كيتيا / شاين ستراشان ترجمة:
صالح الرزوق
خاص ألف
2015-08-01
على مشارف المدينة، أنهى ديريك كيتيا التفتيش في كومة من أدوات قوارب والده القديمة الموجودة في باحة الخردة. كان الطقس رائعا لأن الوقت هو منتصف أيلول لذلك تابع العمل لساعات بعد أن مرت السيارات و اكتسحت الطريق المجاور، باتجاه البيوت التي تقف خارج بروش*.
ثم أشعل المذياع لأول مرة في هذا الأسبوع، تحت مظلة مخصصة للعمل حيث تخزن خردة الحديد. و كان هذا توقيت نشرة الأخبار. أصغى و هو يجلس على الأرض المتربة و فك عقدة أسلاك نحاس متشابكة، فاسودت يداه بسبب الزيت- سمع بخبر اصطدام وقع في الليلة السابقة على الطريق A90... وخبر مستشار استقال من عمله بعد فضيحة.. و حوت أمسك به الصيادون في مرفأ فوازبورة- و فجأة توقف الإرسال. ذهب إليه و حاول ضبط تشغيل/ إطفاء، و لكن يبدو أن البطاريات نفدت. تحت المظلة، شعر ببرودة تسري في ذراعيه العاريتين ووقف الزغب القصير الأشقر كالفريز الذي يغطي ذراعيه من القشعريرة. و خلف جدران الباحة، ألقت بالات القش في الحقول المجاورة ظلالا طويلة فوق الأرض المحصودة- لقد حان الوقت للعودة إلى البيت.
و شرع بنصف ساعة من المشي في المدينة مع أنه ضعيف بسبب التعب و الجوع. و مر من جانب المدرسة الثانوية التي تركها في بداية الصيف و تساءل هل هذه آخر مرة سيرى فيها البناية- تبدو له مثل معمل قديم، و برج الساعة فيها يتمطى فوق سقف من المعدن المضلع. ثم اختصر طريقه إلى الشارع الذي كان يعيش فيه، محاذرا أن لا يرى أحدا من جيرانه القدماء الذين توزعوا هنا و هناك. و احتاج لبعض الوقت ليعبر من ممر يقود إلى موقع الكرافان عند نهاية مساحة الشاطئ. فهم يخيمون هنا منذ أعلن والده إفلاسه من ثلاثة شهور مضت.
و ما أن قبض على يد باب الكارافان البلاستيكي، حتى سمع صوت عشيقة والده يوليا و هي تصيح بالروسية. و بدأت كل الغرفة تهتز. بحث في جيوبه و عد نقوده- أربع جنيهات و ستون بنسا. ربما تكفي لشراء صحن رقائق بطاطا مع مشروب يحصل عليه في شيب إن ( فندق السفينة).
سار من حول الكارافان و اتجه إلى معامل السمك ذات الرائحة و منها إلى حوض فايثلاين. كان عدد من القوارب يرسو على وجه الماء و بحاجة للطلاء. و أسوأها سفينة بلا اسم تعود لواحدة من شركات الصيد في الساحل الغربي- الطلاء الأزرق يغلف المقدمة و المقود، و لكن معظم القشرة بينهما متعرية و تحتها صدأ برتقالي بفعل مياه البحر. طلاء قارب آخر من بناف بدأ يقشر عند المقود تحت عتلة الشباك. بينما القوارب المحلية تبدو أفضل و يمكنك أن ترى أسماءها في ضوء المساء: هارفيست كويست، أدريانا، كريستيان وات، فير ويذير، غايد أس**.
كان هارفيست كويست في ظل قارب عملاق ألقى مرساته في حوض بالاكلافا خلف البونتوس، وهي سفينة حمراء طليت حديثا. ووقف بعض طاقمها عليها، ثلاثة من بحارة جاكل، أخوة بشعر أسود و كثيف و بالثلاثينات من العمر- أكبرهم جيمس، و أصغرهم جيمي، و الأوسط جون. حينما كان ديريك أصغر بالعمر كان والده يعمل في عرض اليحر، بقوارب آل جاكل، ثم مات جيمي جاكل من سنتين و سريعا ما تخلى أبناؤه الثلاث عن والد ديريك.
وقف الأشقاء الثلاث خارج المستودع، يدخنون الحشيش و يشربون زجاجات البيرة. أسار جيمس إلى الأسفل و قال شيئا دفع شقيقيه للسقوط بنوبات من الضحك. و نظر ديريك إلى حيث أشار- صف من الناس وقفوا على حافة المرفأ من الجهة المقابلة للحوض. لا بد أن الحوت لا يزال في الشباك، هذا ما تبادر إلى ذهنه.
هرع من أمام الحانة و مخازن المؤونة إلى حيث وقف عامة الناس. و عند حدود المتجمهرين، سأل، ما يبدو أنها زوجة أحدهم، عما يجري. قالت إن الناس أخبروها أن حوتا صغيرا في الخليج- لقد وقع بالفخ هناك من يوم تقريبا. في الليلة السابقة، حاول قارب صيد صغير أن يجر الحرت إلى البحر لينتظر أمه، و لكن الحيوان غرق و غاب عن الأنظار ثم طفا من وراء القارب، بمسافة أبعد من قبل. و في وقت سابق من اليوم، ذهب بعض الخبراء إلى بورش و نظموا سربا من ثلاث قوارب ليقودوه إلى خارج الفخ، و لكن عوضا عن جره إلى المياه المضطرمة، سبح الحوت نحو القارب و وقع بين عبارتين، و تسبب لكل العملية بالجمود. كانوا على وشك محاولة جديدة في الغد، و لكن هاهم الناس الآن يتقاطرون من كل حدب و صوب لرؤية الوحش الضعيف.
وها هو يصعد، بجلده الناعم الرمادي، يشق طبقة من زيت له ألوان قوس قزح كان على سطح المياه. ثم رش نافورة صغيرة من ظهره للتنفس. ثم انفتحت الغلاصم الصغيرة و هو يهبط بشكل قوس نحو الأسفل، ليغوص مجددا. و أطلق طفل صيحة عالية كأنه قرش، و صفقت بنت بيديها كأنها في استعراض. وأسرع أبواهما لإسكاتهما.
بدأت بطن ديريك تقرقر. ودع المرأة و توجه إلى الخلف نحو شيب إن. و في الداخل، قرر أن لا يطلب شرابا، فهو عليه أن يحافظ على نقوده بقدر استطاعته- و لذلك طلب كوبا من الماء ليشربه مع طبق الرقائق. و حينما حصل عليهما، جلس في زاوية صامتة قرب النافذة و نظر إلى الخليج. ثم قارب صغير أحمر شق طريقه عبر عباب مياه حوض فايثلاين.
و سرعان ما رأى أنه يسترق السمع من حوار بين ساقية بار عجوز و صياد جلس عند البار. كانت الساقية توضح له أن جيمي كان هنا في الليلة السابقة يتكلم كيف أن الحوت تبع البونتوس حتى الخليج، و كيف أن الطاقم شاهده و هو يشق طريقه في المياه خلف السفينة. كان جيمي منفعلا لأنه السبب بهيوط نصف المدينة إلى الشاطئ و منذ ذلك الوقت وهو يسخر مما جرى. واحد من زبائن البار في الخلف قاطع جيمي، و قال بالتأكيد يمكنه رؤية أن هذا عار على المخلوق. ضحك جيمي بالمقابل و قال إنه في الأيام المنصرمة حينما كان صيد الحيتان يجري في شواطئ بيتيرهيد، كان أسلافه سعداء بما فيه الكفاية كلما أمسكوا بالوحش فلماذا يتكلم الناس اليوم و يقضمون أسنانهم من الضغينة؟. ران الهدوء على الناس و تركوه يجمجم عن السمك الذي اصطاده في آخر رحلة و عن الصناديق المليئة التي باعها في السوق.
فرغ طبق و كأس ديريك. فغادر شيب و سار في طريقه على طول المرفأ، و مر بالمعامل و التف من حول الكارافان. و حينما دخل- ضربت الستائر المصنوعة من الخرز بالباب- و استطاع أن يسمع صوت شخير والده في غرفة السرير المزدوج. زحف إلى غرفته و جلس على سريره المفرد. و من خلال النافذة البلاستيكية البراقة، راقب الأمواج ترتطم على الصخور السود عند أدنى نقطة من مكان الكارافان. و ما أن خيم الليل، حتى أشعل الضوء فوق فراشه. و بدأ يعد النقود المتبقية في جيبه مع بعض القطع المعدنية التي خبأها بين ألواح الخشب تحت الفراش. كان لديه بالإجمال ستة جنيهات و ستة و ثلاثون بنسا. كان بحاجة للقليل فقط فوق ما معه. و عليه أن يجرب في الغد و أن لا ينفق أي شيء.
و خبأ كل النقود مجددا و استلقى على سريره. كانت أبرد ليلة هناك منذ فترة و توجب عليه أن يغطي نفسه بالملاءتين الرقيقتين المتوفرتين. ثم سحب الحبل الذي فوق رأسه فساد الظلام و خمد المصباح.
*
في اليوم اللاحق، فحص ديريك جدول المواعيد في محطة الحافلات و هو في طريقه إلى باحة الخردة. هناك حافلة تغادر من المحطة كل نصف ساعة في أيام السبت وطوال اليوم. و كان عليه أن يضع خطة حتى لا ينتظر الحافلة واقفا لفترة طويلة.
بقي وحده مع أدواته في الباحة في صباح الخميس الماضي و استغرق وقتا كافيا لينقب بين المعادن التي بحاجة لتوضيب- ما أن تتراكم لديه معادن من نوع واحد حتى يملأ والده علبة السيارة بها و يأخذها إلى خردواتي مناسب في أبردين ليحصل على النقود و هذا يعني أنهم سيبدأون بتجميع غيرها. في الماضي، كانوا يحصلون على معظمها من تعرية معامل قديمة مهجورة و من الأغطية السود للبيوت المحترقة.
و ليصبر على متابعة التوضيب و الفرز، قرأ ديريك فصلا من كتاب كان في المكتبة في استراحة بين نوبتين من التنقيب فيما تبقى لديه من أكوام معدنية- كانت نسخة مهترئة بغلاف سميك من رواية لستيفنسون.
وصل والده في المساء. و استطاع ديريك أن يستمع لدواليب السيارة الأثرية المتهالكة و هي تحرث خلال المهملات أمام الباحة بينما كان يخفي الكتاب تحت سترته بعيدا عن عيني أبيه. رفضت يوليا أن تغادر السيارة و انتظرت تلهو بالموبايل بجوار نافذة مفتوحة.
قال والده و هو يميل بجثمانه على المظلة: سيأتي شخص ليحمل بعض الخردة، ووضع يديه في جيبي الجينز. و أضاف: اعتقدت أنه من الأفضل أن أتعامل معه حتى لا يسرقنا مغامر آخر، هكذا قال له و هو ينفث أنفاسه. لا بد أنه كان يشرب- وهذه هي المرة الوحيدة التي سمعه بها يضحك.
و شقت سيارة خضراء صغيرة طريقها إلى الباحة و وقفت على مبعدة أمتار منهما. كان السائق رجلا مسنا ينظر من فوق المقود كأنه سلحفاة تفكر هل تخرج من درعها أم لا. هرع والده و فتح باب السيارة و ساعد الرجل على النهوض. و تبادلا المصافحة ثم تحرك كلاهما لينظرا في داخل علبة السيارة.
ما أن فتحاها، حتى هز والد ديريك رأسه بعد أن رأى المحتويات. و في إثر عدة دقائق من النقاش، نادى على ديريك ليساعده في تفريغ حمولة سيارة الرجل. شاهد عدة قضبان فولاذية و بعض أدوات الجمباز القديمة و التي يجب حملها معا إلى الباحة. و بعد أن غادرت السيارة الخضراء، سأل ديريك والده كم عليه أن يدفع للرجل لقاء ذلك.
ابتسم وقال: كلا. لا شيء. فقط أخبرته إنها لا تستأهل الوقود الذي ستهدره لتقودك إلى مكان آخر.
ثم أردف: من الأفضل أن أنتظر. و بحث في جيب قميصه و سحب ورقة. و قال: دبر لنفسك شيئا من أجل العشاء. آه- هل أنت متأكد أنك لا تريد أن تأتي معي إلى الحفلة يوم السبت؟.
هز ديريك رأسه. و تناول الورقة من والده و شكره، ثم عاد أدراجه لتوضيب و فرز الخردة. ثم غادر والده بسيارته برفقة يوليا.
و في طريق العودة إلى البيت من الباحة في تلك الأمسية، زار ديريك الفرن قبل الإغلاق. مهما كان نوع الفطائر التي يعرضونها فهم يقدمون فطيرة مجانية لقاء شراء فطيرة لو أن الوقت هو نهاية اليوم. مع زجاجة كولا صغيرة، اشترى قطعتين من الخبز الاسكوتلاندي و التهمهما معا و هو في طريقه إلى الخليج.
عند حوض فايثلاين، مرت به شاحنة زرقاء و توقفت أمامه بعدة ياردات. و غادر منها رجلان، و كلاهما يرتدي سترة بشعار مستدير أحمر هو " بحوث الثدييات البحرية و وحدة الإنقاذ". تصافح الرجال عند عوامة أدريانا قبل أن يسمح لهما بالصعود على متنها. واحد إثر الآخر، قفزا من فوق الفراغ بين الرصيف الإسمنتي و القضبان التي على طول طرف متن القارب الذي كان يتأرجح مع أمواج المد المتدافعة. و قرر ديريك أن يتوجه إلى حوض بالاكلافا ليشاهد ما ستؤول إليه الأمور.
الليلة، زاد حجم الحشد حتى أنهم التفوا حول الشاطئ لرؤية الحوت. و بينهم طاقم تلفزيون وضعوا الكاميرات بالجوار و تغلغل المصورون بين الناس و وصلوا إلى حافة الشاطئ. و سأل واحد من الموجودين مذيعة التلفزيون عما يحصل. و استمع ديريك له و هو يشرح أنه هناك محاولة أخيرة لجر الحوت إلى البحر قبل حلول الظلام.
وماذا سيجري لو أنهم لم ينجحوا؟. سأل صوت من بين الجموع. فهزت المذيعة منكبيها و استدارت لتتابع النقاش مع زملائها.
و سرعان ما وصل الكلام إلى بحارة جاكل و طلبوا منهم تحريك البونتوس حول الحوض لتوسيع المساحة من أجل مناورة القوارب الأصغر. و لكنهم رفضوا مباشرة، و برروا ذلك أنه لا يوجد ما يستأهل هدر الوقود. نظر ديريك إلى البونتوس و راقب جيمي جاكل يرمي سيجارة في الخليج نحو الأسفل.
و شرع الناس بالتصفيق و الهياج حينما دخل سرب من القوارب من حوض فايثلاين إلى بالاكلافا. وكان هارفيست كويست، و غايد أس، بلون أزرق سماوي خلف أدريانا الأخضر بلون الغابات. ران الصمت على المحتشدين حينما وقف القاربان الأزرقان و اقتحم أدريانا الخليج، و تقدم بما فيه الكفاية نحو أحد الجوانب ليسمح للبقية بالمرور. و ما أن اقتربت القوارب الثلاث و أصبحت جاهزة لتغادر من الحوض، حتى حل الهدوء، و انتظر الناس الحوت ليظهر مجددا. و عكر الأنفاس الصامتة شخص بدأ بالصياح من خلف المتجمهرين.
قال: ابتعدوا عن طريقي رجاء! ليس لدي وقت لهذا الهراء. كان جيمس جاكل عائدا من المدينة برفقة جون. و تقدم كلاهما بين الناس. و الزجاجات تقرقع في أكياس المشتريات. و أسرع الأصغر بالعمر لإفساح الطريق، و لكن الشقيقين واجها صفا من ثلاث رجال متقدمين بالعمر. نفس الثلاثة الذين تراهم بالعادة يجلسون على المنصة خارج إرسالية الصيادين في أمسيات الصيف المعتدلة.
استغرق الثلاثة وقتا في الالتفات لمواجهة عائلة جاكل قبل أن ينظروا إليهم بنظرات متفحصة.
قال شخص يقف في الوسط: هل سننتظر هنا كل الليل؟.
وسأل غيره: ألا يعلم أحد؟. و رفع عكازته إلى الأعلى كأنها حاجز. و دفعت امرأة قرب ديريك أصدقاءها المتباكين و أشارت للرجال. و خيم الصمت على كل من بجوارها كي يتمكنوا من الإصغاء.
قال أطول الثلاثة: حسنا، انظروا لمظهر هذا الثنائي، كما أرى هم من أتباع جيمي جاكل. كان يبدو أن رقبته تعاني من التقوس بسبب النظر إلى الأسفل باستمرار..
نظر الأشقاء إلى بعضهم بعضا و كشروا وجوههم.
قال الرجل الأول الذي يرتدي أنوراك يهتز مع هبوب النسيم: لا بد أنك هناك من فترة. أتساءل ماذا يعتقد جيمي لو كان هنا في النهار و رأى ما يحصل.
قال جيمس: سيكون فخورا بنا.
قال الرجل صاحب العكاز: آه. كان والدك رجلا ممتازا و يعمل بقوة أنت لا تمتلكها.
و رفع عكازته إلى السماء و أضاف: اخش من الله الموجود هناك و الذي ينظر إليك و يراقبك، و احسب حسابه.
همهم جون ببعض الكلمات من تحت أنفاسه فضحك جيمس. و مرا من بين الرجال المتراصفين و تابعا بين بقية الزحام نحو سفينتهما.
وانصب اهتمام الجميع مجددا على الحوض حيث ظهر الحوت.
راقب ديريك نافورة المياه التي تخرج من الحوت. و لكنه لم يغب تحت المياه في هذه المرة، إنما، و عوضا عن ذلك، دار حول القوارب كأنه غير متيقن أين يجب أن يسبح. و جمعت محركات القوارب زمجرتها و هي تبدأ بثبات بالحركة إلى الأمام، جنبا إلى جنب. و كردة فعل، اختار الحوت طريقا مستقيما و اتجه مباشرة إلى المرفأ.
على طول القوارب، تحرك الناس نحو الخليج. و طلبت شرطيتان من الجميع التحرك إلى الخلف بعيدا عن الحافة لأنهم اقتربوا من المرفأ و تجمعوا ليأخذوا نظرة من حركات الحوت.
و عند نقطة التقاء مدخل الأحواض مع المرفأ العريض، انزلق قارب إضافي من فايثلاين مع القافلة ليسد الفراغ في الفجوة المفتوحة. و أشار الملاحون بأياديهم إلى حجرات القيادة القريبة منهم و تواصلوا باللاسلكي مع بعضهم بعضا حتى اصطفوا جميعا بأمان. و سرعان ما باشروا بالحركة إلى الأمام بصف من أربعة.
وحينما تقدم الحوت عدة أمتار من أمام أدريانا، تمهلت كل القوارب الأربع، و خمد هدير المحركات. و توجه بعض البحارة إلى الأمام نحو نهاية المرفأ و تسلقوا على المربعات الإسمنتية لحواجز المياه التي كانت تقود إلى المنارة في مدخل الخليج. و تمهلت القوارب و هدأت محركاتها. و جمدت في أمكنتها، و سدت مدخل الخليج.
وجاء واحد من الخبراء من وحدة الحيوانات الثديية نحو سطح أدريانا و رسم شارة النصر. فاقترب ديريك من الحشود و أطلق صيحة تشجيع عالية لطاقم القوارب لتصل إليهم عبر المسافات.
كان الناس سريعين للاتصال بالهواتف و نقل الأنباء. و أجرى المذيعون مقابلات مع السكان المحليين و سجلوا الملاحظات المختصرة، و بحث طاقم التلفزيون عن شخص يتكلم الإنكليزية بطلاقة و لا ينزلق إلى اللهجة المحلية. ومر قس محلي من قرب ديريك و تطوع شخصيا. و أخبر التلفزيون أنه كان يصلي من أجل الحوت ليعود بأمان إلى أمه و هو ممتن لأنه سيحتفل بهذا الخبر في صلاة الصباح.
و تفرق الحشد إلى بيوته و قرر ديريك أن يحذو حذوهم. و في طريق العودة إلى الكارافان، زحفت غمامة سوداء فوق شمس هذه الأمسية. و ألقت البلدة في بئر مظلم.
*
بعد يومين، استيقظ ديريك في صباح السبت برأس متعب. إنه صداع في الليلة الثانية على التوالي . فقد استمر متيقظا طوال الليل بسبب عاصفة و جلس أحيانا ليشاهد البروق الرعدية و هي تضرب فوق البحر.
كافح ليغادر السرير و أزاح الستائر عن النافذة. كانت الشمس تلتهب في الخارج- إن لم تكن من أثر مياه البحر التي جفت على النافذة- ربما هو كان يحلم بعاصفة الليلة السابقة.
قال والده: يا لها من ليلة ملعونة أخرى؟. كان يجلس على الوسادة و يصغي للمذياع، و ثياب كرة القدم جاهزة لينصرف و يشاهد المباراة في بيلسلي.
همهم ديريك موافقا. و تحرك ليقوم بروتين السبت الاعتيادي- قطعتان من الخبز المحمص، و دوش سريع في الحمام، ثم الخروج من الباب للقيام بنزهة على الأقدام بمجرد ارتداء الثياب. كان الشاطئ مزدحما. البحارة يركضون بجنون في حديقة المراجيح و عدة عوائل عند الخليج، يجهزون مصدات الرياح و يستلقون للاستجمام.
تخلص ديريك من حذائه و سار على أعشاب الشاطئ البحرية فوق الكثبان، حتى وصل إلى الخليج.
و بعد مسافة، رأى هناك مجموعتين كبيرتين تقفان في دائرتين منفصلتين، و الوجوه إلى الداخل. كانوا يشبهون أعضاء أحد المنتديات.
و توقع أنهم هنا لامتطاء الأمواج فقد كان يوجد أربعة متزلجين على المياه بالجوار، و يجدفون نحو الأمواج العاتية بالزلاجات.
و في عرض البحر، كان من الممكن أن تشاهد حطام فريجا، التي اعترضتها صخور الشاطئ و حبستها عند كيرنبولغ***.
تقدم مراهق وحيد أمام الجماعة القريبة من ديريك و تسلق على قمة كومة شيء ما. و علم ديريك ما هو: كومة رمادية داكنة، بقاعدة بيضاء مغطاة ببتون مسننة- كان هذا حوتا أبيض. و بدنه عند الرأس قد تحول ليكون شاحبا و فيه خطوط برتقالية، و فكه السفلي مصبوغ بالدم. و أصاب ديريك الغثيان ما أن هب الهواء النتن الناجم عن تفسخ اللحم نحوه. لا بد أن الحوت جنح من ليلتين قبل أن يتحلل إلى هذه الدرجة.
وقف الصبي المنفرد على قمة الجثمان و التقط له البعض صورة، دون أن يتأثروا بالرائحة و لا بأسراب الذباب التي تحوم حولهم.إثنان آخران انضما إلى الصبي و تسلقا كتف الوحش الميت، و استعملا البتون التي في بطنه كسلم. و فعلت الجماعة الأخرى على الشاطئ نفس الشيء. و ساعدوا بعضهم بعضا لتسلق حوت أضخم- هو الأم. ما يراه ديريك من الحوتين جعله يشعر بالحماقة لأنه ابتهج مع الناس من ليلتين فقط.
استدار و بدأ بالعودة. بالعادة يصل إلى مياه فيلورث في منتصف الخليج، و لكنه لم يرغب أن يمر مجددا بالحوتين الميتين. حينما اصطدم والده بطير نورس في البلدة أو دهس طير تدرج في الطريق قرب باحة الخردة، كان على ديريك أن يصنع أي شيء ليتحاشى المرور لعدة أيام قادمة من الممرات التي وقعت فيها حوادث الموت.
كان والده غائبا حين وصوله. ترك وراءه نسخة من فرايزبره هيرالد فوق الوسادة. تناولها ديريك و قرأ وقت المباراة بكرة القدم- ظهرا، بعد عشرة دقائق فقط. أسرع إلى غرفته و رفع الفراش و التقط النقود المعدنية من تحتها. و ما أن امتلأ جيبه بها، حتى ملأ حقيبتين من البلاستيك بثيابه، و حذائه و كل أشيائه.
تحت السرير، رأى كتاب المكتبة الذي انشغل بقراءته: سد هيرميستون****- لم يستكمل قراءته بعد. و لكنه لم يهتم لأن ستيفنسون نفسه لم يضع له نهاية. حمل وصل الاستلام الذي يستعمله كإشارة بين صفحات الكتاب و كتب ملاحظة على قفاه: سأكون بخير. ديريك.
و ترك الكتاب و الملاحظة على سريره ثم أسرع ليغادر الكارافان مع الحقيبتين، و لم يهتم بإقفال الباب.
نظرت إليه سائقة الحافلة نظرة غريبة حينما قدم لها كومة القطع النقدية الصغيرة، و لكنها تحلت بروح لطيفة حينما ذكر لها عنوان مبيته في بيت الطلبة في أبردين و طلب منها أن تخبره أين عليه أن يغادر الحافلة.
ابتسمت و قالت: لا مشكلة أيها العازب.
كانت الحافلة هادئة- فقط جلس إثنان من العجائز في المقدمة، و احتلت امرأة شابة مكانا قرب المؤخرة. اختار مقعدين قرابة الوسط و استلقى عليهما بالعرض، بعيدا عن أنظار الناس وراء النافذة. و بدأت الحافلة رحلتها، و بمقدوره أن يخبرك أي الشوارع مروا بها منذ بداية انطلاق المركبة: شارلوت، كينغ إدوارد، ستريشين، بوثبي... و حينما تباطأت الحافلة بسبب الساحة المستديرة في مطلع البلدة، علم أنه في طريقه.
* برج تتوجه حجرة مستديرة في شمال إسكوتلاندا. يعود لما قبل التاريخ المكتوب.
**البحث عن حصاد، أدريانا، كريستيان وات، طقس معتدل، حدد وجهتنا.
*** قرية على مبعدة أربعة أميال شرق فريزربراه. في شمال شرق إسكوتلاندا.
**** رواية غير مكتملة لروبرت لويس ستيفنسون.
شاين ستراشان.Shane Strachan : كاتب من إسكوتلاندا. يدرس الدكتوراة في جامعة أبردين. و الترجمة من مجلة
نورث وورد ناو Northword Now المتخصصة بالأدب الإسكوتلاندي المعاصر.