الديارات المؤلف : أبو الفرج الأصبهاني
خاص ألف
2015-01-08
الباب الأول أخبار الديارات
دير أبلق
دير الأبلق: دير بالأهواز، ثم بكوارا من ناحية أردشير خُرَّة. أخبرني أحمد بن محمد بن الحسن الأسدي وعمرو بن عبد الله العتكي قالا: حدّثنا الرياشي: أنَّ حارثة بن بدر كان بكوارا يتنزه.
وقال العتكي في خبره عن أبي عبيدة ولم يقله الأسدي ولا تجاوز الرياشي به. فقال: كان حارثة بكوارا من أردشير خُرّة فقال:
ألم ترَ أن حارثة بن بدرٍ ... أقام بدير أبلقَ من كُوارا
ثم قال لجندٍ كانوا معه: من أجاز هذا البيت فله حكمة، فقال له رجل منهم: أنا أجيزه على أن تجعل لي الأمان من غضبك، وتجعلني رسولك إلى البصرة، وتطلب لي القَفَل من الأمير.
قال: ذلك لك، ثمَّ ردَّ عليه نشيد البيت، فقال الرجل:
مُقيماً يشربُ الصّهباء صِرْفاً ... إذا ما قلتُ تصرعُهُ استدارا
فقال له حارثة: لك شرطك، ولو كنتَ قلت لنا شيئاً يسرّنا لسررناك.
وحكى المدائني، فقال: إنه اصطبح في دير الأبلق في جماعة من أصحابه، فلما سكر قال:
يومي بدير الأبلقق الفردِ ... ما أنتَ إلّا جنة الخُلدِ!
به وأمثالٍ له لم يزلْ ... يجوّز العِيس " أبو الهندي "
دير الأعلى
دير الأعلى بالموصل كان تحت الدير عين كبيرة، تعرف اليوم بعين الكبريت، قال عنها ياقوت إنها ظهرت تحت الدير الأعلى في سنة 301ه )913م(، وإن فيها عدة معادن كبريتية ومرقشيثا وقلفطار. قال الأستاذ كوركيس عواد: ماء هذه العين بارد في جميع فصول السنة، ويقصدها الناس صيفاً ليستحموا بمائها الذي ينفع المصابين منهم ببعض أمراض الجلد. ومنهم من يشرب شيئاً من مائها تخفيفاً من حرارة معدهم.
- والشعانين في هذا الدير حسن، يخرج إليه الناس فيقيمون فيه الأيام يشربون. ومن اجتاز بالموصل من الولاة نزله.
- إلى جانب الدير، مشهد عمرو بن الحمق الخزاعي، وهو صحابي كان من أصحاب علي بن أبي طالب.
- قال فيه سعيد الخالدي:
قمرٌ بدير الموصل الأعلى ... أنا عبده وهواه لي مولى
لثم الصليب فقلتُ من حسدٍ ... قُبل الحبيب فمي بها أولى
دير الأعلى هذا الدير بالموصل في أعلاها، يطل على دجلة والعُروُب. وهو دير كبير عامر، يضرب به المثل في رقة الهواء، وحسن المستشرف. ويقال إنه ليس للنصارى دير مثله، لما فيه من أناجيلهم ومتعبداتهم.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أحمد بن صدقة، قال: خرجنا مع المأمون، فنزلنا الدير الأعلى بالموصل لطيبه ونزاهته، وجاء عيد الشعانين، فجلس المأمون في موضع منه حسن مشرف على دجلة والصحراء والبساتين، ويشاهد منه من يدخل الدير. وزُيّن الدير في ذلك اليوم بأحسن زي. وخرج رهبانه وقسانه إلى المذبح، وحولهم فتيانهم بأيديهم المجامر قد تقلدوا الصلبان وتوشحوا بالمناديل المنقوشة. فرأى المأمون ذلك، فاستحسنه. ثم انصرف القوم إلى قلاليهم وقربانهم، وعطف إلى المأمون من كان معهم من الجواري والغلمان، بيد كل واحد منهم تحفة من رياحين وقتهم، وبأيدي جماعة منهم كؤوس فيها أنواع الشراب. فأدناهم، وجعل يأخذ من هذا ومن هذه تحية، وقد شغف بما رآه منهم، وما فينا إلا من هذه حاله. وهو في خلال ذلك يشرب والغناء يعمل. ثم أمر بإخراج من معه من وصائفه المزنّرات، فأخرج إليه عشرون وصيفة كأنّهنَّ البدور، عليهن الديباج، وفي أعناقهن صلبان الذهب، بأيديهن الخوص والزيتون. فقال: يا أحمد، قد قلت في هؤلاء أبياتاً، فغنني بها، وهي:
ظباء كالدنانير ... ملاح في المقاصير
جلاهن الشعانين ... علينا في الزنانير
وقد زرفنّ أصداغاً ... كأذنابِ الزرازير
وأقبلن بأوساطٍ ... كأوساط الزنابير
ثم أخرج نعم جاريته، وكانت وصيفة، فغنّت:
وزعمتِ أني ظالم فهجرتني ... ورميتِ في كبدي بسهمٍ نافذِ
نعم ظلمتك فاصفحي وتجاوزي ... هذا مقام المستجيرِ العائذِ
هذا مقام فتى أضرّ به الهوى ... قرح الجفون بحسن وجهك لائذِ
ولقد أخذتم من فؤادي أنسه ... لا شل ربي كفّ ذاك الآخذ
وطرب وشرب، واستعاد الصوت دفعات، ثم قال لليزيدي: أرأيت أحسن مما نحن فيه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أن تشكر من خوّلك فيزيدك منه، ويحفظه عليك. قال: بارك الله عليك، فلقد ذكّرت في موضع الذكرى. ثم أمر بثلاثين ألف درهم، فتصدق بها للوقت.
دير الأنوار
دير الأنوار: قرب عمورية، بالروم.
حدث أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: خرجت من الأنبار في بعض أسفاري إلى عمّورية من بلاد الروم، فنزلت في بعض الطريق بدير يقال له دير الأنوار بقرية قريبة من عمورية فخرج إليَّ صاحب الدير المقدم على الرهبان به، وكان اسمه عبد المسيح فأدخلني الدير فوجدت فيه أربعين راهباً فأكرموني تلك الليلة بضيافة حسنة، ثم رحلت عنهم من الغدّ، وقد رأيت من كثرة اجتهادهم وعبادتهم ما لم أره قط من غيرهم، فقضيت غرضي من عمّورية ثم رجعت إلى الأنبار. فلما كان العام المقبل حججت، فبينما أنا أطوف حول البيت الشريف إذ رأيت عبد المسيح الراهب يطوف أيضاً ومعه خمسة نفر من أصحابه الرهبان، فلما أثبت معرفته تقدمت إليه، وقلت له: - أنت عبد المسيح الراهب؟ - قال: بل أنا عبد الله، الراغب في عفو الله.
فجعلت أقبل شيبته وأبكي، ثم أخذت بيده، وملت إلى جانب الحرم. وقلت له: بحق من هداك، ألا أخبرتني عن سبب إسلامك؟ فقال: لقد كان عجباً! وذلك أن جماعة من زهاد المسلمين وعبادهم مروا بالقرية التي فيها فأرسلوا شاباً منهم يشتري لهم طعاماً فرأى في السوق جارية نصرانية تبيع الخبز وهي من أحسن النساء، وأجملهن صورة، فلما نظر إليها افتتن بها وسقط لوجهه، مغشياً عليه، فلما أفاق رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما أصابه وقال لهم: - أمضوا لشأنكم، فلست بذاهب معكم فعذلوه ووعظوه، فلم يلتفت إليهم، فانصرفوا وتركوه، فدخل القرية، وجلس على باب حانوت تلك المرأة، فسألته عن حاجته فأخبرها أنه عاشق لها، فأعرضت عنه، فمكث في موضعه ثلاثة أيام لم يطعم طعاماً، وهو شاخص إلى وجهها، فلما رأته لا ينصرف عنها، ذهبت إلى أهلها وجيرانها فأخبرتهم، فأطلقوا عليه الصبيان يرجمونه بالحجارة، فرجموه حتى رضخوا رأسه، وهشموا وجهه، وأدموا أضلاعه، وهو مع ذلك لا ينصرف. فعزم أهل القرية على قتله فجاءني رجل منهم، وأخبرني بحاله، فخرجت إليه، فرأيته طريحاً، فمسحت الدم عن وجهه، وحملته إلى الدير، وداويت جراحه، فأقام عندي أربعة عشر يوماً، فلما قدر على المشي خرج من الدير، وأتى باب حانوت المرأة، وجلس ينظر إليها، فلما أبصرته، قامت إليه وقالت له: - والله قد رحمتك فهل لك أن تدخل في ديني حتى أتزوجك؟ فقال: معاذ الله أن أنسلخ من دين التوحيد، وأدخل في دين الشرك، فقالت: - قم وادخل معي داري، واقض مني أربك، وانصرف راشداً. فقال: ما كنت بالذي أُذهب عبادة اثنتي عشرة سنة بشهوة لحظة واحدة! فقالت: - انصرف عني حينئذ. قال: لا يطاوعني قلبي. فأعرضت عنه بوجهها، ففطن له الصبيان، فأقبلوا عليه يرجمونه بالحجارة، فسقط على وجهه وهو يقول: - إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، فخرجتُ من الدير وأتيته فطردت عنه الصبيان، ورفعت رأسه من الأرض فسمعته يقول: - اللهم اجمع بيني وبينها في الجنة، فحملته إلى الدير فمات قبل أن أصل به إليه، فخرجت به عن القرية، وحفرت له قبراً، ودفنته، فلما دخل الليل، وذهب نصفه صرخت تلك المرأة في فراشها صرخة عظيمة، فاجتمع إليها أهل القرية، وسألوها عن قصتها فقالت:
- بينما أنا نائمة إذ دخل علي ذلك الرجل المسلم فأخذ بيدي، وانطلق بي إلى الجنة، فلما صار بي إلى بابها منعني خازنها من الدخول إليها، وقال إنها محرمة على الكافرين فأسلمت على يده، ودخلت معه الجنة، فرأيت فيها من القصور والأشجار ما لا أُحسن وصفه لكم، ثم إنه أخذني إلى قصر من الجوهر وقال: هذا القصر لي ولك، وأنا لا أدخله إلا بك، وإلى خمس ليال تكونين عندي فيه، إن شاء الله تعالى، ثم مد يده إلى شجرة على باب القصر فقطف منها تفاحتين وقال: كلي هذه الواحدة، وأخبي الأخرى حتى يراها الرهبان، فأكلت التفاحة، فلم أر أطيب منها، ثم إنه أخذ بيدي وأخرجني حتى وصلت إلى داري، ثم إنها أخرجت التفاحة من جيبها، فأشرقت في ظلمة الليل، كأنها كوكب دري، فجاءوا بالمرأة إلينا إلى الدير ومعها التفاحة فلم نر شيئاً مثلها من فواكه الجنة، فأخذت السكين وشققتها على عدد أصحابي، فما رأينا ألذ من طعمها، ولا أطيب من ريحها، فقلنا: لعل شيطاناً تمثل لها ليغويها عن دينها، فأخذها أهلها وانصرفوا. ثم إنها امتنعت من الأكل والشرب، فلما كانت الليلة الخامسة قامت من فراشها وخرجت من بيتها حتى أتت قبره، فألقت نفسها عليه وماتت، ولم يعلم بها أحد من أهلها، فلما كان وقت الصباح أقبل على القرية شيخان مسلمان، عليهما ثياب من الشعر، ومعهما امرأتان كذلك، فقالا: إن لله عندكم ولية من أوليائه قد ماتت مسلمة، ونحن نتولاها دونكم. فطلب أهل القرية تلك المرأة فوجدوها على القبر ميتة، فقالوا: - هذه صاحبتنا ماتت على ديننا ونحن نتولاها، واشتد الخصام والتنازع بينهم، فقال أحد الشيخين: إن علامة إسلامها أن يجمع رهبان الدير " الأربعون " ويجذبونها عن القبر، فإن جاءت معهم فهي نصرانية، ويتقدم منا واحد وجذبها، فإن انجذبت معه فهي مسلمة، فرضي أهل القرية بذلك، فجمعت رهبان الدير الأربعون وأتيناها لنحملها فلم نقدر على حملها، فربطنا في وسطها حبلاً غليظاً، وجذبها " الرهبان الأربعون " أجمعون، فانقطع الحبل، ولم تتحرك، فتقدم أهل القرية، وفعلوا كذلك، فلم تتحرك من موضعها، فلما عجزنا عن حملها بكل الحيل، قلنا لأحد الشيخين تقدم أنت واحملها، فتقدم إليها وجذبها بردائه وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حملها في حضنه، وانصرف فيها إلى غار هناك، فوضعها فيه، وجاءت المرأتان فغسلتاها وكفنتاها، ثم حملها الشيخان وصليا عليها، ودفناها إلى قبر ذلك الزاهد، وانصرفنا ونحن نشاهد هذا كله، فلما خلا بعضنا إلى بعض قلنا: إن الحق أحق أن يتبع، وقد وضح لنا الحق بالمشاهدة والعيان، ولا برهان على صحة دين الإسلام أوضح لنا مما رأيناه، ثم أسلمت أنا وأسلم رهبان الدير " الأربعون " وجميع أهل القرية، ثم إنّا بعثنا إلى بلد " الجزيرة " نستدعي فقيهاً عالماً يعلمنا شرائع الإسلام وأحكام الدين، فجاءنا رجل فقيه صالح فعلمنا وجه العبادة وأحكام الإسلام، ونحن اليوم على خير كثير، فلله الحمد والمنة على ذلك.
دير بولس
دير بولس بالرملة قال أبو الفرج: هو بناحية الرّملة.
أخبرني الحلبي قال: حدثني أبي قال: نزلت مع الفضل بن إسماعيل بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، دير بولس، ونحن خارجان إلى جهة الرّملة، فرأى فيه جارية حسنة، بنتاً لقسٍّ هناك، فخدمته ثلاثة أيام، وسقته شراباً عتيقاً، فلما أراد الإنصراف أعطاها عشرة دنانير، وقال في طريقه:
عليك سلام الله يا دير من فتى ... بمهجته شوقٌ إليكَ طويلُ
ولا زال من تَوءِ السِّماكين وابلٌ ... عليك يُروَّى من ثَراكَ هطولُ
يَعلُّك منها بُرهةً بعد بُرهةٍ ... سَحابٌ بإحياء الرياض كفيلُ
إذا جاد أرضاً دَمعُه بانَ مَنظرٌ ... به لعيونن الناظرينن جميلُ
ألا ربَّ ليلٍ حالكٍ قد صَدَعتُه ... وليس معي غيرَ الحُسام خليلُ
ومشمولةٍ أوقدتُ فيها لصُحبتي ... مصابيحَ ما يخبو لهنّ فتيلُ
تُعللِّني بالراح هيفاءُ غادةٌ ... يخال عليها للقلوب وَكيلُ
تجول المنايا بينهنّ إذا غَدَتْ ... لواحظها بين القلوب تجولُ
أيا بنتَ قَسِّ الديرِ قلبي مُولّةٌ ... عليك وجسمي مذ بَعُدتِ عليلُ
وفيه يقول أبو شأس:
يا دير يونس جادتْ سرحَك الدِّيمُ ... حتى تُرى ناظراً بالنور يبتسمُ
لم يشف في ناجر ماءٌ على ظمأٍ ... كما شفى حرّ قلبي ماؤك الشَّبمُ
ولم يحلّك محزونٌ به سقمٌ ... إلا تحلّل عنه ذلك السُقمُ
أستغفر الله كم لي فيك ذو غَنَجٍ ... جرى عليّ به في رِبعك القَلَمُ
ويقول أيضاً:
لا تعدلنَّ عن ابنة الكرم ... بأبي، ففيها صحة الحِسْمِ!
لو لم يكن في شُربها فرجٌ ... إلا التخلص من يد الهّمِ!
ويقول أيضاً أبو شأس:
أعاذل ما على مثلي سبيلُ ... وعذلُك في المُدامة مُستحيلُ
أليس مطيتي حَقْوي غلامٍ ... ورحلُ أناملي كأسٌ شمولُ؟
إذا كانت بنات الكرم شِربي ... وقبلةُ وجهي الوجهُ الجميلُ
أمنت بذينِ عاقبةَ الليالي ... وهان عليّ ما نقل العَذُولُ!
دير الثعالب
- قال الشابشتي: هذا الدير ببغداد، بالجانب الغربي منها، بالموضع المعروف بباب الحديد وأهل بغداد يقصدونه ويتنزهون فيه، ولا يكاد يخلو من قاصد وطارق. وله عيد لا يتخلف فيه أحد من النصارى والمسلمين، وباب الحديد أعمر موضع ببغداد وأنزهه: لما فيه من البساتين والشجر والنخل والرياحين، ولتوسطه البلد وقربه من كل أحد. فليس يخلو من أهل البطالات، ولا يخلّ به أهل المتطرب واللذاذات. فمواطنه أبداً معمورة، وبقاعه بالمتنزهين مشحونة.
- وذكر البيروني أن عيد دير الثعالب، هو آخر سبت من أيلول، إلا أن يكون أول تشرين الأول من السنة الآتية يوم الأحد، فيتأخر العيد إليه ويخرج من أيلول، فتتعرى تلك السنة، ويتكرر في الآتية مرتين: في أولها وأخرها.
- وقال ياقوت إنه: دير مشهور، بينه وبين بغداد ميلان أو أقل، في كورة نهر عيسى، على طريق صرصر، رأيته أنا، وبالقرب منه قرية تسمى الحارثية.
- ولمحمد بن عمر ابن دهقانة الهاشمي، أبيات من الشعر ورد فيها اسم الدير منها:
دير الثعالب مألف الضلال ... ومحل كل غزالةٍ وغزالِ
- ومن أقدم من ذكر هذا الدير خليفة بن خياط، فلقد ذكره في حوادث سنة 127ه، قبل إنشاء مدينة بغداد، قال في خبر طويل: وأقبل الضحاك بن قيس من المدائن يريد الكوفة، فنزل دير الثعالب في ثلاثة آلاف، والمكثر يقول: في آربعة آلاف.
- وفي كتاب " الحوادث الجامعة " ذكر لهذا الدير، قال في حوادث سنة 683ه: - في هذه السنة زادت دجلة زيادة عظيمة، وغرقت في الجانب الغربي من بغداد عدة نواح، ووصل إلى قباب دير الثعالب.
- وزار سبط ابن التعاويذي، الشاعر المعروف )583ه( هذا الدير يوم عيده، فرأى شماساً فيه صبيح الوجه، فقال فيه ارتجالاً:
وغزال علقته ... يوم دير الثعالبِ
من ظباء الصريم ... يخطرُ في زيّ راهبِ
شد زناره فحل ... عقود المذاهب
- وذكر الأب أنستاس ماري الكرملي أن بقايا دير الثعالب، تعرف اليوم باسم عين الصنم.
- ورجح الأب لويس شيخو، أن " دير الثعالب منسوب، على ما نظن، إلى بني ثعلبة المتنصرين، قريب من بغداد عند الحارثية " .
- وأيده في هذا الترجيح د. عبد اللطيف الراوي. انظر: المجتمع العراقي في شعر القرن الرابع للهجرة282، وانظر: مسالك الأبصار 1 - 277،571.
- بغداد في عهد الخلافة العباسية 92، 108، 182.
- دليل خارطة بغداد 43، 65، 102، 104.
- أحوال نصارى بغداد 120 - 121، 123 - 125.
- ديارات بغداد القديمة 29 - 15.
دير الثعالب
قرب بغداد، في كورة نهر عيسى، بالموضع المعروف بباب الحديد.
- خرجت أنا وأبو الفتح أحمد بن إبراهيم بن علي بن عيسى رحمه الله، ماضيين إلى دير الثعالب، في يوم من سنة خمس وخمسين وثلاث مئة للنزهة ومشاهدة اجتماع النصارى هناك، والشرب على نهر يزدجرد الذي يجري على باب هذا الدير فبينا نحن نطوف الدير، ومعنا جماعة من أولاد الكتّاب النصارى وأحداثهم، وإذا بفتاة كأنها الدينار المنقوش كما يقال، تتمايل وتتثنّى كغصن ريحان في نسيم شمال. فضربت بيدها إلى يد أبي الفتح وقالت: يا سيّدي، تعال اقرأ هذا الشعر المكتوب على حائط بيت الشاهد. فمضينا معها، وبنا من السرور بها وبظرفها وملاحة منطقها ما الله به عالم. فلما دخلنا البيت كشفت عن ذراع كالفضة، وأومأت إلى الموضع، وإذا فيه مكتوب:
خرجتْ يوم عِيدها ... في ثياب الرواهب
فسبت باختيالها ... كلّ جاءٍ وذاهب
لشقائي رأيتها ... يوم دير الثعالبِ
تتهادى بنسوةٍ ... كاعبٍ في كواعبِ
هي فيهم كأنها ال ... بدرُ بين الكواكبِ
فقلنا لها: أنتِ والله المقصودة بمعنى هذه الأبيات، ولم نشك أنها كتبت الأبيات، ولم تفارقنا بقية يومنا.
وقلت فيها هذه الأبيات، وأنشدتها إياها ففرحت:
مرّت بنا في الدير خَمصَانهْ ... ساحرةُ الناظر فتّانهْ
أبرزها الرهبان من خِدرها ... تعظّم الدير ورهبانهْ
مرّتْ بنا تخطرُ في مَشيها ... كأنّما قامتها بانهْ
هبت لها ريحٌ فمالتْ بها ... كما تثنّى غصنُ ريحانهْ
فتيَّمت قلبي وهاجتْ له ... أحزانَه قُدماً وأشجانه
وحصل بينها وبين أبي الفتح عشرة بعد ذلك. ثم خرج إلى الشام وتوفي بها، ولا أعرف لها خبراً بعد ذلك.
دير الجاثليق
دير الجاثليق - هما ديران يحملان نفس الاسم: - الأول: دير قديم في رأس الحدّ بين السواد وأرض تكريت.
- الثاني: كان في غربي مدينة بغداد، وصفه الشابشتي قائلاً: هذا الدير، يقرب من باب الحديد، وهو دير كبير، حسن، نَزِه، تحدق به البساتين والأشجار والرياحين. وهو يوازي دير الثعالب في النزهة والطّيب وعمارة الموضع، لأنهما في بقعة واحدة.
- وفي بعض المصادر، أن دير الجاثليق هذا، كان يقع على نهر الرفيل، من أنهار بغداد القديمة في أيام العباسيين، وكان مأخذه من نهر عيسى، ومصبّه في دجلة عند الجسر.
- إن دير الجاثليق البغدادي، كان يسمّى أيضاً " دير كليليشوع " وهي لفظة سريانية بمعنى " إكليل يسوع " .
- ويؤخذ من النصوص التاريخية، أن دير الجاثليق دير قديم يرقى زمن إنشائه إلى ما قبل تأسيس بغداد، بل إلى ما قبل ظهور الإسلام.
- أنظر أيضاً: - أخبار فطاركة كرسي المشرق من كتاب المجدل: لماري بن سليمان )74، 75، 77، 83، 110(.
- ابن الأثير 4 - 328.
- البدور المسفرة 21.
- بغداد في عهد الخلافة العباسية 182.
- ري سامراء في عهد الخلافة العباسية 1 - 196 - 197، 198، 199.
- دليل خارطة بغداد 104 - 108.
دير الجاثليق قرب بغداد دير قديم البناء، رحب الفناء من طسوج مسكن، قرب بغداد في غرب دجلة في عرض حربي، وهو في رأس الحد بين السواد وأرض تكريت، وعنده كانت الحرب بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير، وعنده قُتل مصعب بن الزبير، فقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثيه:
لقد أورثَ المِصرين حزناً وذِلةً ... قتيلٌ بدير الجاثليق مُقيم
فما قاتلتْ في الله بكر بن وائلٍ ... ولا صدقت عند اللقاء تميمُ
فلو كان في قيسٍ تعطّفَ حولَه ... كتائب يغلي حميُها ويدومُ
ولكنه ضاع الزمانَ ولم يكن ... بها مضريّ يوم ذاك كريمُ
جزى الله كوفياً بذاك ملامةً ... وبصريّهم إن الكريم كريمُ
- حدثني عمي عن محمد بن القاسم بن مهرويه، عن علي بن عبد الله بن سعد قال: كان بكر بن خارجة يتعشق غلاماً نصرانياً يقال له:عيسى بن البراء العبادي الصيرفي، وله فيه قصيدة مزدوجة يذكر فيها النصارى وشرائعهم وأعيادهم، ويسمي دياراتهم، ويفضلهم.
قال: وحدثني من شهد دعبلاً وقد أنشد قوله في عيسى بن البراء العبادي:
زُنّارهُ في خصره معقودُ ... كأنه من كبدي مقدودُ
فقال دِعبل: ما يعلم الله أني حسدت أحداً قط كما حسدت بكراً على هذين البيتين! وقال بكر بن خارجة في عيسى بن البراء العبادي:
فبالأنجيل تتلوه شيوخٌ ... رهابنةٌ بدير " الجاثليقِ "
وبالقربان والصلبان إلّا ... رثيت لقلبيَ الدَنفِ المشُوقِ
أجرني، متُّ قبلك من همومي ... وأرشدني إلى نهج الطريق
فقد ضاقت عليّ وجوه أمري ... وأنت المستجارُ من المضيقِ
وكان بكر بن خارجة كثير المقام بهذا الدير مشتهراً بالشراب فيه، افتتاناً بهذا الغلام النصراني، وفيه يقول أرجوزة مليحة منها قوله:
من عاشقٍ ناءٍ هواه دانِ ... ناطق دمعٍ صامتِ اللسانِ
موثقِ قلبٍ مطلقِ الجثمان ... معذب بالصدِّ والهجران
من غير ذنب كسبت يداهُ ... إلا هوى نمّت به عيناه
شوقاً إلى رؤية من أشقاه ... كأنما عافاه من أبلاه
يا ويحه من عاشق ما يلقى ... بأدمع منهلّة ما ترقى
ذاب إلى أن كاد يخفي عشقاً ... وعن دقيق الفكر فيه دقّا
لم يبق فيه غير طرفٍ يبكي ... بأدمع مثل نظام السلكِ
كأنه قطر السماء يحكي ... يخمد نيران الهوى ويذكي
إلى غزالٍ من بني النصارى ... عِذارُ خدّيه سبى العذارى
يترك ألباب الورى حيارى ... في ربقة الحبّ له أسارى
ريم بدير الروم رام قتلي ... بمقلةٍ كحلاء لا من كُحلِ
وطُرةٍ بها استطار عقلي ... وحسن دلّ وقبيح فعل
ها أنا ذا من قده مقدودُ ... والدمع من خدّي له أُخدود
ما ضرَّ من قلبي به معمودُ ... لو لم يكدِّر صفوه الصدودُ
يا ليتني كنت له صليبا ... فكنت منه أبداً قريباً
أبصر حسناً وأشمُّ طيبا ... لا واشياً أخشى ولا رقيبا
أو ليتني كنتُ له قُربانا ... ألثم منه الفمَ والبنانا
أو جاثليقاً كنت أو مطرانا ... كيما يرى الطاعة لي إيمانا
أو ليتني كنتُ له زنّارا ... يدور بي خصراه حيث دارا
حتى إذا الليل طوى النهارا ... صرت له تحت الدجى إزارا
يا ليتني في النحر منه عوذة ... أو خمرة يشربني ملذوذة
أو حلة يلبسني مقدودة ... ليست إذا ما أخلقت مقدودة
يا ليتني كنت لعمروٍ مصحفا ... أو قَلَماً يكتب بي ما ألّفا
من حسن أشعارٍ له قد صنّفا ... فإن لي من بعض هذا ما كفى
يا للذي بحسنه أضناني ... وابتزَّ صبري والضنى كساني
ظبيّ على البعاد والتداني ... حلَّ محلَّ الروح من جثماني
واكبدي من خده المضرج ... واحزني من ثغره المفلّج
لا شيء مثل الطرف منه الأدعج ... أذهب للنسك وللتحرجِ
إليك أشكو يا غزال الأنسِ ... يا من هلالي وجهُه وشمسي
ما بي من الوحشة بعد الأنسِ ... لا تُقْتل النفسُ بغير النفس
ها أنا في بحر الهوى غريقُ ... سكران من حبّك لا أفيقُ
محترقٌ ما مسَّني حريقُ ... يرحمني العدوُّ والصديقُ
ويقول فيها:
يا عمرو ناشدتك بالمسيحِ ... ألا سمعتَ القول من نصيحِ
يعرِبُ عن قلبٍ له قريحِ ... ليس من الحبِّ بمستريحِ
يا عمرو بالحق من اللاهوتِ ... والروح روح القدس والناسوتِ
ذاك الذي قد خُصَّ بالنعوتِ ... النطق في المهد وبالسكوت
بحق من في شامخ الصوامع ... من ساجدٍ لربه وراكعِ
يبكي إذا ما نام كلُّ هاجعِ ... خوفاً من الله بدمعٍ هامعِ
ثمّ يقسم عليه بكل قسم يعرفه النصارى ويقول:
ألا نظرت يا أميرَ أمري ... محتسباً فيَّ عظيم الأجر؟!
نهاية الجزء الأول
ألف / خاص ألف /
يتبع ...
08-أيار-2021
08-كانون الثاني-2015 | |
20-شباط-2008 | |
21-كانون الثاني-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |