فريديريك فرانسوا شوبان يعزف سرّاً على البيانو في سوريا
2009-04-14
في شهر مارس حيث بدا المطر وكأنه يهطل للمرة الأولى على فِناء البيت بيتِ (فرهاد) في حيّ الصالحية لمدينة الحسكة الواقعة شمال شرق سوريا، بدونا في الغرفة وكأننا خُلقنا من وحل تلك الليلة، حتى أني كدت أحفر على جدارٍ ما هتف في نفسي آنذاك، وكنت سأتهيأ على لفظ ما يوحي برغبتي في تناول إبريق من اليانسون مع بعض الأعشاب المطعّمة بأحاديث النساء اللواتي قطفنها (لوالدة فرهاد هواية في جعل زوجها يغدو أخضر) ولمعرفة نموذج من التعبير بدء الخليقة، كما هو مذكور في كتب تسرد الخاصية تلك، لولا عزفهم ( ليفون وفرهاد وبروان) على آلات موسيقية، عندها فقط بدأت في التحدث إليهم وكأني مخترع اللغة. تُرى أي معجزة تجعلهم فاهمين ما أنطقه؟ استوقفت آلاتهم قائلاً: أشعر بأن للموسيقا أظافر تخربش زجاج ذهني الآن.
تناول فرهاد مجموعة من الأفلام المحفوظة على أقراص ال DVD حيث في العام 2009 كان الناس يشاهدون الذاكرة بتلك الطريقة أومأوا لي بأن أختار فيلماً نشاهده، مرة أخرى تهيأت كي أنحت على الجدار مستذكراً الحادثة التي أودت بجسد أحد الإخوة في بداية الخليقة، كنت في الأيام تلك لست قادراً على إنشاد ما يمليه الاختيار عليَّ؛ الأمر الذي جعلني شارباً اليانسون، ليس بطلب مني. يقال أن التردد بداية الفصام وبأن القرارات الخاطئة أفضل من التردد، تُرى هل أنا جسد الشك؟
ترددت كثيراً قبل أن أستقل الباص الذي أقلّني إلى الحسكة، حتى أني شعرت بحرج لحظة إقدامي على دفع أجرة الطريق مرتين.
وقع الاختيار على فيلم حول الموسيقار ل . ل . ل . ل . اااااااا آه فيلم حول شوبان
أطفئوا الإنارة التي كانت منطفئة أصلاً
في الفيلم، أقصد في بداية الفيلم، كانت لشوبان الأصفر روح معارضة جعلته فارّاً من قصر الحاكم الروسي في بولندا، استقل شوبان عربة من الدرجة الأولى (ممتاز) في العام 2009 تختلف وسيلة النقل منها في ذلك الوقت، وخرج شوبان في ليلة ظلماء من بلاده، وفجأة تناهى إلى سمعنا صوت الجرس.. ذهب فرهاد كي يستكشف الواقف خلف باب البيت، وبعد لحظات دخل فرهاد برفقة رجل، أشعل بروانُ الإنارةَ التي كانت مضاءة أصلاً، كان حاجبا فرهاد قد أصبحا أبيضين. صافحنا الرجل الذي كان يبدو وكأنه خرج من الفيلم، قال لنا فرهاد: (أعرّفكم على شوبان يا شباب).
مرة أخرى تهيأتُ كي أنحت على الجدار، سمعتُ ليفون هامساً بالكردية وكأنه أحد الحضور في أمسية عزف على البيانو: ما الذي يفعله الموسيقار فريديريك فرانسوا شوبان هنا، في بيت فرهاد؟ بدا ليفون لحظتها بثياب شبيهة بالتي يرتديها عازف البيانو وأوراق بيضاء تتدلى من أذنيه، وبعد ملاحظة شوبان أننا أكراد طلب من فرهاد ـ باللغة الكردية ـ إحضار وجبة العشاء، همَّ فرهاد بتحضير العشاء لضيفه شوبان / الموسيقار الذي خلناه ميتاً منذ العام 1849
وبعد انتهائه ـ شوبان، من تناول الوجبة التي لم يسألنا حتى عن مكونات بعض الأطعمة مثل المكدوس و التبولة، قال فرهاد لشوبان: ماذا يحدث؟ أنت هنا وتتحدث الكردية و نحن كنا نتابع فيلماً عن حياتك!
ابتسم شوبان، بالكردية، وتأفف بلغة غريبة علينا
طلب منا شوبان أن يشاهد المقاطع الأولى من الفيلم حتى لحظة إقدامه على هجرة بلاده؛ وهنا شتم شوبان، باللغة الانجليزية، التاريخَ.
ابتسمنا بالكردية
ومن ثم تحدث إلينا شوبان عن قصته المؤلمة
قال شوبان: عندما هجرت بولندا لم أتوجه إلى فيينا
(ليفون مستفسراً)
شوبان: في تلك الليلة الظلماء خرجت برفقة سائق عربة كان معروفاً حينها لدى أهالي وارسو، وبعد معرفته هويتي اتجه بي إلى أحد معسكرات الروس الذين كانوا موجودين في بولندا نتيجة معاهدة "فيينا" حصيلة بطش نابليون (الحقير) في وصف شوبان له
ليفون: (راجياً) لا تشتم أحداً وبخاصة الفرنسيين
بروان: نعم، وهكذا تقي نفسك من دعاوى قضائية ربما سوف يقيمونها ضدك إذا ما علموا بأنك شتمت أحد أبطالهم هنا في بيت فرهاد
(فرهاد ابتسمَ بالفرنسية)
همَّ شوبان في سرد قصته مكملاً ما بدأه: وبعد معرفته ـ الحوذي، لهويتي اتجه بي إلى أحد معسكرات الروس
استدركت نيته رامياً بنفسي من العربة متجهاً صوب الغابة، مكثت ليلتها هناك واستمعت إلى ما تقوله الأشجار للريح في الليل
في صبيحة اليوم التالي وجدني أحد المهرّبين، كان فارّاً من الروس (الأوغاد)
نظرنا إليه فتأسف مرة أخرى على الشتيمة
(ابتسم فرهاد بالعربية)
شوبان: وبعد أن وجدني أحد الفارّين من الروس اتفقت معه أن يهرّبني إلى مكان بعيد عن هنا، وبعد سفر جهيد في ليال و أيام كثيرة حطت بي عجلة الزمن في أرض اليونان، وكانت آنذاك ترتعد اليونان تحت آلة القمع العثمانية حيث وعانيت ما عاناه الشعب اليوناني من ظلم وقهر، عملتُ سنوات عديدة في مزرعة للأبقار، آكل ما تأكله الأبقار وأنتجُ إلى جانبها.
ليفون:وهل عزفت على البيانو هناك؟
شوبان (مبتسماً بالتركية): كنت على قيد الحياة.
فرهاد: وهل زرت قبر أفلاطون؟
شوبان: وبعدما تناقل حديث الثورة في اليونان بين الناس تأهبت للخروج منها باحثاً عن مكان خال من الدمار و الحروب وفي العام 1830 وُفّقت في الهرب إلى القوقاز وهناك حيث الشركس يقتاتون على ما تنتجه لهم الأرض والظلم، مرة أخرى كانت لي التجربة المريرة مع الروس ال....
نظرنا إليه..
شوبان (متأسفاً مرة أخرى): وهناك اشتغلت مرة أخرى في مزرعة لتربية الأبقار، بقيت هناك 50 عاماً من القهر، عانيت ما عاناه الشركس ولم أعزف أبداً خلال تلك الأعوام على آلة البيانو.
ليفون (كانت الأوراق البيضاء المتدلية من أذنية تأخذ في التطاول حتى أصبحت تعرّش على كتف فرهاد أيضاً) :لم تعزف على البيانو أبداً؟!
شوبان: كنت على قيد الحياة.
بروان: وماذا حدث بعدها؟
شوبان: قررت الهرب أيضاً.
بروان:إلى أين؟
شوبان: لم يكن هناك من خيار سوى أرمينيا.
وفي ليلة ظلماء شبيهة بتلك التي في بولندا هرَّبني أحد المحليين من الشراكسة إلى أرض الأرمن.
ليفون ( بدأت الورقتان المتدليتان من أذنيه تتحولان شيئاً فشيئاً إلى اللون الأصفر ـ اللون القريب من بشرة شوبان، وعدَّل في جلسته).
شوبان: بقيت في أرمينيا 20 عاماً، كان لي نصيب من المعاناة ما لاقيته في القوقاز ثم رحلت إلى جبل ساسان وفي العام 1910 تقريباً سُعّرَت النار حول الأرمن حيث عانى الشعب الأرمني القتل الجماعي والتشريد، مات من مات منهم وهاجر الآخرون عبر الأناضول إلى سوريا.
ليفون(أخذ في البكاء إلى الحد الذي عرف فيه شوبان بأنه ينحدر من أصول أرمنية).
فرهاد (مطبطباً على كتف ليفون).
شوبان: أما أنا فقد هربت إلى الشمال.
مرة أخرى قُطع الخيط الذي رتق الألفة بين شوبان الموسيقار وسترة المكان ـ المكانِ الذي أبداً كان له إلا أن يرتسم في ذهن المهاجر إليه فماً يعضّ سكينة قدميه. تكمن أقدام المهاجر في ذهنه ويداه في عقله.
صعد شوبان الشمال، لكن لماذا يقترن الصعود أبداً بالشمال وكأن الأرض تشبه ساكنيها؟ تُرى هل البشر أحقّ من أي كائن آخر ليكون نولُ المسميات ملكهم؟ نحن أسرى على الأرض وهي أسيرة عقولنا.
تُرى إلى أين مضى شوبان وكل رقعة من الأرض محاكة بقماش من جثث ساكنيها؟ إنا نسكن الأرض لكنّا أقلُّها احتراماً.
تناهى إلى سمعي صوت شوبان متدرجاً يقول:
وفي العام 1930 وبعد هربي من اسكتلندا استقللتُ باخرة متجهاً إلى قارة أخرى وكنت، هذه المرة، أقلَّ قلقاً منها لسابقاتها كون التوجّس بالعواصف والبحر كان كونياً في عالمنا الصغير. كانت الباخرة مثل كرة أرضية وعلى متن الباخرة كانت توجد آلة بيانو.
ليفون (مستدركاً): وهل عزفت عليها؟
شوبان (مبتسماً بالأرمنية): كنت أحاول إلا أن أموراً ما كانت تحول بيني وبين ذلك، قيل لي أن الشاب الذي يعزف دوماً على تلك الآلة هو أحق مني إذ إنه وُلِد على متن الباخرة في العام 1900حتى إنه كان مسمى نسبة إلى العام نفسه كان اسمه 1900
فرهاد: أوه نعم، هنالك فيلم حول حياته هو أيضاً.
شوبان (نظر إلى ليفون وابتسم بالأرمنية).
بروان (نظر إلى الورقتين المتدليتين من أذني ليفون اللتين أخذتا بالانحسار عن يدي فرهاد).
شوبان: هاجرت إلى بلدان العالم جميعها.
بروان: لكن الآن اختلف الظرف السياسي في العالم جميعه وبدأت الشعوب تتحرر من وطأة الاضطهاد، لماذا لا تعود إلى بولندا بلدك الأم؟
شوبان: حاولت ذلك وفي العام 2005 تعرفت في تركيا إلى مهرّب كردي واتفقت معه على أن يدخلني بولندا إذ إن السفر في هذا الزمن يحتاج إلى جواز وتأشيرة وغيرها وقال لي ذلك الرجل بأنه سيدخلني البلاد عبر روسيا ومن ثم لاتفيا وليتوانيا.
بروان: وماذا حدث؟
شوبان (مبتسماً باللاتوانية): اعتقلتنا في ليتوانيا سلطاتها، وأخذوا بصمات يدي وقلبي وأعادوني إلى لاتفيا ثم إلى روسيا ثم ثم ثم ثم إلى الرجل الذي تعرفت إليه في تلك القرية الكردية جنوب تركيا.
ويقال أنه إذا ما أُخذت بصمة اليد في أي دولة من تلك التي هي داخل الاتحاد الاوروبي سوف لن نستطيع السفر منها إلى أية دولة أخرى. أنا بولندي لا أحمل الوثائق.
ليفون: خلاصْ استقرّْ بدولة واعزف ع البيانو.
بروان: وكيف وصلت إلى سوريا؟
شوبان: لا أدري ( ونظر إلى آلات موسيقية داخل غرفة فرهاد) أنتم تعزفون الموسيقا، كم كنت أتمنى أن أعزف على آلة البيانو في هذه اللحظات.
ليفون (عادت الأوراق في التطاول، الأوراق البيضاء المتدلية من أذنيه حتى إنها باتت تغطي أرضية الغرفة برمتها ): توجد في منزلي آلة بيانو.
شوبان ابتسم بالأرمنية و الكردية معاً.
نظرنا إلى بعضنا البعض و تبسمنا بلغات إقليمية عديدة كانت التركية أولاها.
ترى هل يستطيع شوبان أن يعزف البيانو هنا في شمال سوريا؟ وفي شهر آذار حاولت استدراك حديث ما، حاولت أن أتذكر ما قاله الشعراء عن شهر آذار مميطاً اللثام عما كان سيتدثر به شوبان في فكرته.
ليفون: نحن الآن في شهر آذار، وغرفتي نافذتها مطلة على الشارع، وَجلّ ما أخشاه أن نتهم كوننا منتسبون إلى فرقة فلكلورية من تلك التي تعزف في احتفالات نوروز.
شوبان: وهل الموسيقا ممنوعة هنا؟
(تبسمنا بالفرنسية و الانجليزية) فقط في شهر آذار لأن وقتها "تستيقظ الفرس".
ليفون: لا عليك، سنذهب الآن إلى بيتي وستعزف على آلة البيانو.
وانحسرت الأوراق البيضاء عن أذنيه، مرة أخرى، حدّ الاختفاءِ.
اخضرت أصابع شوبان حتى تهيأت لي و كأنها خلقت من طين تلك الليلة يعزف ساهياً عما جرى عما سيأتي، لكن لسوء الحظ لم نكن نسمع موسيقاه حيث تجنباً لانكفاء الصوت عن الغرفة وضع ليفون (الهيتفون) حول أذنيّ شوبان.
شوبان الذي لم يعزف على البيانو طيلة الأعوام التي مضت باحثاً عن السلام في معظم أرجاء العالم تعلم خلالها 150 لغة في حين أننا لم نتحدث أبداً بلغة سكينته.
عاصر حروباً في دول و ثوراتٍ في أخرى.
خرج شوبان فارّاً من بيت ليفون، ترى أي جهة سترسم له دروبها؟ ترى أي مكان سينشده سكوناً لصباحاتها؟ لا أدري، لكني لو كنت في بيت فرهاد لحظة هروبه من شمال سوريا أيضاً لكنت حفرت على الجدار ما هتف في نفسي الآن. هرب شوبان لكن لحسن الحظ إنه عزف على آلة البيانو في سوريا وإن كان سراً.
وتبسمنا بالـ ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سوريا / القامشلي
08-أيار-2021
25-أيار-2019 | |
17-أيار-2015 | |
22-آب-2009 | |
14-نيسان-2009 | |
23-آذار-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |