«إلى اليمين دُر» تابوت حافظ الأسد
ريبر يوسف
2015-05-17
عدتُ إلى بيتنا، حاملاً أعوامي الأحد عشر، وربطةَ خبزٍ كنتُ قد ظننتُها نتاج عمل التلاميذ في المدارس السورية. أخذ العلمُ منحى العمل إذ تحوّل إلى صياغة أخرى غير تلك المنوطة بالمعرفة وتلقّي الخير الدائم، الاستيقاظُ باكراً، ارتداءُ الزيّ المدرسي ذي اللون الكاكي والمندرج بطريقة ما في سلسلة اللون العسكري، تلقّي علم الأيديولوجيا وفكرة الموت في سبيل «حافظ الأسد«، التمرّنُ على الوقوف ثابتاً فيما أيادينا مرتفعة نلقّنُ شرودَنا في الأبدية شعارَ «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة«. كلما توجّستُ بتلك الرسالة التي ظننتُها مكوّنة من صفحة واحدة موضوعة في مظروفٍ مرفق بطابع لرأس «حافظ الأسد«، (كنت قد شاهدتُ إحداها في بيتي قادمةً من روسيا آنئذ، قال أبي إنها رسالة من خالكم الذي يدرس في موسكو).
كان المدير البعثي يسعّر النداءات في أصواتنا بحماسة مربكة، عبر أقوال تخصّه، وأتذكّرها حتى اللحظة، أقوال من قبيل: «يجب أن يسمع الموتى داخل قبورهم أصواتكم وأنتم تردّدون الشعار الصباحي في المدرسة« المدرسة التي كانت تجاور مساكن الشرطة، في جهتها الغربية، ومقبرةَ الصالحية في الجهة الجنوبية. كنا جيران مقبرتين، إحداهما مغروسة داخل الأرض والأخرى على سطحه. كان المدير يرسّخ ويؤكّد ولاءه لـ «حافظ الأسد« عبر أصواتنا الطفولية التي كانت تصدح على جدران مساكن رجال «حافظ الأسد«. إذاً كان العلم عملاً في تصوّري، والمدرسة مصنعاً ننتج فيه شيئاً ما نجهله. استوقفني رجل كان يقتعد الجزء الأمامي من سيارة (ستيشن) بيضاء مركونة بجانب مساكن الشرطة والمخابرات، المطلّة على طريق مدرسة «حامد محفوظ« المدرسة التي نقلونا إليها في بداية العام الدراسي للصف الخامس من المرحلة الابتدائية، آنئذ انفصلنا نحن البنين عن البنات إلى الأبد، حتّى إني شاهدت زميلة لي، بعد سنوات طويلة، كانت تحمل طفلها وتسير خلف رجل قيل إنّه زوجها.
تحدّث إليّ رجل المخابرات ذاك؛ إذ نفضَ زفرة قويّة عن شاربيه الغليظين وكنّس بهما ريبةً سكنتْني إلى الأبد. قال لي من مقعده: «من أين حصلتَ على هذا الخبز؟« أجبته بنبرة شبيهة بصوت محرّك سيارة أبي الخضراء: من المدرسة.
قال: «هل تعرف من أين لكم هذا الخبز؟« قلت: «من المدرسة». قال: «الخبز من سيادة الرئيس حافظ الأسد«. أكملَ مبتسماً: «هل تدعو لسيادة الرئيس في البيت؟ قل الآن الله يخلي لنا سيادة الرئيس ويحميه« فقلت بنبرة شبيهة بمحرّك سيارة أبي الخضراء: الله يخلي لنا سيادة الرئيس ويحميه.
أفكّر في ما كان سيحدث لو أني أخطأت في تقدير حرف (الياء) في كلمة (يحميه) ولفظتُ مثلاً (يمحيه). شاهدتُ مرّة رجال المخابرات يقتادون تلاميذ لسببٍ أجهله حتّى اللحظة، قيل وقتها، «إنهم يقتادون من تظهر آثار الحبر على أيديهم، لستُ أعرف السبب، كان سائق سيارة (الجيب) العسكرية يخرج يده عبر الباب قابضاً على خرطوم ماء كان ملفوفاً.
