قصتان للكاتبة الروسية أولغا زيلبيربورغ ترجمة:
خاص ألف
2014-09-20
*الناجون
أغلق انفجار غاز منجما للفحم الحجري، و قتل العديد من الموجودين و ترك سبع عشرة عاملا محبوسين تحت الأرض. و تمكنوا من الحياة لستة عشر أسبوعا تقاسموا خلالها حصة يومية من الطعام تعادل ملعقتين من لحم العجل المعلب، و قطعة بسكويت، و جرعة فودكا. و انتظروا النجدة و لكن لم يصل أحد. و بعد ثلاثة اسابيع، انفتحت حفرة على مبعدة خطوات من الملجأ الذي احتموا به. و كان على ما يبدو أن فيها هواء نقيا للتنفس، مع القليل من شذا عطر الورد. قال إيفان المتهور:" ماذا لو انهارت الفجوة؟". و بعد ثلاثة أيام من النوم على الأرض التي تراكم عليها الغبار، ربط سلما من الحبال بطرف الحفرة و تدلى فيها. صاح من الأسفل:" آه، ها، ها. تعالوا يا أخوتي!". ثم ارتخى الحبل و لم يسمع منه أحد نفسا واحدا.
بالرغم من صمت إيفان، قرر عدد من الرجال أن يحذوا حذوه. كانت هناك عدة طرق للاقتراب من المهبط. اقترب أحدهم على ركبتيه، و ذراعاه يرتعشان. و رسم إشارة الصليب ثلاث مرات قبل أن يتمسك بالسلم الممدود. و قال آخر:" على أي ذنب تعاقبني يا ربي؟. إلى الجميم بكل شيء". و غاص في الحفرة ، بدأ بقدميه مثل جندي المظلات. و هناك ثالث وقف ينظر و هو يعب الفودكا، حتى ضاع رشده. ثم تدحرج نحو الحفرة كأنه برميل.
التم شمل بقية العمال في السرداب، و هم يتهامسون و ينتظرون النتيجة بفارغ الصبر. قالوا:" مشكلتنا أننا بلا قائد.". و أضافوا:" كان من الممكن لإيفان أن يستلم زمام أمورنا. يا له من أحمق مغفل". و قال أحدهم لعل الأرض اهتزت و تغيرت قوانين الجاذبية. فالحفرة في الحقيقة هي الفجوة التي هبطوا فيها من سطح الأرض. و لكن انظروا أين هي الآن. و هذا يفسر تدفق تيار الهواء المنعش فيها.
انقسم عمال المنجم إلى مجموعتين. إحداهما قررت الهبوط للأسفل، و اختار البقية الانتظار في الملجأ و الانتظار. و رغب أعضاء أول مجموعة بتوزيع المؤونة، و أصر الآخرون على عدم المساس بها. اختلفوا قليلا ثم هبط بعضهم في الحفرة. و الإثنان اللذان تعتاكا هبطا في الحفرة معا.
بعد اختفائهما، التزم الجميع الصمت و أصغيا. و سمعوا أصواتا فجائية قصيرة لم يكن لها معنى: قال البعض كأنه إطلاق نار من بنادق نصف آلية، و رأى الآخرون أنها تشبه فرقعة البوشار على النار. و قال رجل واحد: هذه ضحكات إيفان المتهور، و لكن هذا الرجل نفسه كان شبه مجنون. لذلك حملوه إلى الحفرة و ألقوه فيها.
صاح شخص يقول: " ستفوز بساق مكسورة!".
و لكن الرجل أغرق بالضحك و هو يسقط.
و لم يصدر عنه صوت ارتطام و لا هدير مياه و لا فرقعة و لا تهشيم و لا انفجار و لا احتجاج و لا عويل - الصمت المطبق فقط.
في بريق المصابيح لمع عمال المنجم بألوان مختلفة. و عادوا إلى مخبئهم واحدا بإثر الآخر و هناك أطفاوا المصابيح.
تبقى ستة رجال. فرفعوا حصة كل واحد من المؤونة و عمدوا للجلوس على طرف الحفرة و دلوا أقدامهم فيها. و داعبت لحاهم نسمة هواء دافئة.
