الغرفة / قصة دوريس ليسينغ ترجمة:
خاص ألف
2014-09-06
حينما أتيت لأول مرة إلى هذه الشقة المؤلفة من أربع غرف تشبه العلب الصغيرة، كانت غرفة النوم مغطاة بلون وردي شاحب، باستثناء الجدار الذي فيه الموقد، فقد كان له ورق جدران أزرق و وردي مشرق. أما الموقد فله إطار خشبي بلون بنفسجي قاتم، و تقريبا أسود. و أعلم علم اليقين أن هذا اللون يباع في متجر متخصص بالديكور تراه في الويست إيند، و يدعى بيلبيري.
سكنت في الشقة قبلي فتاتان. فقيرتان جدا، كما هو واضح، لأن السجاد مليء بالثقوب و الجدران مزينة بإعلانات لشركات السياحة و السفر المحلية. و أخبرتني المرأة التي تقطن في الطابق العلوي أنهما غالبا ما تعقدان حفلات تستمر طوال الليل. و أضافت: كنت أحب الاستماع لتلك الأصوات، فأنا أستمتع بصخب الحياة. كانت امرأة منفتحة. و لكنني لم أكن أقيم حفلات تسعدها. و لم تترك الفتاتان عنوانا لتحويل الرسائل المتأخرة، كما هي العادة المتبعة في شقة من هذا النوع.
و على امتداد السنوات غالبا ما كان الجرس يرن و يسأل بعض الأشخاص عن " أنغوس فيرغسون - كنا نعتقد أنه يسكن هنا؟". و عن آل ميتلاند؟ و عن السيدة دولاند؟. و عن أولاد عائلة كايتسبي؟ كل هؤلاء، و ربما أخرون، عاشوا في هذه الشقة، ثم رحلوا و لم يتركوا أثرا وراءهم. و لم أكن أعرف عنهم شيئا، و كذلك بقية الموجودين في المبنى مع أن بعضهم يعيش هنا من سنوات مضت.
رأيت أن اللون الوردي مبهر للبصر، و بعد عدة اختيارات غير موفقة استقر الرأي على لون الجدران الأبيض ،مع أثر من اللون الأشهب أو لون خشب التوت البري. في البداية وضعت الستائر الرمادية، ثم الزرق. و وضعت السرير تحت النافذة. و هناك طاولة، للكتابة عليها، و لكنها دائما مشغولة بكدسة من الأوراق. لذلك كنت أكتب في غرفة المعيشة أو على طاولة المطبخ. و لكنني أنفق فترة طويلة في غرفة النوم. فالسرير مكان مفضل للقراءة، و التفكير، أو الاسترخاء. هذه هي غرفتي؛ هنا أشعر بالحياة، مع أن المشهد العام سيء و هناك أشياء تلفت الانتباه و تترك لديك الانطباع بالبشاعة و الدمامة. على سبيل المثال، الموقد من الحديد - مع بروزات و نتوءات سود مزخرفة. و قد تركته الفتاتان كما هو، و استعملتا عوضا عنه مدفأة تعمل بالغاز أودعتاها في فتحة الموقد. كانت دمامته تلفت انتباهي إليه باستمرار، و قد أضفت شريطا يهبط من السقف للأسفل بلون أشهب داكن، كي يغطي على الموقد و الرف الثقيل و الصغير الذي فوقه.
على طرفي الشريط، و بما أنه ليس بمقدوري أن ألون كل الجدار بلون أشهب، و الذي يبدو في الليل أسود، تركت شريطين من ورق الجدران العبثي و الذي يحمل صورا لأشخاص مشرقين يشبهون عصافير محبوسين بأقفاص وردية و زرق.
و هكذا أصبح الموقد يبدو أقل عنجهية، و لكن مدفأتي تعمل بالغاز، و لها شكل برونزي مربع و مصمت، و حملتها معي من شقة سابقة لأنها ليست مستهلكة تماما. و لكنها لم تكن تناسب هذا المكان أبدا. و عليه لم يكن الجدار مريحا للنظر، و كأنه على وشك الانهيار.
جدار أخر، الجدار المجاور لسريري، لحقه الضرر أيضا. فوق السرير تجد فقاعات منتفخة صغيرة على امتداد قدمين و ربما أكثر. و حاول أحدهم - أنغوس فيرغسون؟ عائلة مايتلاندس؟ السيدة دولاند؟ استبدال ورق الجدران المتساقط و حاولوا اللعب بذلك. و لكن لم يجدوا رجلا محترفا يستطيع التحايل على تلك التشوهات.
و بشكل عام أسعدني ذلك: ذكرني بالجدران البيض غير المنتظمة التي رأيتها في بيت آخر عشت فيه من قبل. و لربما اخترت تغطية هذه الغرفة باللون الأبيض لأنني أردت تكرار ذلك الجدار الأبيض الجامد الذي مررت به في بيت سابق هنا في لندن؟.
السقف هو السقف: مسطح و أبيض و بلا نتوءات. و له إطار من ورق ثقيل على الغرفة و يبدو كأنه على وشك الانهيار فوقك بكل بساطة. كل البناء له منظر دميم و مصمت. فهو رخيص، و كذلك غير متماسك. على سبيل المثال، بالنقر على الجدران تسمع صوتا أجوف، و إذا وصل النور لورق الجدران يبدأ بالتجعد كما لو أن الجدران من رمل ناعم متماسك بورق الجدران. و كان يمكنني سماع أي شيء يجري فوق رأسي، حيث المرأة العجوز التي تعيش برفقة زوجها وتحب صوت تيار الحياة قليلا. و هي سويدية، و تعمل بتدريس اللغة السويدية.
إنها حسنة المظهر و الثياب و تبدو بشكل وقور و محبب و محترم. و مع ذلك هي حمقاء. لباب بيتها من الداخل أربعة أقفال ثقيلة، و مزالج و مشابك. و لو قرعت بابها تفتحه و تتركه معلقا بالجنزير الذي يبلغ طوله أربع بوصات و تنظر من خلفه لتتأكد أنني ( أو أنهم ) لن يهاجموها.
في الداخل تجد عالما حالما قوامه الترتيب و اللباقة. فهي تنفق كل اليوم على التنظيف و التوضيب. و إذا لم تجد شيئا آخر لتقوم به في شقتها تضع ملاحظات على السلالم تقول فيها:" أي شخص يلقي النفايات على هذه السلالم سوف يتم الإبلاغ عنه للسلطات". ثم تزور كل الشقق بالدور ( هناك مثاني شقق متشابهة، الواحدة فوق الأخرى) و تقول بصوت ثابت:" طبعا هذه الملاحظات لا تعنيك".
كان زوجها يعمل في شركة تصدير و يغيب لفترات طويلة. و حين تتوقع عودته، ترتدي أفضل ما لديها من الثياب و كأنها عروس و تنطلق لملاقاته، بوجه محمر من الوجل. و في الليالي التي يعود بها من رحلاته يئن السرير فوق رأسي، و أسمعهما يقهقهان. إنهما زوجان بغاية الترتيب، الإيواء للسرير في الحادية عشرة من كل ليلة، و النهوض في التاسعة من كل صباح. بالنسبة لي، لا يوجد نظام جاهز لحياتي و لذلك أشعر بالغبطة لهما. و أحيانا، إذا تأخرت بالعمل، أسمع صوت حركات استيقاظهما و أفكر و أنا في الرقاد نصف نائمة: جيد، بدأ يوم آخر، أليس كذلك؟. ثم أسبح مع التيار نحو ما يشبه الوعي و أنتبه لوقع خطواتهما و لصليل الأكواب. و أحيانا، إذا نمت في فترة الظهيرة، و هذا ما أقوم به لأن استراحة الظهيرة أهم من رقاد الليل، أشعر أنها تأوي لإغفاءة قصيرة أيضا. و أفكر بنفسي و بها في حالة استلقاء أفقي فوق بعضنا بعضا، كما لو أننا على رفين متتاليين.
و أذا ما استلقيت لأنام بعد وجبة الغداء لا توجد في رأسي خطط غير مدبرة.
مريضة قليلا أو متعبة جدا. ثم أفرض التعتيم على الغرفة. أغلق كل الأبواب حتى لا يوقظني رنين الهاتف ( مع أن رنينه البعيد يمكنه أن يكون محفزا للأحلام ) ثم أنهض من السرير بتحفظ لأحتفظ ببقايا النوم. تلك الاستراحات تساعدني في عملي، و تخبرني ماذا أكتب و أين كنت مخطئة. و تنقذني من حمى القلق و التي تأتي في أعقاب اللقاء بأشخاص متعددين. و دائما أغرق بالنوم في العصارى مع الرغبة برحلة طويلة أجوب خلالها المجهول، أما النوم الرقيق و الاستثنائي فيأخذني إلى مناطق من الصعب التعرف عليها و وصفها في حالة اليقظة و الوعي.
ثم حل يوم انتهت فيه الرحلات الغريبة و لم تعد هناك معلومات مفيدة عن عملي. و اختلف رقادي عن النوم العادي و اعتقدت لبعض الوقت أنني مستيقظة. كنت أستلقي في عتمة خفيفة و صنعت الستائر من ظلال العتمات الزرق المتباينة خيالا أرجوانيا متحركا. في الخارج كانت الأمسية حافلة. و كان بمقدوري الاستماع لأصوات تأتي من السوق.
ثم اندلع صراخ غاضب، نوع من أنواع للشجار، أصوات رجل و امرأة. كنت أتأمل الموقد و أفكر بدمامته، و أتساءل ما نمط الرجل الذي اختار عن عمد هذا الشكل البشع المصنوع من الحديد الأسود. مع أنني قمت بطلائه. نعم، سواء كنت أمتلك ثمنه أو لا كان يجب التخلص من موقد الغاز البرونزي المضلع و أبحث عن آخر أجمل منه. و تخيلت أن المربع البرونزي قد اختفى، و مكانه حلت صفيحة صغيرة بفراغات من الحديد الأسود و فيها ألسنة ملتهبة، و يتصاعد منها البخار. و كان البخار يتدفق على الغرفة، حتى انتفخت عيناي.
تبدل حال الغرفة: و شعرت بالقشعريرة و لم أتعرف على نفسي و أنا أنظر فيما حولي. كان على الجدران ورق له شكل بني كالروث، و بالنظر له عن مقربة يمكن أن تلاحظ أوراقا بنية مصفرة و جذوعا بنية. و عليه شتى البقع. و السقف مصفر و براق بسبب الدخان. و هناك بعض المزق هي بقايا ستائر وردية ذات ظل بني كانت تغطي النوافذ مع شق في إحداها بحيث يبدو الطرف السفلي متدليا.
غادرت السرير، و لكن جلست قرب النار في طرف الغرفة، أنظر للفراش و النافذة. في الخارج اندلعت مشاجرة حادة، و ارتفعت الأصوات من الشارع. و شعرت بالبرد، و بدأت أرتجف، حتى دمعت عيناي. في فجوة الموقد توجد ثلاث قطع من الفحم المشتعل، كان الدخان ينبعث منها بكثافة. و تحتي وضعت وسادة أو " معطفا" مطويا، شيئا من هذا القبيل. و بدأت الغرفة تبدو أكبر حجما. نعم، يا لها من غرفة واسعة. كان قرب السرير صندوق خشبي مطلي بالبني و منخفض بمقدار قدم بالمقارنة مع ارتفاعي. و بطانية عسكرية حمراء ممدودة أمام قدم السرير. و في خلفية الموقد من الطرفين و من الأسفل رفوف مستوية من الخشب تحتفظ بالثياب المطوية و بمجلات قديمة و بقدور شاي بنية من الصلصال. هذه الأشياء إن دلت على شيء فهي تدل على الفقر.
كنت وحيدة في الغرفة. و لكن هناك شخص في بيت الجيران. و بمقدوري سماع أصوات محزنة و كئيبة، يمكنني فهمها. و من الطابق الأعلى تأتي ضحكات تبعث في النفس الشعور بالبغضاء. هل المرأة السويدية العجوز تضحك؟. مع من؟ و هل عاد زوجها فجأة؟.
كنت أتعذب مع الوحدة و التي يبدو أنه لا شفاء منها، فلا أحد سيأتي و ينقذني.
جلست أنظر للسرير الذي تغطيه البطانية الرخيصة الحمراء و التي توحي بالمرض. و اختنقت بالدخان الذي مزق بلعومي. كنت صغيرة، أعلم ذلك. و هناك حرب طاحنة، شيء له علاقة بالحروب، كان للحرب علاقة بهذا الحلم و هذه الذكريات المقبضة للنفس. ذكريات من؟. لقد عدت لغرفتي الخاصة، و استلقيت على سريري، و الهدوء و الصمت يرين في الأعلى و في البيت المجاور. كنت وحيدة في الشقة، أراقب الستائر الداكنة الزرق التي ترتعش قليلا. و اليأس يغمرني.
غادرت غرفة النوم الأنيقة و جهزت الشاي، ثم عدت لأرفع الستائر و أسمح للنور بالدخول. و أشعلت موقد الغاز. فأصبح حارا و أحمر، و طرد الذكريات الباردة، و نظرت خلف الإطار البرونزي حيث الفراغ الذي يخلو من الفحم، كما أعلم، من سنوات.
و حاولت أن أتخيل الغرفة الأخرى و التي هي تحت هذه الغرفة، أو قربها، أو بداخلها، أو الموجودة في ذاكرة أحد الأشخاص.
ما هي الحرب التي كانت؟. و من مر بتلك المجاعة الخانقة؟ و رغبت لو أعلم المزيد عن المخلوق الصغير الخائف. هو ( أو هي ) بحجم صغير حتما و لذلك كانت الغرفة تبدو كبيرة جدا. و لكن فشلت جهودي. ربما المشاجرة في الخارج ، على قارعة الطريق، التي... التي ماذا؟ و لماذا؟...
الترجمة من " قصص" لدوريس ليسنغ، منشورات نوبف دابلداي. منشورات كتاب فينتاج ١٩٨٠
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |