بكلِّ سرور
خاص ألف
2014-08-19
((وحش، شرير، قاتل))، كانت عيون السجناء تنطق بهذه الكلمات كلما مررت بهم، و إن كانت شفاههم خرساء جامدة، جامدةً كعيني ذلك الطفل الذي فاضت روحه بين يدي، عيناه اللتان كانتا تتوسلان بصمتٍ أصمَّ أذني. الفراغ هو ما شعرت به و ليس كما حاول أن يشرح لي زميلي في الزنزانة عن متعة القتل، فقد كان كلما ذُكرت كلمة القتل، توهجت عيناه ببريقٍ كذلك الذي قد تراه في أعين الشغوفين الطموحين، إلا أنني لم أجرؤ يوماً أن أحدثه عن ذلك الفراغ، و قد كنت – و ما زلت – ممثلاً بارعاً أجدت تمثيل دور المستلذ بالقتل و الراغب بالمزيد من بئره الشيطانية. ترى هل أشعر بالندم حقاً على ما فعلته يداي؟؟ لا أظنني سأعرف جواب هذا السؤال يوماً. أمنيتي الوحيدة كانت و ما زالت ألا يتكرر القتل مرةً أخرى فما عاد في قلبي متسعٌ للفراغ، أستغفر ربي كثيراً لكن أكثر ما تلهج به شفتاي خلال أيامي الوحيدة هنا أن يا إلهي لا تجعل ذلك يتكرر.
تزورني زوجتي كل شهرين تقريباً، تتلاقى الأصابع خلال الشبكة المعدنية الصماء التي تفصل الأحرار عن العبيد، تتلامس النظرات، أي شوقٍ، أي ذنب، أية حسرة، و أية كلمات قد أستطيع أن أصف بها تلك اللحيظات؟؟ ((لماذا؟))، تسألني زوجتي هذا السؤال باستمرار استفساراً و استغراباً منها عن عدم رغبتي الصارمة في أن أرى ابنتي الوحيدة و يكون الجواب حاضراً على شفتي مليئاً بالأسى: ((أفضل حكماً مؤبداً ثانياً على مجيئها))، تصمتْ، تترددْ، و تحاول أن تتذكر الكلمات التي أرادت قولها لي، و عندما يسعفها عقلها بها يكون وقت الزيارة قد انقضى و يُزجر الزائرون و تتلاشى الكلمات، ما أقبحه من موقف ذلك الذي تكون فيه عاجزاً عن أبسط الأشياء؛ الكلام.
تمضي الثواني ببطءٍ شديد، عندما تكون حريتك مقيدة إلى الأبد، أو حتى تنتهي حياتك إذ أنَّ الأبد لم يكن يوماً خياراً لأيِّ إنسان. مع تكرار هكذا ثوانٍ، يصبح النوم أمنيةً و يغدو الموت خلاصاً لكلي الروح و الجسد، ((يا رب احفظ ابنتي و زوجتي)).
لسجين الزنزانة الانفرادية لا يبقى الإيمان بالإله من عدمه خياراً دينياً بل يستحيل ضرورة للبقاء و وقوداً لاستمرار عجلة كيانه الذي لم أعد أقوى على وصفه بالإنساني. رغم تسلحف الوقت في زنزانتي، إلا أنًّ الحياة خارج هذه الجدران الأربعة ما زالت تمضي و تسير بالسرعة الجنونية التي أضحت مجرد ذكرى يحاول عقلي جاهداً أن يمحوها لئلا أفقده، مع أن ذلك قد لا يكون سيئاً جداً، و إنما قد يحملني معه إلى عوالم أخرى و إن كانت هلامية فإنها ما تزال عوالم!! لكن الجنون – شأنه في ذلك شأن الأشياء جميعها – قد هجرني إلى غير رجعة، و أظنه نال جنسية كائنات حيةٍ أخرى وجد في أحضانها المضيف الذي كان يتمناه طويلاً.
ما سلف كان سرداً لأحداث البارحة، أما اليوم فقد تجرأ بصيصٌ انتحاري على محاولة اقتحام قتامة السواد الذي أحاطني منذ زمن، "زيارة"، خرجت تلك الكلمة من فيه الحارس الذي لم يكلمني بغيرها مذ وطأت روحي هذا الجحر. مضيت مستغرباً إلى الشبكة الحديدية لألتقي بزائري الغامض، فباستثناء زوجتي – و التي زارتني بالأمس – لم أعتد على تلقي الزيارات من أحد، "أرجو أن لا يكون قد أصابها مكروه، الله يستر" فكرت في نفسي. كانت قاعة الانتظار معدنيةً صماء، لا روح فيها كحال قاطني هذه القطعة من جهنم و التي ارتأى شياطين الإنس أنها العلاج الأنجع لتأهيل المجرمين، أجلت نظري بين الفتحات الصغيرة المتناثرة في ثنايا القفص المهيب بحثاً عن زوجتي، لم أجدها، الأرجح أنها إحدى مزحات الحرس الثقيلة و التي سمعت – أثناء فترات ال "تنفس" التي كانوا يجودون بها علينا - أنهم يمارسونها مع النزلاء، فلتحلًّ لعنة الله عليهم جميعاً، هممت بالانصراف لولا أن استوقفني صوتٌ أنثويٌ شاب منادياً، بعذوبةٍ كنت قد نسيتها بعد تجرعي للسموم سنواتٍ طويلة، (أبي).
((أبي!!))، أخذت تلك الكلمة تتردد في رأسي ووجداني مئات بل و آلاف المرات معيدةً إياي عشر سنين، عشر حيوات، إلى تلك الليلة، تلك الجريمة، تلك الجثة، و تلك اللعنة..... أنظر إليها كم كبرت تلك الفتاة التي كان وجهها مملوءاً بعينيها الواسعتين، أحاول أن أتذكر أيامي معها قبل المأساة التي لحقت بعائلتنا فلا أستطيع انتزاع شيءٍ من عقلي خلا تلك الليلة العاصفة، لا بطقسها و إنما بأحداثها، تلك الليلة التي كان أبطالها أنا، ابنتي، و الطفل المقتول
كانت الأسئلة – الغزيرة – هي أول ما أمطرت بها ابنتي، لماذا أتيت؟؟ أين والدتك، ألم آمرها ألا ترسلك، كيف......و لكن السؤال الأهم و الذي أردت أن أمطرها به، لم يجرؤ على محاولة الاستئذان من عقلي لينفلت من عقاله، كان ذلك في بادئ الأمر، السؤال الذي احتلّ روحي طيلة العشر سنوات الماضية و طيلة العذابات الكثيرة، لكنني لم أعد أحتمل، كان ذلك تماماً ما كنت أخشاه من مجيئها، لذا فقد أطلقت الحيوان من عقاله، أطلقت العنان لوحشيته المريحة و المالئة قلبي سلاماً عاصفاً، ((هل قتلت مجدداً؟؟؟؟))
أخبرتني ابنتي بأن زوجتي لم تعد من سكان هذا العالم و أنها – ابنتي – لم تصدق أمها يوماً بأني قد توفيت منذ زمن بعيد فلم يكن الكذب من مهارات زوجتي الراحلة، ((حاولت مراراً أن أعرف الحقيقة لكن دون نجاح، و قد أخبرتني أمي بها قبل أن تفارق روحها الطاهرة هذا العالم القاسي، و رداً على سؤالك الذي علي الاعتراف بأنه جرحني قليلاً رغم أني لا أملك الحق بذلك، رداً على استفسارك أجيبك بالنفي القاطع، ما فعلته ذلك اليوم يا أبتي أعادني للحياة و أخرجني من وساوسي العقلية التي كان عقلي مملوءاً بها حول الشر في الأطفال و وهمي بأني مخلصتهم، و قد نجح المركز الطبي الذي أرسلتني أمي الراحلة إليه في تخليصي من الأوهام التي كنت أعيشها و أنا الآن طالبةٌ في كلية التمريض)).
اغرورقت عيناي دمعاً أبيت أن أطلق العنان له، فرغم كلِّ شيء تجب عليَّ المحافظة على صورتي كقاتل بارد الدم و التي نسجتها حولي بمهارة اتقاءً لشرِّ المساجين الآخرين و إلا هلكت هنا. ((لماذا أتيتِ؟؟))، عدت لتكرار السؤال و لكن بحنانٍ و حزن بدل الغضب هذه المرة، ((أتيت لأعرف السبب الذي دفعك لفعلتك))، تنحنحت و حاولت أن أقول شيئاً فقد فاجئني السؤال كثيراً، ابنتي الصغيرة غدت شابة ذكية، يا الله ما أكرمك، حاولت أن أجيب إلا أنها قاطعتني كأنها لم تكن تنتظر جواباً: ((لقد كنت في السادسة عشرة من عمري وقتئذٍ، و كان القاضي ليتساهل معي نظراً لحالتي العقلية، ثم....)) و هنا جاء وقتي للمقاطعة و التي أديتها بإشارةٍ صارمة من يدي المليئة تجاعيداً و هرماً، الإشارة التي ما زالت تحتفظ ابنتي بذكراها على ما يبدو فقد توقفت عن الكلام فور رؤيتها للإشارة المشهورة، قلت لها بحسمٍ خافت خشية أن يسمعنا أحد الحراس الأمر الذي بالغت باعتقاده فلم يكن أحدٌ يأبه بما نقول: ((كنت ستفقدين براءتك في هذه السنوات الخمس، ألم تقرأي بعدُ عن سجوننا؟؟!!!)).
بدأت تنتحب بعد كلماتي القليلة تلك و سالت دموعها اللؤلؤية حارةً و غزيرة ثم أخذت تتمتم بصوتٍ متقطع: ((لكنك ستمضي بقية حياتك في السجن بسبب ما فعلته ابنتك، بسبب ما اقترفته يداي)) تمتمتها و قد نالت الحسرة من قلبها و عقلها و تجسدت معالمها في ارتياع وجهها و رجفة أطرافها فأمسكت اصبعها الممتد من بين الأسلاك المعدنية و انحنيت أقبله ثم نظرت في عينيها نظرةً بثت فيها روح الطمأنينة و الأمل و قلت لها: ((لقد فعلت ذلك عن طيب خاطر و لو عاد بي الزمن لكررت فعلتي بكلِّ سرور، و رؤيتي لك اليوم قد أزالت عني هموم السنوات العشر و أعادت الروح لجسدي الفاني)).
انصرفت ابنتي و انصرف معها قلبي لكن الابتسامة التي رسمتها على وجهي المسن لم تفارقني لأسابيع.
((يا له من مغفل)) أشعلت سيجارةً و أنا أمسح تلك الدموع الحمقاء التي افتعلتها أمام ذلك الرجل الذي لا أستطيع إلا أن أشعر بالشفقة تجاهه، يظن أن ابنته القاتلة غدت – بعد فعله البطولي – شابةً طموحةً ناجحة، آه لو يدري كم جثةً خلفت ورائي دون أن أترك نسيلةً من خيطٍ من دليلٍ ورائي، لكن أمثاله لن يستطيعوا تقدير فنٍ كالذي تبدعه أناملي. تعود بي الذاكرة إلى بحار الماضي العميقة و المعتمة، أكاد أتنشق عبير دم ذلك الطفل، كان كل شيءٍ يسير وفق خطةٍ أبدعتها بأنامل عقلي المتفتح على شهوة القتل، المرة الأولى لها النصيب الأكبر من حياة الإنسان، العلاقة الجنسية الأولى، القبلة الأولى، اللمسة الأولى، و ... قطرة الدم الأولى، لكن ذلك الأحمق و الذي شاءت الأقدار أن يكون والدي أتى ليفسد كل شيء، أتى ليحرمني من النظر إلى عيني الطفل اللتان كانتا تومضان للمرة الأخيرة، على كل الأحوال لقد رأيت بعد تلك الليلة الكثير و الكثير من العيون المطفأة و ما زال أمام يدي الكثير من الدماء للإراقة، كما أنَّ ذكرى الجثة الأخيرة التي شوهتها عبقريتي التصويرية و مديتي التي ارتكبت بها الجريمة الأولى، الخطيئة الأولى، هذه الذكرى ستلازمني كثيراً و ستملؤني بأطنانٍ من الـرضا، فرغم كلِّ شيء، لقد كانت أمي، وواجبٌ عليَّ برها. إنَّ أشدَّ ما يؤلمني الآن حقيقة عدم رؤيتي لنهاية العجوز الحنون الذي ذرفت معه الدموع قبل هنيهاتٍ أزلية، ما أجهله، لم يسألني حتى عن إصراري على إبقاء يداي داخل القفازات، الأرجح أن السم قد بدأ تغلغله في جسده الواهن و المنتشي بلقاء ابنته.... وداعاً أيها القاتل البريء..... القانون لا يحمي المغفلين يا أبتي، و ليس القانون الجنائي وحيداً في ذلك.
لقد ظننتها غدت أكثر ذكاءً بعد مضيِّ هذه السنين كلها، ترى هل نسيت أنني استخدمت سمَّ الضفدع الشبحي في إحدى رواياتي البوليسية، أم أنها تعمّدتْ قتلي بسمٍّ من إحدى كتبي، لا أعلم، و لا أظنُّ ذلك مهماً، فبعد أن غادرت قرة عيني، بدأت أشعر بالارتخاء في عضلات جسمي جلها، آه، لقد بدأ السم يؤدي غرضه، أرجو أن لا تكون قد مثّلت بجثَّة أمها، الأرجح أنها فعلت، لمَ يكذب الإنسان على نفسه إلا ليشعرها بالاطمئنان؟؟، الحياة، الترهات التي لقنونا إياها، زوجتي العزيزة، بدأت أهذي ، لن يطول غيابي عنك يا حبيبتي، لقد أنجبنا ذلك الوحش ووجب، حسب العدالة الإلهية السماوية، أن ندفع الثمن، و لكن ألم نحاول أنسنة ذلك الشيطان الذي ولد من ذواتنا؟؟ بدأ تنفسي بالتباطؤ، يبدو يا عزيزتي أنه حتى شرور أنفسنا المدفونة عميقاً في أحلك دهاليز الروح لديها طريقة في الخروج و الصراخ بأقبح الأصوات منفسةً عن الكبت الذي لاقته منا، نحن الذين لم نتجرأ يوماً على الأذى. أتراك صديقة دربي في الجنة أم النار؟؟ و ماذا فعلت روحك النبيلة لتستحق الاحتراق الأبدي، عسى أن أتحد معك مجدداً لنتلاشى بعدها و نذوي دون ذكرْ، عسانا نجد السلام أخيراً.
انتهت بتاريخ 7/11/2012 الساعة 00:45
08-أيار-2021
19-آب-2014 | |
13-آب-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |