لا أستطيع أن أجد مدخلا مناسبا لشخصية إشكالية مثل سعيد عقل، فالضوضاء التي كانت حوله جعلت منه رمزا معبودا للبنانيين و لا سيما في فترتين من تاريخهم الحديث.
في حقبة النأي بالنفس حين كانت المارونية هي الفلسفة الأقوى و الاتجاه الشعبوي الذي له رصيد حضارة تبحث عن طريقة للصعود و الاتصال.
و أقصد بذلك قبل الحرب الأهلية ، في الفترة الذهبية للسياحة و نشر المعارف بأقل قدر ممكن من الرقابة. أضف لها صناعة المصارف و إيداع الأموال.
كانت الشخصية اللبنانية في تلك الايام كوزموبوليتناتية ذات هوية مركبة. قابلة و مانحة. بمعنى أنها مكان حاضن لشتى الاتجاهات. و قد شجع ذلك الشعر على وجه الخصوص للاحتفال بعناصر مشتركة من النفس كالإحساس بالجمال و كل ما من شأنه إذكاء الرغبات و ليس العواطف.
و في هذا الجو احتفل سعيد عقل بينابيع السحر الأخاذ للطبيعة و لا سيما عناصر في شخصية لبنان و في المقدمة رمز الجبل و البحر.
و استفاد من هذه الخواص و استطاع أن يعمم و أن يسقط، و أن ينقل المشاهد و المناظر بواسطة الخيال و التراكيب إلى الذاكرة.
ليس من السهل أن تتذكر شعريا. و لا سيما بمنظور الذات. و لو استعدنا تاريخ الشعر العربي نجد أن الذكرى هي للتمهيد فقط. و لا سيما في الوقوف على الأطلال للتهيئة و التمكين. لخلق فاصل غنائي في النفس.
أما عند سعيد عقل فالقصيدة كلها برهة للوقوف على الأطلال. إنه حين ينظر بعين قلبه و خياله للطبيعة الفاتنة التي يعشقها و تذوب فيها كل جوارحه تنشأ أمامه ذكرى حجاب مقلوب.
فينسى الحاضر و يتصل بالماضي.
ينسى الواقع السياسي بكل منغصاته و مخالفاته و يقف أمام معارف و حضارة الماضي.
و لذلك كان في معظم الحالات يلجأ لتخصيب الأفكار و الصور بالرموز و الأساطير. فالجبل استعارة تدل على المقاومة و الثبات. و الوادي مجازيا هو الحفرة الوجودية التي يسقط فيها أبناء هذا الجيل.
و كما يبدو لي كانت رموزه مادية بمستوى رموز الشعر الجاهلي الكلاسيكي. و تقرأ المحسوس بالملموس. كما في تشبيه امرئ القيس لليل بموج البحر.
و لذلك كان الغرام في قصائده حسيا. بحرضه الليبيدو و تعبر عنه الجوارح.
بعبارة أخرى إنه حب غير رومنسي. و ضبابي. الذات فيه هي مضمون و موضوع القصيدة.
و كل من يقرأ أشعاره ينتبه أن قلبه لا يدق. و لكن أحاسيسه تستيقظ و ذهنه يعمل. و هذه الحالة الشديدة الالتزام بقانون و أخلاق العقل تعيد تركيب شخصية الطبيعة بمدلولاتها الاستراتيحية.
فالذات تنتقل من مستوى السلوك الشخصي و تجربة الأفراد إلى مجال و فضاء الجماعة و الذهن المنتج.
***
أما الحقبة الثانية ، بعد حرب 1975 و انتشار الميليشيات في عموم أرجاء لبنان فقد ساهمت بتوطين فكرة سعيد عقل. و توطينه هنا بمعنى استضافته.
لقد أصبحت قصائده و مثلها قصصه و مسرحياته الشعرية نوعا من الدعاية لاعادة الاعتبار لما هو ضائع. للجسم المفقود. لأجزاء من الواقع فقدنا الاتصال أو الارتباط بها.
و هكذا خرج الشاعر من مضمار التروبج للاستجمام و الصور التي تماهي ما بين المرأة و الطبيعة و ما بين لبنان و الخصوبة إلى مضمار الوطن المغدور به.
و إذا كان في بداياته يعتقد أن ( الدنيا امرأة - و المرأة العظيمة هي الطبيعة ) كما ورد في كتابه المبكر لبنان إن حكى( المجلد 3 من الأعمال الكاملة ص 22 ) يرى و هو في شيخوخته أن ( الأباة يغويهم السيف ، فيستقبلونه بالصدور ) كما ذكر في قصيدته فخر الدين الثاني( ص 21 من مجموعة كما الأعمدة ، المجلد 6). و في هذا الجو تجد وفرة من صور الحروب المستعرة كقوله في نفس القصيدة: سالت الأرض بالخيول ( ص 29) أو قول: تزرع الراي خافقات (ص 29).
إلى أن بقول في قصيدته المشهورة( سائليني):
خطها صيد أباة غصبوا
حقهم، و الحق غصب أو حمام (ص 75 من كما الأعمدة المجلد 6).
و بكل تأكيد إن الفرق واضح بين الكمون و الليبيدو، و بين النرجسية و التهور. ففي الحالة الأولى تأخذ الرجولة معنى مانحا بينما في الثانية تأخذ أبعاد شخصية انتحارية و مغتصبة.
و لا شك أن الإسقاطات فوق شخصية سعيد عقل هي أوسع من معانيه.
لقد تحولت شخصيته لاستعارة أو مجاز سياسي مثلما تحولت أجزاء من لبنان في قصائده لاستعارات حضارية.
و إذا كان لا بد من أمثلة أصبحت قصائد الشاعر دعوة إلى لببنة البلاد. و هذا بحد ذاته إقرار بالتحسس و انتباهة اللاوعي أن شيئا من الأنا الأعلى يتعرض للخطر و الانقراض.
و هكذا بدأت رموز تحمل معنى التحدي و المواجهة تبرز على السطح مثل الصخرة، الحجر، نجوم معلقة في السماء.
و في هذا المنعطف السياسي المهم أيضا دخلت لشعره صور قيامية مع صوت عنفي و تدميري. يتكلم علنا عن فلسفة المربعات و الدوائر المغلقة. و من ذلك قوله في قصيدته المعروفةالتي تنشدها فيروز (لي صخرة):
إن كنت من غير أهلي لا تمر بنا (ص 7 من كما الأعمدة، المجلد السادس).
و قوله:
غني أحس الوجود
غبارا على ملعبي ( ص 12 من قصيدة على شاطئ الذات، المجلد السادس).
و كأنه يعيد للأذهان عنتريات الشاعر الجاهلي الذي قال:
إذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
و أرى أن نرجسية سعيد عقل عمياء و ذهانية. و لا يدانيها شيء غير نازية هتلر. مع الاحتفاظ بالفرق بين مبالغات الشاعر و منطق السياسة.
و لا يفوتني هنا التأكيد على طبيعتها الفيتيشية. فقد تعلقت قصائد الشاعر بجزئيات هي كناية عن شموليتها دلاليا.
و رافق ذلك هجرة بالأفكار من المدينة كمركز للانتاج المعرفي إلى القرية و كأنها عاصمة لذات تتعرض للذوبان.
إن استبدال المركز بالأطراف لا شك هو نوع من إنكار الصورة الراهنة للواقع و محاولة للبحث عن البدائل.
و لذلك انتشرت في أشعار سعيد عقل صور و ألوان الطبيعة الحية و لكن غير العاقلة. الصور الجامدة لأيقونات رمادية كئيبة أضفى عليها مخاوفه.
لقد كانت الأيقونات و لا تزال من لوازم العبادة و للتوسل أو التوسط بين المتناهي و اللامتناهي. و عودتها بهذا القدر للقصائد المعاصرة و التي اختتم بها حياته ليست دليلا دامغا على رومنسيته و لكنها قرينة على تأصيل حاسة الخوف و الرعب مما يحصل. و لتحصين الذات مما يضمره لها الواقع من شرور و خطط مبيتة.
إنها طريقة ميتافيزيقية للاحتماء و لبناء شخصية من فوق الواقع للبنان كما يرغب به الشاعر. لبنان الرموز.
حلب / تشرين الثاني 2014