عبد الحليم المدني وأدب الخيال العلمي – حلول فانتازية للتخلف
خاص ألف
2014-11-12
تندرج تجربة الدكتور عبدالحليم المدني في قصص أولى مجموعاته (الصعود إلى نبتون) (*) في إطار هو مزيج من الخيال العلمي و الفانتازيا.
و قصص المجموعة التي يبلغ عددها 18 قصة لا تخلو من نبوءات و اكتشافات على طريقة جول فيرن و سلفه دافنشي. فالخيال ترفده معطيات من تأملاتنا بالكون و أسرار الجاذبية و معنى دورة الكواكب لتعاقب الليل و النهار و الفصول.
و يكفي أن تلقي نظرة على العناوين ليتوضح ذلك، مثل: حلم طائر النار، معجزة الأقمار القزحية، الروبوت، رماد الحطام الأحمر، مكعب الكون اللامع، موت لازوردي، النيزك...
لقد كانت تلك القصص مشغولة بالفضاء و استعملت مفردات تنتمي لعصر المراكب التي ترتاد الآفاق و تلقي الضوء على مجاهيل و ألغاز المجرة الشمسية. مع إضافات من الذهن. و لا سيما بخصوص كواكب و نجوم متخيلة. و مواهب لا يتمتع بها الإنسان العادي.
فأبطال هذه القصص من النوع الخارق و الفذ و الذي لديه مقدرات نسمع بها كما سمعنا من قبل بعالم الجن و تميزه عن عالم الإنس.
إن الإنسان في قصص المجموعة له نظرات ليزرية و قلب حديدي و يركب سفن الفضاء التي تحمل أسماء استعارها خيال الكاتب من الطبيعة مثل السهم الأبيض و الشعاع الأرجواني و الجسم اللامع...
و من هذه النقطة يفترق عن تراث عصر النهضة و عن الخلاصة الفنية التي وصل إليها في أدبيات جول فيرن و يدخل في مجال أدب الخوارق.
لقد كان الخيال العلمي ينتمي لدائرة رومنسية تقدم للإنسان تفسيرات متناهية بالانطلاق من حقائق جوهره البشري الذي مر بحلقات في سلم التطور، من العصر الحجري و الحديدي بعد اكتشاف النار إلى عصر الانتاج و بناء الأسرة. بمعنى انتقاله من حالة التجوال و التشرد إلى تكوين أسرة أوديبية منتظمة لها رأس مثلث و أضلاع.
وإن هذا الانتظام داخل علاقات قرابة وضع ذهن الإنسان أمام حالة وجودية غامضة تطلبت منه أن يطلق سراح خياله. و لكن ضمن إمكانيات يسمح بها المنطق. و تقبلها جدلية الروح و المادة.. الوفرة و الندرة. أسرارية الذات و إلغازية البيئة اللامتناهية.
و لذلك كانت لا تخلو قصص الخيال العلمي من الإثارة الداخلية التي تتحرك مع حركة نفس الإنسان و مع نضوجه و توسيعه. لقد كان أبطال القصص العلمي يرتادون لاشعورهم و يكتشفونه، و يحاولون توسيع دائرة الإضاءة.
و هذا عجل بمصيرهم المحتوم. و هو موت أوديب. بمعنى القضاء على الفكرة التقليدية لأسرة تتألف من أم و أب و أبناء.
وإن استنفاذ كل إمكانيات اللاشعور و ردمه تحت طبقات المنطق الرياضي ،الذي يبدو محروما من الصدفة، حول الإنسان الغامض الذي يشبه أدغال غابة عذراء إلى روبوت يتحرك بالأوامر و بالمعادلات و الرموز الرياضية.
و لو ألقيت نظرة على مجمل أعمال نيل غايمان، المغرقة بالخيال و بالاكتشافات العلمية، لما وجدت خيطا واحدا يربطها مع ما يعرف لدينا بالخيال العلمي.
إنه لا يتكلم إلا عن خوارق. حتى أن النبات و الحيوان لديه من فولاذ أو حديد مصفح. ناهيك عن الإنسان. فهو دائما يرتدي الدروع التي تغطي كافة وجهه و الأجزاء الحساسة من أعضائه. و هذه أيضا قد لا تكون من خلايا و عضلات. و لكن من صفائح معدنية. أضف لذلك أنه لا يفكر و لا يشعر و يتحرك بوحي من ضرورة السيطرة و التوسع و الاستحواذ و التملك.
إنه إنسان تصعيدي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. و التصعيد هنا ليس بمدلول التسامي، الذي وضع أسسه الإغريق في الشعر و الدراما، و لكن بمدلول التحول من مادة صلبة ذات قوام إلى مادة بلا شكل.
إن أفكار نيل غايمان دخانية و ضبابية. و تتحرك عند خطوط العزل، في عالم متخيل يضمحل تدريجيا و يفسح المعقول فيه المجال لغير اللامعقول.
و بعبارة أقرب للفهم إنه يبدأ من غوامض لا نعقلها إلى ألغاز مبهمة تحتاج لحل.
فسكان الفضاء في أعماله جبابرة يخططون لاستعمار المجرة و النجوم. و إذا كنا لم نسمع بأسماء البلدان التي يتحدث عنها و التي يفترض أنها تسبح في الفضاء فإنها مع تطور الحبكة تبدو كواكب نموذجية تتعاقب عليها ظواهر معروفة كالجفاف ( و إن كان جفافا جليديا - التجفيد بلغة العلوم الحديثة).
و السبات ( الذي يسببه البرد القارس – أو ما نسميه الحماية السلبية )، و هكذا...