في البيت، خرجَ حافظ الأسد من حقيبتي المدرسية، حافظ الأسد المقترن بدفاترنا وكتبنا إثر صورة شخصية له مرتدياً طقماً رسميّاً ضيّقاً وربطة عنق سوداء. كان شريكنا في بيوتنا، كنت أحياناً أقلّب الدفتر على ظهره هرباً من رقابته الصارمة لنا. في البيت، انتشر حافظ الأسد عبر صوره على أغلفة دفاتر وكتب إخوتي، انتشر في الحي والمدينة والبلد، بل إنني شاهدته مرّة عبر شاشة التلفزيون إلى جانب أحد الرؤساء خارج سوريا، وشاهدته متحدثاً إلى رائد الفضاء السوري محمد فارس؛ إذ كان في طريقه إلى القمر. نظرتُ إلى السماء طويلاً. شاركنا حافظ الأسد كلّ شيء إلى الحد الذي كان فيه المطربون الشعبيون يحفزون الناس على إخلاء ساحة (الدبكة) بجملة «اللي يحب الرئيس يفضّي الساحة، فضّو الساحة يا شباب«.
وأنا أبتاع الخبز العربي في مدينة برلين قبل أيام، تذكّرت كلام عمي الذي علّق وقتئذ على حادثة سؤال رجل المخابرات لي عن مصدر الخبز الذي كان يوزّع في المدارس مرّةً كل عام، وُزّعَ لأعوام قليلة فيما كنّا ندعو لحافظ الأسد الذي كان في كل مكان. قال عمّيَ وقتئذ: « الخبز هو نتاج مساعدات خارجية لنا«.
في الفيلم (Butterfly Winter) الذي يتحدّث عن معاناة شعب كوريا الشمالية، والمقتبس من قصة واقعية حدثت في منطقة (هوانغ هاي) الكورية الشمالية، إذ أنزلت المرأة داخل الفيلم صورة (كيم إيل سونغ مع ابنه) المعلّقة إلى جدار بيتها، كان الجوع يتملّك المرأة التي قضمت صورة رئيس كوريا الشمالية وابتلعتها وهي تردد باكية: «أنا جائعة أيّها الرئيس«.
ظهر بشار الأسد إلى جانب والده، شاهدته عبر قناة تلفزيونية سورية، كان مرتدياً بزّة رسمية وسيعة جداً. تُرى، ما هي الحكمة في المقاسات المقترنة بثياب الأب والابن؟ ذاكرتنا المكتظّة بثياب حافظ الأسد الضيّقة وثياب بشار الوسيعة؟ لا أجد سوى التفسير المؤدي إلى حكمة واحدة هي أن حُكم سوريا كان خارج مقاس الأب الذي حكم حتى طريقة خروجنا إلى المرحاض، والابن الذي قتلنا فيه. طالما سوريا كانت أضيق وأوسع من أبدان وعقول العائلة تلك ـ سليلة كوريا الشمالية.
ظهر بشار أيضاً، واقفاً على تابوتٍ موضوع فيه جثة حافظ الأسد، شاهدت جنازته قبل أيام عبر يوتيوب، وذلك لتأكيد خبر موته القديم جداً، على المرء أن يضغط على مَواطِن الألم في ذهنه أبداً، هو أحد التمارين التي تجلب العدالة إلى النفس. شاهدت ضباطاً في الحرس الجمهوري يضعون تابوت حافظ الأسد على طاولة كبيرة؛ لإلقاء النظرة الأخيرة عليه، بعدها أمرَ ضابطٌ كبير أولئك الضباط ـ حَمَلَة التابوت، بالانصراف على النحو العسكري، قال الضابط لهم بنبرة مجيّشة «إلى اليمين دُرْ«، استدار بعض الضباط يميناً والبعض الآخر يساراً، اختلطت عليهم الجهات، على هيئة خطأ كوميدي موثوق إلى السر والتكهّن بما سيؤول إليه حال الجيش (النواة الأولى للانشقاق المستقبلي)، الجيش الذي وضع الأصفاد في يد سوريا وخلّدها خلال الأسى.
مات الدكتاتور الكبير ـ صانعِ الدكتاتور الصغير، الذي سوف لن يتكرّر خطأ الضباط في افتراس جهة اليمين على تابوته. لا يجيد الصبي استدراك علوم الأب السوداء، الصبي الذي يخطئ في أداء حركات صلاة العيد، الصبي الدكتاتور الذي جرّ سوريا إلى الهاوية إذ زحلقت قدمه أمام قصر الاليزيه والعالم أجمع، الصبي الذي لن يُبقي حتى على حَمَلة تابوته.
()برلين
جريدة المستقبل