المفاوضات السورية: الجوهر والتفاصيل
سمير العيطة
2015-08-31
يترافق الحراك الديبلوماسيّ المكوكيّ، الذي قام بعد توافق مجلس الأمن على بيانٍ رئاسيّ يدعم الخطّة الجديدة للمبعوث الدوليّ ستيفان ديميستورا، مع تصعيدٍ خطابيّ مصدره جهات بعينها دون غيرها. تصعيدٌ خطابيٌّ أكثر منه عسكريّ، فالحرب تبدو اليوم حرب مواقعٍ وإرهابٍ متبادل، من دون تحوّلات كبيرة في الموازين على الأرض.
ظهر التصعيد الخطابيّ على لسان رئيس السلطة السوريّة الذي لا يرى فقط أنّ الأزمة ما زالت بعيدة عن نهاياتها فحسب، بل لا يقرّ أصلاً أنّ هناك حلاًّ سياسيّاً بين السوريين، بل بالأحرى مساراً سياسيّاً وتفاصيل في سياق تفاوضٍ إقليميّ دوليّ حول الإرهاب. ويجد هذا الخطاب التصعيديّ الاستفزازيّ صداه في خطاب تركيّ حول المنطقة الآمنة أو حول تغيير العملة، وكذلك في الخطاب ذي النبرة العالية لدى الرئيس الفرنسيّ. رأس السلطة السوريّ يهدّد بتسليم حلب ومن ثمّ دمشق إلى «داعش» إذا ما تمّ الإصرار على رحيله، والآخرون يهدّدون بتقسيم سوريا إذا ما ظلّ هو نفسه في الحكم.
هذه هي المعضلة الأصعب في الجهد الجاري حول «مجموعة الاتصال» الإقليميّة-الدوليّة التي اقترحها المبعوث الأمميّ والتي يبدو أنّ الروس يتنطّعون لمهمّة تذليل العقبات أمامها بمباركة أميركيّة وعلى الأغلب، سعوديّة وإيرانيّة.
اللافت للانتباه في خطاب الرئيس السوريّ هو أنّه من الوحيدين دوليّاً الذين لا يميّزون بين من حمل السلاح دفاعاً عن أهله وبين «داعش» و «النصرة» ومثيلاتها المرتبطة بفكر «القاعدة»، كحركات متطرّفة إرهابيّة يجب توجيه جميع الجهود لمكافحتها، وما يشكّل أساس أيّ حلّ سياسيّ. فكلّ المعارضين، بالنسبة إليه، إرهابيّون أو خونة وأدوات لإسرائيل، يجب «التعامل» معهم أوّلاً، ويقصد عسكريّاً.
هذا التصعيد يقابله تصعيدٌ مماثل من بعض أطياف المعارضة. بعضها يأتي من تغليب العاطفة من جرّاء القصف الهمجيّ على مدن غوطة دمشق، وبعضها الآخر من التخوّف من فقدانٍ وهمٍ زرعته بعض الدول أنّ هذه الأطياف المعارضة هي ممثّل الشعب السوريّ، أي أنّها ستحكم سوريا. آخر مراحل هذا الوهم يمثّلها توجيه جهودها كي تقوم بإدارة المنطقة الآمنة، برغم الفشل الكبير الذي شهدته تجربة إدلب.
واللافت أيضاً هنا أنّ هذه الأطراف المعارضة هي أيضاً تتحدّث في خطابها عن معارضة مسلّحة دون تمييزٍ أو نأيٍ بنفسها عن المتطرّفين كـ «جبهة النصرة». والأنكى أنّها تفرح لانتصارات «داعش» على المقاتلين الكرد وتروّج لمقولات عن تهجيرٍ عرقيّ أو مذهبيّ، بدل تخفيف التشنّج وتوثيق عرى التواصل والأخوّة في الوطن مع جميع الأكراد السوريين، خاصّة إذا ما كانت تعتبر «داعش» حليفة موضوعيّة للسلطة السوريّة.
يأتي هذا التصعيد الخطابيّ في حين سئم السوريّون، موالاةً أو معارضةً أو ما بين المنزلتين، الحرب العبثيّة، وباتوا يهربون بالآلاف من سوريا ومن دول الجوار فاقدين الأمل في حلّ. وجوهر حلّ الأزمة كان ولا يزال وسيبقى وقف الحرب بالوكالة على أرضهم. ولكن هناك أمورا أخرى ليست تفاصيل بل هي جوهريّة. فمسألة بقاء الرئيس السوريّ في السلطة في ظلّ تهديده بمحو الدولة معه ومسؤوليّته الشخصيّة عن السبيل الذي أخذ إليه البلاد إشكاليّة جوهريّة. ومسألة تبعيّته لبعض الدول وتبعيّة أطراف من المعارضة لدولٍ أخرى إشكاليّة جوهريّة. ومسألة أنّ المجتمع ذا الأغلبيّة الشبابيّة قد قام لأنّ سياسات السلطة القائمة ألغت كرامتهم بالإضافة إلى حريّاتهم هي أيضاً إشكاليّة جوهريّة. ومسألة أنّ البلاد تدمّرت وسيكون من الصعب إعادة إعمارها في النفوس أكثر منه في المباني إشكاليّة جوهريّة.
كان رأس السلطة محقّاً في أمرٍ واحد: إنّ الدفاع عن الوطن لا يكون فقط بحمل البندقيّة، وإنّ الشعب السوريّ أغلبه موحّد، وأنّه يعي بدقّة مسؤوليّة كلّ طرف، ومن يتبع لدولٍ ومن بقي يحافظ على كرامته ويريد صون بلاده من إسرائيل كما من المتطرّفين... ولكن ليس من هؤلاء فقط بل من الذي أخذ البلاد إلى حلٍّ أمنيّ مجنون مدمِّر. الشعب لا يخطئ بالأولويّات، ويعرف حجم التحديات القائمة.
التفاوض ليس حواراً. والحلّ السياسيّ السوري - السوريّ يتطلّب مواجهة الإشكاليّات الجوهريّة وعبرَ الكثير من التفاصيل.
جريدة السفير