و مثله في قصص المدني حوادث و تحولات تبتعد عن الخيال المعقول و الرومنسي لتراث النهضة العلمية و الصناعية و تقترب من خوارق و مستحيلات الثورة الصناعية. ثورة انفجار المعلومات و تجزيء المجزأ. مثل تحطيم النواة.
فهو يشير في عدة مواضع لكواكب زمردية و لحياة تحت الصفر بألوف الدرجات.
وفي قصة ليلة الطرد من الجنة لا يغلي الدم إلا بدرجة مليون مئوي و قد يتحول لصقيع أحمر.
و إذا كانت لغايمان أسبابه. و هي تبدل شكل الأسرة و موت الإنسان ( الأوديبي) و ما ترتب على ذلك من إنسان مركب يعاني من انفصام و عدم ترابط بين وعيه و شروط حريته و ظروف الالتزام أو المسؤولية ( و هذا بلغة سارتر و بالحرف الواحد) فما هو عذر عبد الحليم المدني؟.
لا أعتقد أن الأسرة في هذه المنطقة من العالم تشاهد قطيعة مع ماضيها. بالعكس نظام القرابة يكاد يتحول لرابطة مرعبة. لعبء لا مفر منه. و نحن نتحرك بسرعة الضوء لنعود إلى نظام القبيلة و العشيرة. و لا سيما منذ اندلاع شرارة الثورات الأخيرة في 2003 و ما بعد.
و لكن ربما إن تفتيت البلدان لمكوناتها من طوائف و مذاهب و الوعي بالكونفدرالية كحل نستعيض به عن المركزية هو الذي يقف خلف ظاهرة تفتيت الأجزاء لوحدات أصغر.
إن هذا القران الميمون بين الخوارق و الخيالات الفاتنة التي لا تنكر أصالة مشاعر الحب و الغرام، ففي كل القصص مبدأ ذكورة يبحث عن مبدأ أنوثة من خلال علاقة عاطفية و لكن استجابة لنداء الغرائز فحسب، قد وضع هذه القصص في وضع خاص و فريد من نوعه.
لقد ـغنى المفردات العلمية المدهشة التي تتغنى بجماليات الغريب و العجائبي و اللامتناهي بعاطفة ليس هناك ميزان لتقديرها و لا حتى لقياسها.
كان النوع هو الذي ينضج في هذه القصص و ليس الكم.
و إن عاطفة عبدالحليم المدني تتألف من طبقتين..
طبقة الحب البشري الذي لا يموت و لا يندحر في زمن الروبوت و القلب الصناعي. قلب المضخات المعدنية.
ففي كل القصص عاطفة حب عفيف تتحول مع الزمن إلى رغبة. و الحوار تالمونولوجي في قصة ( حلم طائر النار) هو أشبه ما يكون بتحوير لجو و طقس نشيد الإنشاد الذي يشيد بقيمة الغرام و الحب.
يقول مثلا في هذه القصة عن عيني محبوبته : حدق في بحريها العسليين.
و يقول عن إحساسه بها: إنه تأكد أن قلبه بدأ يدق.
و يضيف عن شعرها الأشقر فيقول: غابتها الذهبية.
إن أية مقارنة مع نشيد الإنشاد و فن الهوى لأوفيد تجزم كيف أن هذا الحب و الغرام له جوانب مادية و عشقية، تضع العاطفة المهذبة في إطار من الصفات و الاستعارات المحسوسة.
و لكن هناك أيضا طبقة الإيمان و الالتزام بجوهر الخليقة. ففي القصص كذلك رموز دينية من عجائب التراث الإسلامي. إنها رموز توسع بالإدراك و المعجزات محدودية طاقة الإنسان.
و منها حكاية الإسراء و المعراج. و تآلف عوالم الجن و الإنس و الملائكة.
لقد كانت شخصيات هذه القصص قادرة على رؤية الجن و ليس الاستماع لوساوسها فقط. و كانت تصعد للسماء بمرقاة غريبة لا يمكن وصفها إلا بالمبالغات و الصور الحسية العجيبة.
و يمكن أن أضيف طبقة ثالثة لها علاقة بمعارف و حضارة بلاد الرافدين. مسقط رأس المدني نفسه. فقد وظف بعض الرموز بالاستعارة من ملحمة جلجامش و من أبراج بابل المعلقة و من التاريخ الطبيعي لوادي الرافدين خلال تطوره عبر العصور.
و هذا نقل عاطفته الإسلامية من مجال أحسن القصص لمجال الذهن الحضاري المستمر الذي تحول معه فضاء كل قصة لخلطة مدهشة من الخيال العلمي و الفانتازيا الملحمية و روحانيات أو وجدانيات ما فوق الواقع و ميتافيزياء العقل المؤمن.
لا شك أن قصص عبد الحليم المدني مغامرة فريدة من نوعها و تستحق التأمل الذي يلقي بظل من الشك على مصير الإنسان مع كثير من الحزن حيال انجراحيته و مصيره الغامض.
و إذا كان الجو في الظاهر يتحدث عن مستقبلنا البعيد، فهو في الحقيقة، يعيد تفكيك قصتنا مع التخلف و الحرمان، و الذي يرمز له تارة بالجمود ( التجمد في الزمهرير)، و تارة بالعذاب حتى الموت ( الاحتراق بدرجة الغليان الحمراء كما يقول حرفيا)، و أحيانا بالسقوط من الجنة ( الحفرة الوجودية لحضارة جريحة).
و هكذا يترجم عبد الحليم المدني الواقع المنظور الذي نعيشه لواقع نفسي، يشبه في معاناته أحلام الهيلة ( أو الكوابيس).
* صدرت القصص عام 2013 عن مكتبة الوطن العربي، في ديالى، العراق؟ في 111 ص .
تشرين الثاني 2014
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |