وجوه (١) / قصة إيلسا مارستون ترجمة:
صالح الرزوق
خاص ألف
2015-02-19
تململ سهيل على الكنبة المخملية و تأمل غرفة الاستقبال. كانت هذه زيارته الأولى للحمام التركي، شيء يعود لأيام والده. و لدى وصوله شعر بالحنين لهذا البناء القديم بأرضه المرصوفة بالبلاط الملون، و بالبركة الرخامية، و بالطواويس المنقوشة على الجدران. وفكر: تقريبا هذا قصر، حيث كل الأشياء العجيبة يمكن أن تحدث. في الحمام، في بعض الغرف الداخلية الغامضة حصل على دوش طيب و حار ثم ارتدى ثيابه على عجل، لقد كان والده يمر بكل هذه الخطوات: التدليك بالأصابع، التفريك المتمهل، وأخيرا عدة طاسات من الماء البارد.
و الآن حان وقت الكلام. ألقى سهيل نظرة حانقة على والده. حتى هذه اللحظة يحاول أن يتمسك ببعض الأمل. ربما... ربما سيقول بابا إنه عائد للبيت.
على الرغم من الحنق الذي يلتهب في داخله من شهور، لا يزال يحن لتلك الأيام حينما كانوا أسرة، حينما كان والده و والدته موجدين و يرعيانه.
غير أن بابا غير مستعجل للكلام، كما يبدو. ببشرة محمرة تلمع و شعر سبط من الخلف، ارتدى المئزر الأبيض و دخن النرجيلة. و في نهايات المساء، تسللت الشمس من زجاج ملون من خلال القبة الزجاجية التي تعلوه، و ألقت ظلالها على المئزر الأبيض و على وجهه، كأنها قناع. و فكر سهيل إن والده رجل وسيم، و لا يزال نحيفا و ممشوق القامة، مع أنه أب لابنين كبيرين بالإضافة لسهيل. و لكن سهيل لم يرغب بالنظر لوالده لفترة طويلة. هو لا يثق بما يوجد خلف هذا الوجه المتناسق.
"حسنا، يا بني، كيف الأحوال هناك؟".
قال سهيل بهدوء:" ممتاز، رائع، و الآن أخبرني لماذا استدعيتني؟".
"الكبير بالعمر يستطيع أن يزور الحمام في أي وقت. فهو شيء مريح. صحي. يزيل التوتر. و رخيص".
قلت له إنه يعجبني. و الآن ماذا عنك؟. هل ستعود إلينا، أم ماذا؟.
نظف بابا حنجرته مرتين و قال:" و كيف حال والدتك؟".
" حسنا، بالتأكيد، نحن على ما يرام، فقط في الحدود المقبولة. ممتاز- و لكن..".
" طيب". نفخ والد سهيل الدخان و مرت لحظات. و حاول أن يأخذ وضعية أخرى، ثم تابع:" سأتزوج أنا و هدى في الشهر المقبل. و حينما نستقر، ستأتي لتعيش معنا".
جلس سهيل بلا حراك. جامدا مثل الأقواس الصخرية التي فوق رأسه. و دماغه في حالة خدر. ثم بدأت أفكاره تتخمر. كنت أعلم هذا سيحصل، لاحقا أم عاجلا. كان يجب أن أعيش معك من شهور... بعد عيد ميلادي الثاني عشر. و طبعا، أعلم أنني مدين لوالدتي. و لكنك كنت كريما، و سمحت لها أن تحتفظ بي لفترة أطول... و لكن أنت تحب الحرية، أليس كذلك؟. و لم تستعجل لإنجاب ولد يكون بين يديك. حسنا، مليون شكرا. و مع ذلك أنا متأكد لن تحتمل وقتا أطول.
قال والد سهيل:" ستحب هدى. فهي امرأة عاطفية. جميلة. انظر، هذه صورتها". و سحب مغلفا من جيب ثوب الاستحمام و أخرج صورة. نظر سهيل إليها. ثم نقل نظراته إلى يديه المضمومتين بعصبية واضحة.
قال والده و هو يضع الصورة على الكنبة قرب سهيل:" احتفظ بها. فهي لك. ألا تعتقد أنها جميلة".
دمدم سهيل:" نعم". و بعد دقيقة، ما زالت عيناه تنظران للأسفل، قال:" أمي جميلة أيضا".
ألقى والده أمزك النرجيلة جانبا، و نهض و وضع يدا ثقيلة على كتف سهيل و قال:" نعم طبعا. لكن... حسنا، يا بني، ستفهم لاحقا. هذا أفضل بهذه الطريقة".
فرد قامته، و وقف و عاد لغرفة الثياب. و حينما غاب عن ناظريه، مزق سهيل الصورة إلى قطع صغيرة و ألقاها تحت وسائد الكنبة. و سريعا أصبحا جاهزين للانطلاق. تسلق سهيل السلالم المتعبة حتى المدخل و أصبح في الشارع، أمام برد مساء تشرين الثاني. و شعر كأنه يخرج من مكان خاص بالجمال و الراحة. و بعد لحظة انتابه الشعور أن هذا القصر ليس سحريا في خاتمة المطاف. فالأخبار الطيبة لا تنتظره هناك.
سار سهيل برفقة والده في أزقة ضيقة ترصفها أحجار غير منتظمة مهدتها الأقدام، هذه هي ممرات المدينة القديمة في دمشق القرون الوسطى. ثم وصلا لشارع حديث، و شاهدا سيارة بابا تقف بالجوار... سيارة تلمع و معتنى بها، تبادر لذهن سهيل، أنها مثل والده.
بوستر كبير غطى الجدار فوق السيارة. و نظر إليه والد سهيل و ابتعد عنه، و هو يعبس و قال:" هذا أبونا المبجل.. يراقبنا دائما".
نظر سهيل أيضا، إلى الوجه الذي يطير في الأعالي فوق كل الشوارع و في كل زاوية و على واجهة البنايات في كل أرجاء المدينة- وجه يبرز في كل مكان، حتى في الحمام التركي تراه. لقد رآه طوال عمره و لم يعد فيه ما يستلفت الانتباه. و الآن، على كل حال، عليه أن يأخذ نظرة ثانية. إنه الرئيس و اليمامات البيض تحوم حول رأسه.. وجه يبدو لطيفا و عميقا، يفكر، مع ابتسامة ودية، كما لو أنه فعلا يريد أن يعتني بكل أبناء سوريا.
قال بابا عن الرئيس:" أبونا المبجل، يراقبنا دائما". و سرق سهيل نظرة إضافية من والده. حسنا، ماذا يفترض من الأب أن يفعل. أليس من المفروض أن يعتني بعائلته - و أن يتمنى لها السعادة؟.
فتح والده باب السيارة، و ابتسم، و تمنى سهيل لو يرد بابتسامة سعادة و حبور و ثقة. و عوضا عن ذلك، بفك مطبق، دخل برأسه و انزلق سريعا فوق المقعد الأمامي.
و حينما وصل الشقة، كانت أمه قد سبقته. تجنب سهيل الكلام. ماذا بوسعه أن يقول، عن هذه الأمسية و والده؟. من حسن الحظ، لم توجه له الأسئلة. و بالكاد رمقها خلال طعام العشاء، ثم بسرعة انشغل بواجباته المنزلية.
و في وقت لاحق من تلك الأمسية، و هو في الطريق إلى الحمام، لاحظ سهيل وجود أمه في غرفتها الخاصة. كانت تجلس عند طاولة الثياب، و ظهرها نحوه، و كان خيالها في المرآة هو الذي أمسك بزمام انتباهه.
و تذكر بألم مبرح الطريقة التي تبدل بها مظهرها في الشهور الأخيرة قبل أن يغادرها والده. شاهد لعدة مرات و هي تجادل زوجها. و لكن نادرا ما ارتفعت أصواتهما، غير أن المرارة التي كانت على وجه والدته لم تغادر ذهنه و اختنق قلبه بها. و سأل نفسه، كيف يمكن أن تكون حالتها نفسها؟. الأم التي عرفها ذات العينين السوداوين اللتين تنظران إليه بحنو دافئ، كلما وقف في المطبخ و هي تعد له طعام وجبة المساء... أين ذهبت هذه النظرات؟.
راقب سهيل أمه بصمت. شعرها يبدو شبابيا- أسود فاحم تحت الضوء الخافت لغرفة النوم، و لكنه كما يعلم، قد بدأ يتخلله المشيب.
ماما تبدو مرهقة و كأنها أكبر من عمرها. رفعت عينيها و فورا تقابلتا مع عينيه. و سريعا ظهر كأن وجهها يستعيد رونقه مجددا.
" هل انتهيت من الدراسة يا سهيل؟ هل تحتاج لمساعدة؟".
" انتهيت منها. و أستعد للنوم". و اقترب بتردد من غرفة الحمام الصغيرة. و بدأ يرش الماء على وجهه، بلا تأخير، كما لو أن الماء البارد سيغسل الصور التي تلعب في رأسه. و ارتعش و هو يغادر الحمام، و ربما خطر له أول الأمر أن السبب هو البلل الذي لحق بالبيجاما من الأمام.
كلا.. لأن كل شيء حزين في هذا البيت. كل المكان يغرق بالحزن. و كره أن يفكر بالأيام و الأسابيع التي تمتد أمامه. حاولت أمه أن تشعر بالحبور و أن تدفع حياتهما نحو الأمام كما كان عهدها في السابق: يعلم أنها حاولت. و لكن هذا لا يجدي نفعا. كان تصرفا عقيما أن تستفيد من جو بواكير الربيع الذي حل وقته.
هل بمقدوره أن يصنع شيئا. و هو يستلقي في السرير، و ينظر للخطوط الباهتة في السقف التي تلقيها أنوار الشارع من النافذة، حاول سهيل أن يفكر. ليس هناك طريقة يمكنه أن يعيد بها والده، و الآن بابا سيتزوج من السيدة هدى. و بتكشيرة حانقة فكر بأجزاء الصورة التي مزقها و الموجودة تحت وسائد الكنبة في الحمام التركي.
من سوء الحظ أنني لا أعرف كلمة سحرية لأطارد بها تلك الصورة، و لذلك يجب أن تختفي فحسب. و لكن و أنا أعيش بينهما، سيلاحظان كل شيء. و يجب علي أن أتظاهر بالتهذيب و أضعه على وجهي. و لكن سأجد طريقة للتعبير عن حقيقة مشاعري...
حسنا، لا بأس من ذلك. ماذا بوسعه أن يصنع حيال أمه الآن؟. كيف يمكنه أن يعيد ابتسامتها لوجهها، و لو لقليل من الوقت؟.
كانت تبدو بالعادة سعيدة حينما تعود للبيت، متعبة من العمل. عملها في شركة مقاولات و بناء، حيث تعمل في شيء يسمى " المحاسبة"، وظيفة لا تروق لسهيل، و لكن يبدو أنها تريحها. أما والده الذي يتلقى راتبا جيدا، فقد سمح لها أن تنفق معظم دخلها على الثياب لنفسها و لابنه سهيل.
يتبع.....
إيلسا مارستون Elsa Marston: كاتبة قصص و دراسات أمريكية. درست لبعض الوقت في الجامعة الأمريكية في بيروت، و التقت فيها بزوجها إيليا هاريك و هو أستاذ العلوم السياسية في جامعة إنديانا. من مؤلفاتها الهامة ( الإله الدميم)، ( نساء من الشرق الأوسط)، (محمد ابن مكة).....