اليوم و أنا أسير في الشارع، قابلت والدتي. كانت تتمشى بروح مرحة، و جسمها يندفع للأمام نحو شاخصة تقول: لا تقترب من هنا. و كانت التاكسيات الصفر تدور بزاوية ٤٥ درجة نحو منعطف ماديسون باتجاه الشارع السابع و الخمسين.لم ألتقي معها من قبل في هذه الحارة، وهي تتأمل القناة و مخازن تيفاني و تنظر للمجوهرات المعروضة في نوافذ بولغارب. ليس من عادة الوالدة أن تتسوق بعيدا عن بروكلين. و لم تقترب في حياتها من مكتب الإعلانات الذي كنت أعمل فيه. عدا عن أنها تخاف من ركوب قطار الأنفاق، حيث من المحتمل أن تشاهد شباب عصابات الشوارع من السود الذين يلعنون النساء السوداوات اللواتي تصففن شعورهن بطريقة عصرية.
و لكن ها هي. إنها أمي التي تركتها في البيت هذا الصباح بثوب الحمام، و بين خصلات شعرها مزق من ورق الصحف ملفوفة بشكل إسطوانات، و قد كانت تتهمني بتجاوزات عشوائية حينما أسرعت بمغادرة البيت.
هل يمكنك النهوض و تقديم كرسيك في قطار الأنفاق لامرأة عجوز مثلي؟. حين تكونين في هذه الحالة الذهنية ، أراهن أنك لن تتخلي عن مقعدك حتى لامرأة حامل.
والدتي دائما محقة بما تقول. أحيانا أنهض و أتخلى عن مقعدي. و في أوقات أخرى، لا أفعل ذلك. و هذا يعتمد على نوع المرأة الحامل و هل هي مع شريكها أو مع زوجها و هل هو يجلس أم يقف مثلها مثلما تقف والدتي الآن أمام صالة كارنيغي، كان سائق أحد التاكسيات يصيح لزميله قائلا:" ماذا تظن بهذه الصالة، هل هي مرقص".
انتظرت والدتي بصبر و تجلد حتى ينتهي النقاش قبل أن تعبر الشارع.
في هاييتي حين تضربك سيارة يتوقف السائق و يرفسك بقدمه لأنك لوثت مقدمتها بالدم.
كانت والدتي تضحك كلما روت ذلك و تكشف عن فراغ واسع في فمها لأنها فقدت ثلاثة أضراس عند طبيب الأسنان في الأسبوع الماضي. بلغت والدتي العام التاسع و الخمسين و تقول جسر الأسنان يفي بالغرض.
يمكنك التخلص منه لو أزعجك. أنا أفضله. أرتاح له تماما.
"ألا تشعرين بالخجل حين تقبلين والدي؟".
"كلا، هو لا يقبلني بقوة من فترة طويلة".
والدتي تتابع دواليب الحظ كل ليلة على القناة ١١ مع أنها لا تشتري ورقة يانصيب.
تقول:"ثلث ذلك المبلغ هو كل ما أحتاجه. به نسدد أقساط البيت، و يتمكن والدك من التقاعد ومن قيادة التاكسيات في بروكلين".
مشيت وراء والدتي مسرنمة باحتمالات رحلتها. حتى و هي بثوب منقوش بالزهور ضاعت في بحر من الأثواب ذات الشرائط الرفيعة و البذات الرمادية، و حذاء الكعب العالي و التنورات القصيرة و الأحذية الرياضية.
والدتي، لا ترافق أحدا لوجبة غداء في مطعم.
"لو أنهم يرغبون بتناول الطعام معي، فليحضروا لبيتي، حتى لو أنه لتسخين الماء و تقديمه لهم".
والدتي تتكلم مع نفسها حين تسلخ جلد الدجاج.
" دهن كما تعلمين. و كوليسترول. الدهن و الكوليسترول قتلا خالتك هيرمين".
والدتي تصنع المارمالاد من فواكه مجففة. تقشرها ثم تضيف لها أعواد القرفة و التي أعتقد دائما أنها صراصير تسبح في المارمالاد. بالعادة أحضر لوادتي دائما في يوم عيد ميلادها استمارات شراء اللوازم المنزلية. مع وعاء طهي الرز و خلاطة.
تابعت البساتين الحمر المنقوشة في ثوبها و حقيبة اليد الجلدية الثقيلة المحمولة على كتفها. كنت مدركة لهذه المتابعة السريعة. ثم وقفت أستند على جدار لألتقط أنفاسي. و لكن والدتي تابعت المشي و كأن الرصيف الذي تحت قدميها ملك خاص لها.
و حينما اقتربت من فندق بلازا ترنح مراسل يستعمل الدراجة الهوائية قربها و فكرت أن أنطلق نحوها كالسهم لأنقذها منه، و لكنها جمدت في مسارها و سمحت له بالدوران من حولها بدراجته ثم الابتعاد ما أمكن.
توقفت والدتي في زاوية من كشك يبيع النقانق و طلبت شيئا. قدم لها البائع علبة صودا فأودعتها في حقيبتها. و توقفت عند بائع آخر يبيع الثياب الصيفية لقاء سبعة دولارات لكل ثوب. وأصبح بمقدوري أن أقول إنها تفكر بثوب إفريقي عليه نقوش، و
هو بمقاسي. قلت في سري: من فضلك يا والدتي لا تشتري هذا. سيكون شيئا إضافيا أدفنه في النفايات أو أقدمه هدية لغودويل. لماذا نقدم الهدايا لغودويل بينما هناك الكثير من الناس في بلادنا بحاجة للثياب؟ كنا ندخر الثياب لأقاربنا في هاييتي.لعشرين عاما و نحن ندخر الثياب من كل الأشكال لأقاربنا في هاييتي. و كنت بحاجة لموضع في المرآب لدراجة تخفيف الوزن." أنت أذكى من أن تكوني محسنة. الكلاب فقط من يحب العظام. توقفت والدتي عند بائع نقانق آخر و اشترت شطيرة فرانكفورت و التهمتها في الشارع. لم أكن أعلم أنها تأكل شطائر فرانكفورت. بسبب ضغط دمها يجب أن لا تأكل أي شيء يحتوي على الصوديوم. و يجب عليها أن تتوخى الحذر فيما يخص القلب. هذه نصيحة لكل نساء الأيام الحالية.
لا يمكنني أن أبتلع الملح. الملح أثقل وطأة من مئات الأكياس المعبأة بالعار و النقائص.
وعندما أبطأت من سرعتها، أصبحت قريبة منها جدا. و لو استدارت ربما ستراني. سمحت لها أن تدخل للحديقة قبل أن أبدأ بمتابعتها مجددا.
اتجهت والدتي نحو ساحة الرمل في منتصف الحديقة. هناك امرأة تنتظر و معها ولد. كانت المرأة ترتدي عباءة مع سروال قصير للدراجات، و في يديها أحمال قليلة. ودعت المرأة الولد بقبلة وداع و أودعته بين يدي أمي؛ ثم ابتعدت، و هي تعدو على الممرات الإسمنتية في الحديقة.
الولد الذي استلمته أمي كان أشقر بشعر مجعد. انزلقت يداه في يديها بسهولة، كأنه يعرفها مسبقا من فترة طويلة. و حينما رفع وجهه لينظر لوالدتي، كان يبدو كما لو أنه ينظر للسماء.
قدمت والدتي لهذا الولد الصودا التي اشترتها من البائع في منعطف الشارع. فأشرق وجهه و هي تضع الشلمونة في العلبة. كان يبدو ذلك بشكل مؤامرة بينهما فقط. جلست والدتي مع الطفل و راقبت الأولاد الآخرين في منتصف الحديقة. سحب الولد كتابا مصورا من جعبة لها صورة عصفور ضخم خلفها. نظرت والدتي في الكتاب المصور. كانت والدتي قد تعلمت القليل مثل كل البنات في هاييتي و دلك بطريقة شخصية و بواسطة الكتب التي أحضرها أشقاؤها من مدارسهم. خسرت والدتي حتى الآن ستة من أخوتها و سبعة من أخواتها في فيللا روز و لم تجد القوة و لا الشجاعة للعودة و الاشتراك في تشييعهم.
هناك العديد من القبور التي يجب أن أطبع قبلة عليها بعد العودة. الكثير من الأضرحة تنتظر قبلة مني.
ألقت في النفايات علبة الصودا الفارغة حينما انتهى الطفل منها. فانتظرت في إحدى الزوايا لأراقبهما حتى عادت المرأة صاحبة العباءة و شورت الدراجة بعد ساعة، و هي تتعرق و تحبس أنفاسها اللاهثة. أعادت أمي للمرأة طفلها و ابتعدت عنهما في الحديقة. فاستدرت حول نفسي و بدأت أسير لأغادر الحديقة قبل أن تقع نظرات أمي علي. كان وقت غدائي قد انتهى.
توجب علي العودة للعمل بسرعة. مررت من خلال سرب من العدائين، ثم أسرعت نحو حافلة السياح السويديين. وقفت خلف الحافلة و نظرت لأمي وهي في الحديقة. كانت تقف وسط حلقة من الناس، و تتجاذب أطراف الحديث مع مجموعة من النساء ترافقن أولادهن في نزهة مسائية. كان لهن مظهر اجتماع رابطة المعلمات مع ذوي الطلبة في بلد من بلدان العالم الثالث.
قفزت بسرعة إلى سيارة عامة تتجه عائدة إلى المكتب. هل ستقول لي أمي مرحبا و تكون أول من يستقبلني؟.
حينما أسرعت السيارة و ابتعدت عن الحديقة، خطر لي أنه ربما ذات يوم سأطارد امرأة مسنة على طول الشارع بطريق الخطأ و تلك المرأة المسنة ستكون والدة لشخص هو ليس أنا، و سأعتقد أنها أمي.
يحل يوم عيد المرأة في الوقت غير المتوقع.
اليوم في قطار الأنفاق سأنهض و أقدم مقعدي لامرأة حامل أو سيدة بعمر والدتي.
والدتي تضع أناملها في فمها ثم تنفخ خديها مثل ديزي جيلسيبي و هي تخيط دمية راغيدي آن وتسميها سوزيتا تيمنا باسمي.
سوف أحتفظ بكل هذه النسخ من سوزيت في حال عدم إنجاب أطفال، و هو ما يبدو أنه سيحصل.
والدتي أنجبتني حينما كانت في الثالثة و الثلاثين - عمر المسيح - العمر الذي توفي فيه المسيح على الصليب.
يا له من ثواب، صدقوني، حتى لو تنبأ لي الأطباء في أمريكا بعد الفحوصات أنه بإمكاني إنجاب أطفال معوقين.
والدتي تخيط ياقات من الدانتيلا لقمصان ناعمة ورسمية بلا ياقة كلما ذهبت للمغسلة لتنظيف الثياب.
لماذا لا يمكنك أن تكوني مثل سيدة تلعب بالكرة الخفيفة..
والدتي لم تحضر أبدا اجتماعات رابطة المعلمين و ذوي الطلبة حينما كنت في المدرسة.
أنت مناسبة في كل الأحوال. ماذا سيقولون لي؟. لا أريد أن أخذلك و ألحق بك العار في يوم المرأة هذا. العار و الخجل أثقل من مائة كيس من ملح الطعام.
الترجمة من " حكايات للتسلية" ، منشورات سوهو. ٢٠٠٩.
- كاتبة من هاييتي تقيم في الولايات المتحدة