في أوائل السبعينيات نشر قطبٌ بارزٌ سابقٌ في وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة كتاباً تحت عنوان «لعبة الأمم: عدم أخلاقيّة سياسات القدرة». فضح هذا الكتاب الدور الذي لعبه مؤلّفه والأجهزة الأميركيّة في صناعة الانقلابات في سوريا كما في مصر، وسبل نشر القدرة أو القوّة الأميركيّة، الناعمة كما الخشنة، في مواجهة أممٍ أخرى كانت تتصارع على المنطقة، ليس فقط الاتحاد السوفياتي وإنّما أيضاً فرنسا وبريطانيا. حظي ذلك الكتاب بشهرة واسعة حينها، خاصّة أنّه أشار إلى أنّ الولايات المتّحدة ساعدت انقلاب 23 تموز/يوليو في مصر الذي أطاح بالملكيّة وجاء بجمال عبد الناصر وزخم حقبته الوطنيّة والقوميّة. واستخدمه مناهضو عبد الناصر زمناً طويلاً للنيل من نهجه السياسيّ، مع أنّ الكتاب اتّهم قوى سياسيّة محليّة رئيسيّة ناهضته، أنّها كانت مسيّرة من قبل أجهزة مخابرات لدولٍ كانت حينها تُعتبر حليفةً رئيسة للولايات المتحدة، ومن دون التفكّر في أنّ السياسة الأميركيّة لعبت دوراً أساسيّاً في وقف العدوان الثلاثيّ على مصر قبل أن تنتقل للمواجهة مع مصر حتّى نكسة 1967 المُهينة. يشير الكتاب أيضاً إلى كيفيّة خسارة سوريا تجربتها الديموقراطيّة مرّتين. الأولى في انقلاب عسكريّ وقّع الهدنة مع إسرائيل ومرّر أنابيب نفط عبر البلاد. والثانية حين ذهب ضباط سوريّون إلى عبد الناصر يطلبون الوحدة الكاملة مع مصر بعدما تصارعت أحزاب الفترة الديموقراطيّة دمويّاً، وهدّدت تركيا باجتياح سوريا إذا ما انضمّت لـ «حلف بغداد»، في حين دعمت الولايات المتحدة «البعثيين» بشكلٍ خاصّ. لا أخلاقيّة لعبة الأمم هذه التي تحدّث عنها مايلز كوبلاند تكمن في أنّ اللعبة هي صراعٌ بين قوى خارجيّة على بلاد، في حين أنّ اللعبة تجري بيد لاعبين محليّين، أبناء هذه البلاد، ورهانها هو بالضبط مستقبل بلادهم بل وجودها. بعد أربعين سنة، أدخل مستبدّ ورث سلطة لم يصنعها عبر تصرّفات رعناء تجاه الشعب والجيش سويّة سوريا في لعبة الأمم. ليس كدولة تحفظ استقرارها ووجودها ومكانتها، وإنّما كحلبة صراعٍ أمميّ تدمّر البلد وتفتك بأهلها وتشرّد مَن بقي منهم. صحيحٌ أنّ التطوّرات الاجتماعية والاقتصاديّة والذهنيّة في العالم العربي استثنائيّة وعاصفة، كما هي الانقلابات في موازين القوى الإقليميّة والدوليّة، وبالتالي هناك صعوبات جمّة للتعامل معها ليس في سوريا وحدها بل في المنطقة برمّتها والعالم، لكن الصراع الأمميّ والتطوّرات القائمة وخاصّة حياة المواطنين وأمانهم ليسوا بأيّ شكلٍ من الأشكال... لعبة. في المقابل، اختارت بعض أطياف المعارضة أن ترتهن للصراعات الأمميّة ولآليّات شبيهة بما تمّ لعبه في ليبيا، واضعةً مصير بلادها بيد حلفٍ تركي - قطري - سعودي - فرنسي - بريطانيّ، يحتوي تناقضات جوهريّة داخله ولا يوّحده سوى مواجهته إيران و «حزب الله» الذين ارتهنت السلطة لهما، فخرجت قضيّة السوريين من قضيّة الحريّة والكرامة والمساواة في المواطنة لتضحي ضحيّة مصالح الدول. لكنّ لعبة الأمم تخطّت جميع الخطوط الحمراء التي كانت مقبولة سابقاً، ليس في سوريا وحدها بل أيضاً في ليبيا واليمن وتونس والعراق وحتّى في مصر، حيث يبقى التساؤل لماذا تمّ ضرب السياحة عمداً في مصر بدلاً من التضامن معها ومساعدتها أمنيّاً وإعلاميّاً بعد حادثة سقوط الطائرة المدنيّة الروسيّة في سيناء؟ سئم السوريّون الصراع الأمميّ على بلادهم والقتل والدمار. بل فقدوا الأمل بأن تتوقّف الحرب قريباً، فهاجروا بأعدادٍ كثيفة بحثاً عن موطنٍ جديد، خاصّة بعدما عمّت الفوضى وبرزت «داعش» و «النصرة» وغيرها. وحده بروز توافق دوليّ جديد في فيينا لمّح إلى ضوءٍ في الأفق، كما الدعوة إلى توحيد التحالفين اللذين يدّعيان محاربة «الإرهاب» في سوريا والعراق، بعد الاعتداءات الإرهابيّة في باريس ولبنان ومصر. وأخذ كثير من السوريّين يحلمون بأنّ توافقاً دوليّاً يُمكن أخيراً أن يعي أنّ لحياتهم قيمة، وأنّ الأولويّة هي لإيقاف حرب الأمم عبرهم وهزيمة «داعش» و «النصرة». لكن في الوقت الذي يتمّ التحضير للتحالف الأوحد وبرنامجه العسكريّ، أسقطت تركيا طائرتين روسيّتين، بالضبط جنوب لواء الإسكندرون. ما يدلّ، مهما كانت الأسباب، على أنّ تركيا غير منسجمة مع التوافق الإقليميّ - الدوليّ قيد الإنشاء، ليس فقط مع روسيا بل أيضاً مع دول أوروبا الغربيّة. تماماً كما دلّت قبل ذلك الموجة الكثيفة للاجئين العابرين إلى أوروبا، من سوريين وغيرهم، لتعبّر عن سخط السلطات التركيّة على المسارات الدوليّة القائمة. فهل ترتبط المصالح التركيّة فقط بحماية «المعارضة» التركمانيّة المسلحّة أم هي أبعد من ذلك؟ الشعب التركي له علاقات أخويّة تاريخيّة مع سوريا. وسوريا احتوت موجات لجوء تركمانيّة خاصّة في عشرينيات القرن الماضي هرباً من قمع الحكومة التركيّة حينها. كما قدّم الشعب التركي الكثير للسوريين في أزمتهم. لكنّ سوريا لا يُمكن أن تكون مواليةً لتركيا في مواجهة إيران، كما لا يُمكن أن تكون العكس. كذلك لا يُمكن أن تكون سوريا موالية لروسيا في مواجهة الولايات المتحدة، ولا يُمكن أن تكون العكس. وهذا مضمون بيانات «فيينّا» كما «جنيف 1» كما قمّة العشرين الأخيرة، التي أصرّت على صون جيران سوريا لحدودها. وقضيّة تركمان سوريا هي جزء من قضيّة الحريّة والمساواة في المواطنة في سوريا، كما هي قضيّة أكراد سوريا وغيرهما من المكوّنات. هكذا تفجّرت، ربّما مؤقّتاً، محاولة فيينا لإيقاف لعبة الأمم على سوريا، وبالتالي لإيقاف الحرب كي يفسح المجال لما يسمّى حلاًّ سياسياً ولتوحيد الجهود لمحاربة «داعش» و «النصرة» والتنظيمات المتطرّفة. وأضحى أكثر صعوبة خلق توافق للمعارضة السياسيّة والعسكريّة لتوحيد جهودها للشروع بعمليّة تفاوضيّة لانتقال السلطة مع المحافظة على مؤسسات الدولة. لكنّ التأجيل الذي يفتحه هذا التفجّر يُعطي فرصة للنخب السوريّة للتفكّر في نوعيّة المشروع الذي ستدافع عنه في هذه العمليّة التفاوضيّة. أهو لمشروعٍ خطابيّ يدّعي الدفاع عن ثورة أحرقت لعبة الأمم أسسها أو للدفاع عن مصالح مجموعة من الدول في مواجهة غريمتها، أم لمشروعٍ يحافظ على وحدة سوريا وانتماء جميع مواطنيها إليها؟ لعبة الأمم موجودة دائماً. والمشكلة تكمن في انخراط اللاعبين المحليين لخدمة محاورها لا لصون وطنهم والدفاع عن أهله وعيشهم
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...