قال أحدهم:" انفقت في الماضي وقتا على شاطئ البحر. و لكن هذه الاستراحة أفضل".
قال الآخر:" هذا صحيح. ليس معي زوجتي و لا أولادي. لا يوجد رئيس في العمل. و لا يوجد حد أدنى للطعام. هيا انعموا بالهدوء يا أخوتي. تعلمون ماذا يحصل بعد موت عامل منجم؟ نحصل على عطلة ثلاثة أيام، ثم نعود لمدافننا تحت الأرض".
كان الناجون الستة عمليين، إنهم رجال المهمات الصعبة، و ليس بينهم متهور و لا رعديد، لا أحد بينهم عنيد و لا مراوغ. هم عمال مناجم من الجيل الثاني و الثالث و لا يعرفون شيئا عن الحياة خارج السرداب. و هم غير متدينين ولا يؤمنون بالخرافات. و أيضا هم لا يكرهون الاستجمام في البيت في العطل المسيحية، و يتوقفون عن ممارسة الجنس قبل الهبوط في المنجم- الجنس حظ سيء. شؤم. و كذلك لا يخشون الأشباح و لا يؤمنون بوجود مصاصي دماء و لا غزاة من الفضاء و لا عفاريت. و ليس بينهم من يؤمن بالسحر، حتى لو شاهدوا حفرة تنفح في أعماق المنجم و يهب منها هواء منعش. هؤلاء الرجال لديهم قدرات خاصة للصراع من أجل البقاء.
أن يكونوا أحياء هو هدفهم.
قال أحدهم:" كان إيفان يعتقد أنه أفضل منا".
قال آخر:" يا له من مغفل كسول. اختفى بسهولة. استسلم لمصيره ببساطة".
و قال ثالث:" بعض الرجال لا يقنعون بقدرهم".
هل سمعتم بحكاية عامل المنجم و والد زوجته؟ كلاهما كان يعمل في نفس المنجم، و لكن بنوبات مختلفة. و تنتظر زوجتاهما في البيت وحيدتين-". و تابع سرد قصته.
لم يقفز هؤلاء الرجال في الحفرة. و لم ينقذهم أحد. و هم هناك حتى الآن، تحت الأرض على مسافة كيلومتر، بمحاذاة الحفرة العجيبة، و لكن التزموا الصمت ليحافظوا على الهواء المنعش للتنفس...
*الحافلة
لا أحب التأخير. و بالعادة حينما أكون مضطرة للالتحاق بالعمل في التاسعة صباحا، أحضر منذ الثامنة و ١٠ دقائق و أتسكع على الرصيف لساعة حتى لحظة وصول رئيسي و معه المفاتيح. و لربما تعتقدون أن هذه عادة جيدة، و لكن يمكنها أن تتسبب بالضرر. في الجامعة، على سبيل المثال، انعكس ذلك على علاماتي: كنت أحضر قبل الامتحان بساعتين و أعد الدقائق المتبقية على الميعاد بمزيد من القلق و خلال ذلك أصيخ السمع لكل الأولاد الذين يحاولون جهدهم مذاكرة محتويات الكتب المدرسية، و حينما توزع أوراق الامتحان، أجمد و أنفق أول ١٥ دقيقة في محاولة يائسة لتذكر و لو رؤوس أقلام. و لكن ها أنا أحاول المناورة مع عادتي: حاليا " أن أحضر بتمام أهبتي و متأخرة" يعني أن أصل قبل الموعد بعشر دقائق فقط. و الحلم الذي يراودني طوال الوقت أن أقابل ذات يوم شخصا لديه الاستعداد لانتظاري.
يوميا أستقل قطار الأنفاق للعمل. و أقرب محطة تبعد تقريبا ١٥ دقيقة مشيا على الأقدام و ١٠ دقائق بالحافلة. و يوميا حين أغادر المنزل و أغلق الباب خلفي، أواجه هذا الاختيار: هل يجب أن ألتف من حول المنعطف يسارا لأصل لموقف الحافلة أو يمينا نحو الأنفاق؟. و مهما كان قراري لا توجد عواقب، فأنا بالعادة أغادر البيت في الـ 7 و 30 د. و هذا يمنحني فرصة أمان، و مع ذلك أن أتخذ قرارا شيء بمنتهى الصعوبة. فقد ألتف يمينا و أسير مسافة نصف شارع ثم تفاجئني الحافلة، و هي تنطلق بسرعة قصوى و تزمجر و عيناها الخبيثتان مفتوحتان؟.
يا لها من إهانة !. على أية حال، من الأفضل الإنعطاف يسارا. ثم الجلوس في موقف الحافلات و إنفاق ١٥ دقيقة في مراقبة الذباب و هو يمتص السائل الأحمر الدبق الموجود على المقعد المجاور؟. و حينما تلوح الحافلة أخيرا، تكون التكشيرة على وجهها عريضة، و فورا أشعر بالحنق و الرغبة في إلقاء شتيمة في وسط عينها البراقة المفتوحة على وسعها، ثم الاستدارة و متابعة المسير على الأقدام نحو الأنفاق. و لكن لم أفعل ذلك حتى حينه. و إنما أنسى كرامتي و أدفع ثمن التذكرة بصمت. كلا، لا يمكنني أن أربح الرهان ضد الحافلة.
و ازداد تفاقم هذه الحالة و بدأت في الفترة الأخيرة بالمراهنة. و الآن، يوميا، بعد إغلاق باب شقتي، أرمي قطعة نقود في الهواء: لو كانت طرة، يجب أن أذهب للحافلة، و أن أستدير يسارا نحو موقف الباصات. و هذا يبدو لي حلا مثاليا، أنهي به كل مشاكلي بضربة حاسمة. هل هناك ما هو أبسط من الاعتماد في الاختيارات على الحظ، و أن تضع حياتك بين يدي الصدفة؟..
و حالفني التوفيق بهذا الأسلوب لفترة، حتى صباح يوم ربيعي مشرق ارتديت فيه سروالا ضيقا جدا. و كنت مبتهجة حين فتحت الباب و سمعت العصافير تغرد بين أغصان شجرة الورد أمام البيت!. ثم أغلقت الباب ببطء و فتشت في الجيوب الصغيرة المشدودة بحثا عن النقود. هكذا شعرت بسخرية الأقدار التي تجدها وراء كل شيء: حينما لمعت القطعة النقدية في شمس الصباح الرقيق، هرعت الحافلة من يميني أمام عيني، و هي تئن بألم تحت تأثير درعها المعدني.
حالة هذه الحرب تسير من سيء لأسوأ. الحافلة الآن تؤثر حتى باختيار الثياب المناسبة للخروج. أولا، قررت التخلص من هذا السروال فورا، فقد كان غير محظوظ. و حسم مصيري. ثانيا، توقفت عن ارتداء البلوزات و استبدلتها بالسترات المزودة بجيوب لديها القدرة على احتواء فائض من النقود المعدنية.
ثالثا، توقفت عن مغادرة المنزل محملة بما يزيد على جعبة واحدة على كتفي: بهذه الطريقة، يمكنني سحب قطعة نقود بيد واحدة و أنا أقفل البيت بالثانية. ماذا بعد؟. أخطط في الأسبوع القادم لشراء سترة مع غطاء رأس، و ذلك لأتخلص من المظلة.
بالمقارنة، العودة من الأنفاق متعة لا تدانيها متعة. دائما أجد شيئا يعينني: اليوم يجب أن أذهب للبريد، و في الغد، يجب أن أمر على مخزن خضروات، و في اليوم اللاحق سوف أذهب إلى " قصة رائعة" لأحلق شعري. كل هذه النشاطات لحسن الحظ موجودة بين محطة الأنفاق و بيتي، و هكذا، من الطبيعي، أن أتوقف عن التفكير بركوب الحافلة.
أولغا زيلبيربورغ Olga Zilberbourg : كاتبة روسية من سان بطرسبورغ. حاليا تعيش في سان فرانسيسكو. تكتب باللغتين الروسية و الإنكليزية. و هي عضو هيئة التحكيم لمجلة سرديات. والترجمة بإذن منها.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |