الحداثة في الشعر - وجهة نظر
خاص ألف
2014-08-23
في تاريخ الحداثة الشعرية عند العرب ثلاث دوائر. شعر التفعيلة في العراق الذي ازدهر في الثلاثينات. والقصيدة النثرية في لبنان التي ازدهرت في الستينات. وأخيرا شعر المقاومة الفلسطيني الذي بدأ مع نكسة حزيران ووصل للأوج في مرحلة حصار بيروت عام 82.
وكما نلاحظ هذه الدوائر تتقاطع مع ثلاث نقاط هامة في تاريخنا المعرفي والجيوسياسي. فالتفعيلة جاءت لتعبر عن تبدل في شكل الكيانات السياسبة ومعه عن تحول في العلاقات.
وجدير بالذكر أن التفعيلة التي وضع أسسها البياتي والسياب ونازك الملائكة كانت تحاول تبديل الإيقاع وطريقة التواصل مع أساليب الرؤية والمشاهدة.
لقد كان على جيل الثلاثينات أن يشاهد لا أن يكتفي بالاستماع. وهذا تطلب منه هدم بيت الشعر الكلاسيكي واستبداله بجزئيات مترادفة تشبه بسلوكها تفكيك الكل إلى أجزاء.
وقل نفس الشيء عن القصيدة النثرية. لقد كانت طريقة للاستجابة. فقد حولت ضمير المخاطب لضمير المتكلم. ولم يعد الشاعر معنيا بمناجاة قومه أو بتأمل الأطلال الدارسة والبكاء عليها. وإنما أصبح له موقف ينطلق من الذات وينتهي عند حدودها.
ولنأخذ أنسي الحاج ثم شوقي أبي شقرا ويوسف الخال كمثال. لقد اهتموا أصلا بمعراج النفس وهمومها. وأعربوا عن سادية أوديبية منقطعة النظير حيال الماضي الدارس والمرفوض.
ولم يهتموا حقا بمشكلة الأصول أو الينابيع. وبالعكس بدأت كل المفردات والتراكيب والصور من حقيقتها الجوهرية التي هي الحالة أو ما نقول عنه حساسية الفن art sensitivity .
وأوضح النماذج تجدها عند أنسي الحاج.
ففي (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع) نوع من الرثاء لجسم الشعر العربي وإحياء جريء للحالة الشعرية بشموليتها كذات لا تعترف إلا بالحقائق والروحانيات الخاصة.
يقول في هذه القصيدة التي تذكرني بجو المعلقات في كل كلمة وعبارة:
الطريق حبيبتي.
قادم من انتظارها لي
قادم من رجوعي إليها. ص 11(1)
ولنلاحظ هنا استعمال ضمير المتكلم وياء المتكلم. فكل الأشياء تدور وتتطور وتنضج داخل دائرة معارفه وأنانياته الشخصية.
وهذا ما عبر عنه باستراتيجية " الرأس المقطوع" (2) حيث أن الأفكار تصعد من الأسفل ولا تصل للأعلى، تيمنا بالشقاء البشري الذي تصفه أسطورة سيزيف. وهو ما كتب عنه بعد عقود شاعر الحداثة الآخر بول شاوول في مجموعته" وجه يسقط ولا يصل".
فعدم الوصول للهدف سواء بالصعود أو السقوط من أهم شعارات حداثة الستينات. ولا غرابة بذلك، فهي التي مهدت للنكسة وما أعقبها من غثيان وفجوات.
لقد أصبحت المعاني منذ الستينات وما بعد " بيضاء بالمطر" ص 26 فهي مغسولة بالهطول الجارف. وكذلك إنها " تنزل من الرأس المقطوع" ص 26 كناية عن القطيعة المعرفية بين الأجيال، أو ببن الجيلين الآفل واللاحق.
وإذا كان المتصوفة يعتقدون أن الله فاض عليهم بربوبيته حتى توازى بنفسه معهم فأنسي الحاج وشركاه يعتقدون أن جوهر الإنسانية والبشرية فاض على أذهانهم ومخيلتهم حتى أصبحوا خلاصة البشرية جمعاء.
ولا شك أن ذلك استجابة لمتتاليات، بعبارة أخرى لموجات متعاقبة من التبدل والتحول. بعد تجزئة الكل، دخلنا في تراجيديا تفتيت الأجزاء. ويكفي أن نذكر مثالا واحدا على ذلك: وهو تقسيم سوريا إلى سورية ولبنان.
وأعقب ذلك توسعة أفق بيروت كحاضرة ميتروبوليتانية تعيش بما يوفره لها سواها من موارد. وبلغة فرويدية سريرية : أن تهتم بالأنا الآخر alter ego. بمعنى أنها بدأت تنتج ذاتها من مصادر إنسانية عامة.
وكما أرى بدأ شعر المقاومة بتحديث نفسه انطلاقا من معارضة هذه الفكرة.
كان على شعر فلسطين المحتلة أن يبحث عن حقيقة ذاته الضائعة، وأن يعمل على إلغاء الحالة الوجودية لا أن يعترف بها.
لقد استوجب عليه النزوح وتحديات الغياب والموت أن يتمسك ببعض الثوابت ومنها المكان. فهو أقرب عنصر في المفهوم الطبيعي للثبات والديمومة. ولذلك أكثر من الاهتمام بالوجه والملامح والقسمات والانفعالات باعتبار أنها ترميز للأرض والتضاريس.
وهكذا بدأت تنتشر صور ومفردات تعارض الواقع وتناقشه. وأحيانا تدعو إلى إلغائه. وقد ساعد ذلك على ارتفاع صوت ما نسميه بالعصاب. وترتب عليه لاحقا ظهور نبرة مازوشية انتحارية مع الرغبة بحياة تفكر بالموت كطريق للخلاص.
ومن هنا بدأ محمود درويش في تجديد العلاقات في تراكيبه. لقد بدل نظام الصفة والموصوف والمترادفات اللونية. وأكاد أقول إنه لعب بالخطاب البشري لمصلحة خطاب ذهني يعمل بتأويل وتفسير ثم شرح ما يرى. وقاده ذلك لتفنيده. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد وتحصى في مجموعته ( لا تعتذر عما فعلت)(3). إنه يستمع لهديل اليمامة في صوت الحجر. ص 15 وصورته ترنو إليه ص 23 والذكريات مشاهد ومناظر طبيعية يراها الناس ص 25. ومن الواضح أن الأضداد تتساوى عند محمود درويش. وهو ما يعبر عنه بشكل سافر في قصيدته (هو هادئ وأنا كذلك) والتي يتساوى فيها أثر المسكنات مع المنبهات.
يقول:
يحتسي شايا بليمون
وأشرب قهوة. ص 87
ثم يقول:
أحرك رجلي اليسرى
يحرك رجله اليمنى ص 88
وكما أرى إنه بهذه القصيدة يفسر الظواهر بالأسباب. كما فعل لاكان في تفكيك اللاشعور الفرويدي. فهناك وراء التناقضات سبب وجودي وهو هنا الخوف من طبيعة الموقف.
وعن ذلك يقول في نهاية القصيدة:
أفكر: ربما هو قاتل، أو ربما
هو عابر قد ظن أني قاتل
هو خائف، وأنا كذلك!. ص 88.
أما توفيق زياد فقد لعب بالإيقاعات. بالجرس الموسيقي لأهم عناصر الشعرية العربية. ولا أقول إنه حقق نوعا من التنغيم ولكنه أضاف للصوت فراغات. لقد ألحق بالحركة شيئا من السكون.
وأظن أنه أوجد دلالة ذات معنى من خلال توزيع الفراغات بشيء من الانتظام بين الأصوات وحركات الإعراب. مثل قوله:
نعيد إليك الحق الحق المسلوب
وقوله:
حتى لا تشرى لا تشرى وتباع
وقوله في نفس القصيدة انسجاما مع قانون الضرورة الشعرية:
ونقاص الجوع وحرمانه (4).
ومن المؤكد أن نقاص الجوع ليس بمعنى الحرمان بل يعني العذوبة والاستساغة. وقد ورد في لسان العرب عن ابن بري قوله: حصان ريقها عذب نقيص. أي طيب وحلو ( مادة نقص - لسان العرب - الجزء رقم 14).
وهذا لا يشبه ما نفعله بتكرار صورة أو مفردة في مطالع الأبيات في القصيدة بغاية تأكيدها. إنها طريقة لتحقيق الانتباه و ليس التماسك العضوي.
وخذ على سبيل المثال أشعار أديب كمال الدين. فهو يتكل على تكرار مفردة بعينها لتحقيق التآلف بين الصور كلما انتقل من فكرة إلى فكرة. كما هو الحال في قصيدته (الكل يرقص)(5). فالقصيدة تتألف من 18 وحدة شعرية تبدأ كل منها برقص: رقص البحر، رقصت الرصاصة، رقص اللص وهكذا....
أما موهبة توفيق زياد فقد ركزت على تكرار ما لا ضرورة لتكراره، وتغييب ما هو بحاجة للاستطراد والشرح لتكوين بنية صوتية لها معنى يخالف أفق التوقعات.
وهو تكنيك يذكر بإعادة توزيع لحن معروف وله وجود في الذاكرة الشعبية. وكمثال على ذلك إعادة توزيع ألحان سيد درويش على يد الرحابنة وفيروز. فالإيقاعات الجديدة لم تبدل من الظاهرة الصوتية فقط ولكنها غيرت من طريقة استقبالنا للمعنى. إنها حولت معنى الرسالة. ما له رصيد شعبي دخل في دائرة الأنتلجنسيا وأصبح فنا نخبويا.
غير تحديث الخطاب ( عند محمود درويش) وتجديد الإيقاع ( عند توفيق زياد) قدم سميح القاسم لشعر المقاومة صفة تجديد البناء. فقد بدأ مغامرته مع الشعر من داخل التقاليد ولكنه سرعان ما فرض رقابة على الأصول. ويتلخص ذلك باحتواء الذات للموضوع. بحيث تكون الأشياء المحسوسة جزءا لا يتجزأ من الذات أو حركة الروح والنفس. وفي مرحلة لاحقة تجرأ كثيرا على المبدأ الزراعي والرعوي للشعر. وانتقل من حالة الإنشاد لحالة القول. وهذا بعبارة أخرى يعني أنه استطاع أن يربط الخلفيات الملحمية للشعر العربي بالمفهوم الوجودي لمطلق الشعرية كشعر وكفن. وأن يمتحن الماضي وتراكماته بذهنية الحاضر ولا إباليته وعدميته وبفحوى الشك الذي ينطوي عليه. وقاده ذلك في النهاية لإنتاج شعر بخلفيات صناعية. ولا سيما في مجموعتيه الهامتين ( جهات الروح) ثم ( كولاج) (6) التي هي أصغر مجموعاته قاطبة.
في (كولاج) اتبع سميح القاسم أسلوب التعبير التشكيلي والبصري. وسمح لنفسه أن يضع في تركيب واحد المتناقضات. كما فعل الفنانون التشكيليون بتوظيف مواد مختلفة المصادر في خامة واحدة.
إذا كان الفن التشكيلي بعد أن وضعت الحرب الثانية أوزارها استعمل في نفس اللوحة الخشب والجص والمعادن والورق فقد كتب سميح القاسم قصيدته ( كولاج ) بعدة أساليب نثرية وشعرية، واستعمل تراكيب السرد وأساليب الوصف، ولغة الإخبار والصحف وبلاغيات الخطابة.
فقد بدأت القصيدة بشكل حكاية، ثم تحولت لورقة من مفكرة الشاعر ص 22. وتطورت فيما يعد إلى مقتطفات من جريدة يديعوت أحرونوت ص 23 قبل أن تتحول لمقتطفات من شعر التفعيلة ص 25.
وكان في كل ما فعل متمسكا بقانون الشعرية. فهو لم يتجرأ على العاطفة ولا على التلامس الإنساني. ولم يفقر الروح في القصيدة.
لقد كان مثل فرسان العراق الثلاثة، ومع فرسان لبنان الثلاثة، يعرب عن ذاتيته ليصعد بموضوعه.
هوامش:
1- الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع- أنسي الحاج- دار الجديد- 1994 .
2- الرأس المقطوع أنسي الحاج - المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع - 1982 .
3- لا تعتذر عما فعلت - محمود درويش- رياض الريس للكتب والنشر- 2004.
4 - قصيدة يا شعبي . توفيق زياد.موقع أدب الإلكتروني.
5- الكل يرقص. أديب كمال الدين. قصيد منشورة في قاب قوسين الإلكترونية. 8-9-2014 .
6- كولاج- سميح القاسم- دار حوار- 1984.
آب 2014
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |