكثر اهتماما بزوجته وجيهة التي تترجم للناطقين بالإسبانية. من خلال افتراق واجتماع كليهما، ومن خلال تجاذبات البحث الدؤوب عن الزوجة المفقودة، تتطور الحبكة وتغتني الشخصيات. وللتأكيد على أن الرواية أساسا هي حكاية الزوجة، يكفي أن تنظر بعين الشفقة لغياب أثر الثقافة الجرمانية. فقد كانت هي الغائبة عن تقاليد البناء الفني وعن منظومة الأفكار. بينما فرضت ثقافة إسبانيا وحاضنتها في جنوب أمريكا وجودها بقوة. حتى شخصية العسكري والضابط والزعيم تبدو قريبة لنمط الفلاح المغامر الذي ينمو ويترعرع في جنوب أمريكا ( سيمون بوليفار أو زابات المكسيكي مثلا) وليس لنمط الفوهرر أو الجستابو أو الرايخ كما صوره الألمان في أعمالهم وإبداعاتهم بدءا من هاينريش بول وانتهاء بغونتر غراس وآنا زيغريس.
و هذه مفارقة غريبة فعلا، لأن الروائي يقيم في منفاه في ألمانيا، هذا إذا تناسينا أنه تلقى تعليمه في جامعات إسبانية, وأن للعالم الثالث بنية واحدة. فما يصدق على شرق المتوسط يمكن أن يصدق على غرب المحيط الأطلنطي. وما يجري في بلاد الرافدين يمكنه أن يجري في حوض ومنابع الأمازون حيث مستعمرات الموز والكاكاو.
و بالعودة لنص الرواية وبمفرداتها، إن طابور " المغامرين" الحيارى موجود في كلتا المنطقتين من العالم. فهما ضمن حقل اجتماع معرفي واحد ( كما يقول بيير بوردو).
انه بمقدار ما تقترب هذه الرواية من تراث وتقاليد رواية الدكتاتور في أمريكا اللاتينية تبتعد عن الأدب الألماني المتماسك والرصين والعقلاني، وفي نفس الوقت عن تراث لغتنا الجميلة وبالأخص التي تابعت ما يجري من فتن وحروب أهلية ومحاولات للاستقلال والتحرير.
لقد سار نجم والي على خطا مؤلف (مائة عام من العزلة) بعدة أمور.
أولا وضع الشخصية العسكرية في الصدارة. وهي هنا شخصية الحاكم الذي اهتم بمباريات صراع الديوك. ومد يده لزعماء جنوب أمريكا للمقامرة بكل ما يملك من أجل التسلح والتحول من مجتمع مدني متخلف إلى مجتمع عسكري قوي الشكيمة.
في نفس الوقت كان الحاكم دائما بثياب الميدان. وهمه الأول الاحتفاظ بسدة الحكم.
و أعتقد أن هذا لا يفيد على الإطلاق في إثارة مكامن ونوازع الشخصية الوطنية. فالقائد العسكري كان أنانيا ونرجسيا بلا إحساس تاريخي.
لقد كان من الواضح أنه قائد لثكنة وليس لبلاط، وأن غزواته لا تدخل في عداد الفتوحات ولكن ضمن تصفية الحسابات.
وهذا أول فرق هام بين عسكر روايات أمريكا اللاتينية وأبطال السير والملاحم أو حتى فانتازيا المدونة الهامة المعروفة باسم (ألف ليلة وليلة).
لقد كان أبطال وفرسان ألف ليلة من النوع الجريء أو المتهور الذي يعاني من ليبيدو وكمون طبقي يدفعهم لركوب المستحيل ولتعويض النقص الفادح في الموضوع بتنمية الذات. و بتوظيف بنات الخيال الشعبي الذي يفتقر للمنطق و يلجأ لترميم الواقع بالسحر و ما فوق الواقع.
و لنأخذ عنترة على سبيل المثال، أليس هو رمزا للعقدة الطبقية التي كانت تضع حدا فاصلا بين العبيد والسادة. لقد كان حبه انتقاما من مرجعياته، وتصعيدا للغرائز وإلباسها لبوسا إنسانيا وبشريا. فالرغبة بالامتلاك والتحرر تحولا إلى قصة رومنسية تثير لواعج كل إنسان مهما كانت طبقته أو خلفياته، سواء هو من الأشراف أو العبيد، فشؤون القلب ليست مثل شؤون العقل...
و لكن الحاكم وطفيلياته، ومنهم بهيجة زوجة الراوي، ومعالي ضحية القوادة افطيم، وأسيد لوتي الشخصية الانتهازية المستعدة للفساد، بنوا عالما مذكرا بلا بطولات. إنه عالم لا تنقصه العنتريات الجوفاء المحرومة من المبادئ.
و هي عنتريات مذكرة تطورت في اللاشعور إلى رصيد جنوسي من غير موضوع. وأدت في النتيجة لصياغة نموذج فحولي ، أو ماشيزمو لا يعرف شيئا عن أخلاق النبلاء ولا الصفوة.
و على ضوء ذلك كانت النساء في ذلك العالم الخانق والمرصود دائما بلا سروال، والرجال دائما في حالة انتصاب.
و كان إطلاق الرصاص في الحزن والمشاحنات والفرح هو الرمز أو البديل الاستعاري للانتصاب ولعقدة الخوف من الخصاء.
لقد كانت المرأة في الرواية شكلا من أشكال الرهاب. إنها على أهبة الخيانة الزوجية دائما، وعلى وشك الانحراف باستمرار. ولا يخطر في ذهني مثال مشابه غير بنات ونساء ( نقطة النور) لبهاء الطاهر. ففي البناء الآيل للسقوط تكاد لا تجد بيتا بلا بنت فقدت شرفها وتبحث عن طبيب للإجهاض.
كذلك أعتقد أن المملكة السرية للعاهرات في (تل اللحم) تبدو مقتبسة من أجواء ماركيز وشركاه ( وبالأخص ذاكرة عاهراتي الحزينات لماركيز والبيت الأخضر ليوسا). في الروايتين شبكة بيوت دعارة مأجورة تعمل بتجارة الرقيق الأبيض وكأنها تجارة تعتمد على رأس مال ثابت. أو كأن العاهرة ماكينة تدور بلا توقف في معمل.
و هذه صفة غريبة على الرواية التي ظهرت في أوروبا في منعطف القرن الماضي. كانت العاهرة في الأدب الواقعي بيانا ضد انتهاكات المجتمع للحرية الفردية وضد علاقات الاستغلال التي أدت لتغريب الإنسان وفقدانه أو ضياعه ( وأقرب مثال للذهن نانا لإميل زولا). إن العاهرة الأوروبية مجرد ضحية لتهاوي وانحدار مفهوم الشرف في المجتمع الاقطاعي وتبدل معنى النبالة في مجتمع يعتمد على رأس المال.
و نحن لسنا بعيدين جدا عن هذا التفسير. ففي (دار المتعة) لوليد إخلاصي بيوتات دعارة لديها جيش عرمرم من الغانيات المنتجات. إنهن تعملن في إنتاج اللذة ( إشباع اللذة ) كما لو أنهن في مزرعة وتقطفن ثمار شجرة الخطيئة ( وهذه استعارة مكنية تتوفر فيها كل عناصر التشبيه ما عدا حرف التشبيه - حسب قانون الحداثة رقم واحد).
غير أن غواني (تل اللحم) نسخة من عاهرات جنوب أمريكا. لديهن وظيفة لا تستجيب لقوانين العمل: رأس مال + يد عاملة = دورة اقتصاد مغلقة.
و المعادلة تأخذ الشكل التالي: نظام دكتاتوري + ليبيدو = اقتصاد تخلف. وهو ما يقول عنه الراوي بلغته: هذا تصنيف نتعرف به على ما هو غير مفيد ( ص ٣٨٢). والمعنى: به نتعرف على فضل قيمة العمل. نكتسب لذة أخلاق العمل وننتظر أن نجني الآن ثماره. وباعتبار أنه عمل جنوسي. على النكاح المفيد أن يتبعه حمل وإنجاب. ولكن غير المفيد يتلوه حمل كاذب أو إجهاض. وما بينهما تستطيع أن تتعرف على قوس واسع من النشاط: الإغواء، وانتهاز الفرص، وأخيرا الاغتصاب.
إن فرج المرأة في (تل اللحم) موجود بذاته وليس لذاته ( لو استعملنا مفردات هيغل). إنه ينمو حسب قانونه الخاص لتحريض المكبوت وتشجيعه على حضانة أعصبة الواقع.
بمعنى أنه جنس محرض، جنس تجريمي. يعمل على تدمير الغرائز عوضا عن إرضائها. ولا يحترم مبدأ تبادل المنفعة المعروف: اللذة مقابل النقود.
حتى أن المرأة لا تتكسب بفرجها فقط، ولكنها أيضا تساعد المذكر على النكوص بعكس اتجاه التصعيد الفرويدي والتطور. إنها تقدم له الفرصة ليعود إلى فجر الخليقة، من غير ورقة توت، وليتباهى بفحولته. فهو رجل قضيبي لا يرى أن العيب يتساوى مع الخطيئة في تفجير العائلة ومرادفاتها كالدولة والمجتمع والعقل. وعليه يمكن للعاهرة أن تحتل مرتبة أم قضيبية متعددة الأزواج كما هو الحال في العصر الأمومي.
و كما أرى كانت الجنوسة في الرواية من نوع الجنس الصرف. إنه التهام والتعبير عنه يكون بحركات وطقوس الجنس الفموي الأوديبي صراحة ( حتى أن بهيجة كانت تقضم قضيب زوجها - ص ٣٤٠).
و لكن باستطراد بسيط ( ص ٣٤١ وما بعدها ) يتطور النهم التغذوي - رابط الثدي مع الزوجة الأم إلى ثقافة حياض وثغور ويبدأ الراوي بوصف تفاصيل ( الحوض ) مرة، وكل أنواع الفتحات الطبيعية في المؤنث ( فم وفرج وشرج) مرة أخرى، الأمر الذي يجعل من الجماع والنكاح ما يشبه الحرب الضروس، حربا رمزية تدور حول مفهومنا للحدود، ما يجوز أخذه عنوة وما لا يجوز. ما يمكن التهاون حياله وما لا نستطيع أن نتصوره بيد الآخرين. حتى أن رائحة وجيهة ( زوجة الراوي ) أصبحت في تللك اللحظات تذكره برائحة مدينته ( القرنة)، ثم برائحة بغداد، وأخيرا برائحة كل البلاد، قبل أن تبدو له غمامة من الشذا الغريب على حواسه ( ص ٣٥٠).
و عموما إن التبادل في المواضع ( وإعادة ترتيب نقاط تمفصل الخطاب ضمن البنية وسياقاتها) يتكرر في الرواية عدة مرات. غير انزياح المدينة من المعنى المحلي إلى المعنى الوطني، استطاعت مرايا مسلط أن تنتحل دور شقيقتها معالي مسلط. وهذا وفر للرواية عدة وجهات نظر كانت تلقي أضواء مختلفة على نفس الحدث.و كأنها رواية أصوات أو رواية بوليفونية لو عمدنا لمصطلحات باختين.
على أية حال هنا يتدخل الراوي بشكل مباشر ليقول بالحرف الواحد: إنه في الجماع تتداخل لديه الرغبات المتنازعة، حب التملك وحب الاكتشاف ( ص ٣٥٨). وهذه أقرب إشارة لخلاصة الرواية. إنها تتعامل مع مبدأ الحدود المتحركة. ولذلك ليس فيها حدود ولا ممنوعات أو تابوات، وهي لا تؤمن برهاب الحصر ولا بوسائله الدفاعية كالكبت والكف وما إلى ذلك. الأمر الذي يفسر لماذا تداخلت في الأسلوب كل الأشكال الفنية، من السرد الواقعي وحتى التحليل والتفكيك النفسي مع الإسقاط والمجازات.
لقد كانت الرواية تتألف من شطرين: جزء خاص برؤية بطل الرواية للأحداث ( وهو سرد خارجي ويسير بالتوازي مع الحبكة) وجزء خاص بالشخصيات المساعدة التي ألقت أضواء على ما جرى بطريقة الفلاش باك والتذكر و الإحاطة. ويكفي أن نشير لتداخل مصير وخبايا حياة معالي وأختها التوأم مرايا التي تعترف أنها لعبت دور معالي الميتة دون أن يكتشف أحد هذه الخدعة.
***
و ضمن هذه الشبكة التي تشبه المتاهة تآلفت في (تل اللحم) ثلاث أهم صفات لا تجدها إلا عند ماركيز: العهر المنتج للنوع، والانضباط العسكري المنتج لمجتمع من الصعاليك والمغامرين، والمبالغة التي تضع الخيال في حدوده القصوى.
و لكن غابت عنها أهم ثلاث صفات هي من خصال الرواية الوجودية بنسختها العربية: الطلبة والمتقاعدون وهم عماد روايات هاني الراهب. ثم المقهى الذي قال عنه بطل (تل اللحم): ( إني أكرهه - ص ٣٠٩). وهذا قدح لا يمكن أن يرضى عنه لا روائي ولا شاعر من جيل الستينات. لقد أجمعوا بلا استثناء على أهمية المقهى في دورة الحياة والأفكار. ولا سيما مقاصف المدينة الجامعية حيث يكون المجال مفتوحا على مصراعيه لمناقشة الأفكار الكبرى وللبحث عن شريك سرعان ما يثبت أنه وهم وخطأ أو رغبة غير أصيلة كسحابة صيف. وتوجب علينا أن ننتظر حتى نهاية الرواية لنلقي نظرة على مقهى شعبي ( ص٤٢٠ وما بعد).
و أخيرا وليس آخرا خيبات الأمل المريرة التي تودي بالشباب للانتحار.
لقد ابتعدت (تل اللحم) عن هذا المثلث الأسود واختارت لأبطالها مصيرا مختلفا: الانصياع واللا إبالية على طريقة المعارضين لفاشية موسوليني أمثال ألبرتو مورافيا مؤلف ( الانتباه ) و(أنا وهو).
لقد كان أبطال هذه الرواية عبثيين وذكوريين. بعضلات يديرها العصاب والليبيدو وليس العقل ولا منظومة الأفكار، كما هو حال العقيد بوينديا مؤسس عائلة لها ذيل خنزير أثري، أو قضيب رمزي، يربط الإنسان المعاصر مع أسلافه في سلم التطور.
برأيي لقد جاءت هذه الرواية الضخمة لتعيد كتابة ( مائة عام من العزلة ) بطريقتها الفنية الخاصة. فوضعت لنفسها إطارا يتألف من محورين: الراوي ( الذكورة الغائبة وما تفرضه من معايير شرف وانتظام وتماثل مع الذهن ) وزوجته ( الأنوثة الموجودة التي تحولت لامرأة لعوب تصور الهاوية التي سقط فيها النظام العسكري الخائب). ومن خلال كشف طبيعة العلاقات التي ربطت بينهما تشعبت الحكايات وتطورت الحبكة.
و كانت كل حكاية تتفرع لتحت حكاية. وهكذا دواليك حتى أصبحنا أمام عالم متكامل: سري وعلني. نفسي ومادي. ذهني وواقعي. عالم شعور له صفات محسوسة وعالم لا شعور ليست له صفات ولكنه ناضج نفسيا. وعموما كانت الافتراضات غائبة تماما وفي كل الأحوال.
و هذه هي أول مشكلة تضع مسافة بين هذا العمل وأمثاله من روايات أمريكا اللاتينية.
لا تخلو رواية لماركيز وألليندي من افتراضات وراءها طبقات مضاعفة من الأحلام والكوابيس، ومن المدن الوهمية التي ليس لها وجود على الخريطة.
غير أن يقينية (تل اللحم) كادت أن تضع لكل شخصية قرينة من الواقع.
فهل كان نجم والي يريد إعادة تركيب تاريخ العراق المعاصر منذ حربه مع إيران ثم غزو الكويت بطريقة الإسقاط الفني المباشر أو الاستعارة.
أعتقد أن هذا هو مشروعه الحقيقي. ولا سيما لأنه اعتمد على أسماء مدن وأسماء علم لها وجود حقيقي. وكان ديدنه في تغليف هذه الواقعية المباشرة والمريرة اللجوء للسخرية، أو الإغراق بالنكات والطرائف العجيبة التي حولت واقعية ماركيز السحرية إلى كوميديا سوداء، إلى كاريكاتير.
إن السخرية في هذه الرواية كما يقول بوريس سوتشكوف: لا تهاجم الشر الاجتماعي على طريقة سويفت وأمثاله بل هي وليدة حضارة مستنفذة. وسخرية أناس أدبرت أيامهم ولم يعودوا أحياء. إنها سخرية مشبعة ببرودة الشيخوخة، ولذلك لم يكن هناك من عزاء للشخصيات غير الانفراد الصوفي والاغتراب في الذات ( ص ٢٠٤)(١).
ألم يصل بطل الرواية لنهاية السلم حينما اعتكف العالم وأدمن على شرب الكحول والاختلاء مع زوجته وجيهة ومع أفكاره ( ص٣٢١). إنه سلم استعاري وربما يرمز لرحلة العمر التي شارفت على نهاية مرحلتها النشيطة والمباشرة في السبات أو طور البيات الشتوي.
مهما كان الأمر لقد كانت الشخصيات العسكرية برأس كبير ولكن بعقول صغيرة. وإن هذا اللاتناسب إنْ ساعد الروائي على التملص من قيود وتقاليد الواقعية السحرية لم يساعده على الاقتراب من فكاهيات ومواقف الجاحظ الذي يسخر من نفسه حين يريد أن يهجو غيره.
إن الواقعية السحرية ذات توجه ملحمي حزين، يضع اليد على الجرح ويؤلمك حين يقول إنه يداويك.
بينما السخرية هي هرب من المواجهة وعدم اعتراف بالتقصير وحسر النظر الإيديولوجي الذي نعاني منه.
لقد احتفظ نجم والي في روايته بكل مقومات الروايات الحربية وضمنا شخصية الطاغية. ولكنه تحول من تشريح عالمه المتعثر إلى هجائه دون بارقة أمل.
و إن القارئ سيلاحظ غياب الحياة السياسية من رواية همها الأول هو تشريح مجتمع سياسة البعد الواحد. حتى أن شخصياتها تعرف كيف تخدم الطاغية ولا تعرف كيف تقاومه. وهذه صفة غريبة على رواية السبعينات وما بعدها.
فمنذ منعطف عام ١٩٧٥ ودخول لبنان في متاهة الحرب الأهلية اغتنت الحياة السياسية في الشارع والدولة. وقلّ أنْ تجد رواية لم تصور شخصية لديها الوعي السياسي. حتى خيري شلبي المتخصص بالصعاليك والحشاشين وشراذم المجتمع كتب على ( صالح هيصة ) في رواية تحمل هذا العنوان مصيرا أسود، هو الاعتقال والضياع في سراديب المخابرات.
***
لا أشك لحظة أن هذه الرواية هي امتداد لرواية الجيل الخائب ( جيل النكبات والنكسات ) الذي أسرف بعدميته مع لمسات أو إضافات نابعة من مفارقة نشأت من تاريخية النفس العربية. فالشعور بالفاجع والتراجيديا لبس لبوسا اجتماعيا وتحول لشيء من التهكم والسخرية الذي هو نافذتنا الوحيدة على اللاشعور الفرويدي، وتحصيل حاصل على سقطات اللسان للتي نقر بها بما لا نريد أن نعقله أو أن نقبل به.
ألم يفعل ذلك عزيز نيسن في هجاء الدولة العسكرية في تركيا والتي ارتدت الثياب المدنية؟.
ألم يفعل ذلك أديب نحوي في سوريا كلما تحدث عن هموم التحرر من الاستعمار وفي ذهنه شبح التسلط والهزائم المرعبة وتحول الأفكار إلى ذريعة؟.
إن رواية ( تل اللحم ) لا تختلف في عدميتها وتطيرها من بكائيات غادة السمان وهجائيات نزار قباني. إنها رواية من روايات المعارضة والنقد اللاذع.
و قد سخّرت كل شخصياتها لكشف الغطاء عن عيوب مجتمع تبريري وانهزامي، يستسلم للطغيان بحجة المقاومة والتحرير وإعادة البناء.
و هذه الخصال وحدها هي التي تضمن للرواية عدم السقوط في أشراك التقليد الأعمى. فإذا كانت جينات رواية ماركيز متوفرة وحاضرة فهي لا تفعل ذلك بلا سبب.
و أرى أن المسببات أقوى من أن تغفلها. فروايتنا الناطقة بلسان عربي ليست امتدادا شرعيا لتاريخ المدونة التي كانت نشيطة في العصر الوسيط، بعد سقوط بني أمية ودخول تقاليد الخيال الفني الذي فجر الذهنية العربية المتأسلمة وأمدها بأجواء العرافة والسحر، بكل ما هو عجيب ولا يمكن قياسه بمساطر واقعية أو بمنطق الثواب والعقاب ورموزيتهما.
إن الرواية الفنية المعاصرة تدين للذهن الأورو أمريكي أو لحكمة العقل الغربي حصرا.
هذا أولا. وثانيا.
كان أبطال التنوير والنهضة يعرّبون الحكايات المستوردة. ولنضع نصب أعيننا ما فعله المنفلوطي بتمصير عيون الأدب العالمي. لقد أسقط بلاغيات اللغة العربية على أخلاق وسلوك الذهن الأوروبي الصاعد والآخذ بالتوسع.
و كما أرى وقف نجم والي في منتصف المسافة، بين خطوط العزل والأثلام والبتون. لقد ابتعد عن تأصيل شكل روايته ( ولم يحقنها بالفيتامينات الشفاهية - كما حصل على يد إميل حبيبي مؤلف المتشائل ومبدع سرايا بنت الغول). وفي نفس الوقت لم يعرّب ماركيز. لقد أعاد إنتاجه.
فهو لم ينظر للعهر كجزء من المنظومة الاجتماعية واقتصاديات النمط اللاتين أمريكي، وطرح موضوعة العفة والشرف ( ص ٣٢٠ ) كموضوع مستقل عن غشاء البكارة، أو كمضمون لمسائل متعلقة بالبنية الاجتماعية وأساليب إنتاج العقل فقط.
كذلك إنه لم يشيد مدينة ماكوندو الخيالية. ولا حتى مدينة الخالدية ( التي أسسها محمد البساطي من العدم). ولكنه أعاد بناء وتأسيس بغداد والبصرة وضواحيها بمنطق تكويني. بمعنى أنه فكك أو صهر خريطتها الديمغرافية والعمرانية وأعاد تركيبها وفق مقاييس يفرضها النشاط النفسي الواقعي لمجتمع موجود ويئن من أوجاع الظلم والاضطهاد.
و هذا هو سر نكهتها وسر الدفء الطفيف الذي يساعدك على القراءة بشيء من الاهتمام والاستيقاظ.
و لئن كانت هناك تفاصيل تراكمت فوق الحكاية دون أن تفيدها فهي ليست انشائية.
و أرى أن الاستطرادات إحدى الصفات البنيوية لرواياتنا المعاصرة. غير الوعظ والإرشاد والوصايا ( ولا سيما في الروايات التي تكتب حسب مقاييس يفرضها النظام - نسميها بروباغاندا)، حفلت هذه الرواية بمونولوجات وتحت مونولوجات ( منها مثلا الرسالة التي كتبتها بهيجة لزوجها وأودعتها في مظروف أسود ص٣٦٠-٣٧١، ومنها الموجز التاريخي للتطورات السياسية بمناسبة العرض العسكري ص ١١١- ١٢٧، ثم وصف الاحتفال بمناسبة مرور عشر أعوام لجلوس القائد ص٣٨٤- ٣٩٠). وبالمقارنة كل روايات علي بدر والسوري المرحوم هاني الراهب تضيف آراء نقدية وتحليلات سياسية مباشرة ( ليست نابية وإنما من ضمن نسيج الرواية). على سبيل المثال ما ورد في (الركض وراء الذئاب) لعلي بدر بخصوص الميديا والواقع والحس التاريخي ( ص٢٧-٣١). وما ورد في (جرائم دون كيشوت) لهاني الراهب حول القصة الوثائقية والفرق بين القصة والخبر (ص١٠٤-١١١)، ثم التعليقات اللاذعة التي تسخر من أسلوب الناقد الكبير محي الدين صبحي (ص ١٢٢).
لقد كانت (تل اللحم) مثل ( أطفال منتصف الليل) ومثل (آيات شيطانية) لسلمان رشدي. إنها تقاوم نفسها وموضوعها. وتضع حدودا متحركة لفن لم يعد يعترف بالحدود لأنه نتاج عقلية عابرة للجنسيات، ونتاج عالم تحركه شركات همها الأول الإنتاج وليس الوعي.
و لذلك أنتظر من نجم والي أن يحذو حذو المترجم المجهول الذي اختصر روايتي سلمان رشدي. ولو قارنت بين ترجمة (آيات شيطانية) والنص الإنكليزي ستلاحظ أن الترجمة قدمت رؤية مشوقة ومضغوطة تساعدك على التهام الرواية التهاما(3).
و هذا ليس غريبا على تاريخ فن الرواية. فسومرست موم نشر روايته المعروفة القيد البشري the human bondag برؤيتين: إحداهما مفصلة والأخرى نسخة شعبية مختصرة.
و مثله فعل الدكتور شكيب الجابري ( الكيميائي الذي تخصص في ألمانيا والذي أسس للرواية الفنية في سوريا منذ الأربعينات). فقد أصدر روايته المعروفة (غادة أفاميا) بطبعتين. وكانت الثانية معدلة ومنقحة كما ورد على الغلاف.
إن (تل اللحم) لنجم والي رواية داخل مدونة. والرواية التي تتحرك ضمنها الأحداث وتتطور وراءها الشخصيات والمواقف وتتبلور المعاني المرعبة للصدام بين عالم سادي وآخر مازوشي، بين ذكورة عنفية وأنوثة تستهلك نفسها، هي التي نراها تتألق من وراء برقع التفاصيل أو ما يسميه فوكو ( نثر الحياة ) وما يطلق عليه بارت اسم ( الخرافات والأساطير اليومية).....
و باعتقادي إن هذه الخصلة ( أن تنطوي الرواية على حكاية ضمن مدونة) هو ما يسميه الباحث حمزة عليوي بالنشاط الحكائي(٢). ومن هنا سر تميز نجم والي عن أقرانه.
إنه يقدم لنا حكايات.
بمعنى أنه بدأ من حيث انتهى غيره، ولا سيما أبطال حداثة العقد السادس ( ١٩٦٠ وما بعد)، وعلى رأسهم وليد إخلاصي، الذي ختم عمره برواية لطيفة هي ( رحلة السفرجل) حملت عنوانا فرعيا هو ( حكاية)(4)....
هوامش:
1- من كتابه المصائر التاريخية للواقعية. دار الحقائق. بيروت.
2- المصدر مراسلات شخصية ورد فيها معيار لتصنيف الروائيين المعاصرين. فمنهم من يكتب حكاية ويلعب دور الحكواتي كنجم والي، ومنهم من يلجأ للوصف كعلي بدر.
3- أفادني الأستاذ نجم والي بتوضيح أن روايته صدرت بطبعتين. والثانية منقحة ومختصرة. وللأسف لم أطلع إلا على طبعة واحدة لا أعلم هل هي المختصرة أم المفصلة. وبلغ عدد صفحاتها 645 صفحة. بلا تاريخ نشر وبلا اسم ناشر.
4- صدرت عن دار الكوكب عام 2008 .
آب ٢٠١٤
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |