الأسود والأبيض/ هارولد بنتير تؤجمة:
صالح الرزوق
خاص ألف
2015-09-28
دائما أستقل حافلة الليل، لستة أيام في الأسبوع. أسير إلى ماربل آرك ثم أستقل بالحافلة ٢-٩-٤، و التي تقلني إلى فليت ستريت. و لا أتبادل الكلام خلال ذلك مع ركاب حافلة الليل. ثم أتوجه إلى الأسود و الأبيض في فليت ستريت، و أحيانا تحضر صديقتي. فأتناول كوبا من الشاي. هي أطول مني بقامتها و لكنها أنحف. و أحيانا تأتي و تجلس فوق الطاولة. دائما أحتفظ لها بكرسي و لكن لا يمكنك أن تضمني هذا في كل الأوقات. و لا أعترض إذا احتل كرسيها أحد. و بعضهم يدلي بملاحظات لا أصغي لها. أحيانا يضع رجل أمامي جريدة الصباح، النسخة الأولى. و يخبرني ماذا كان يعمل في السابق. و لكن أنا لا أزور الأماكن القريبة من ضفة النهر. مع ذلك مررت منها ذات مرة. و يمكنك أن تشاهد ما يحصل من النافذة لو أنك جلست عند الطاولة الأخيرة و ألقيت نظرة. غالبا تشاهد الشاحنات. دائما مسرعة. و غالبا نفس قواد الشاحنات، و لكن في بعض الأحيان تطرأ تبدلات عليهم. كان شقيقي منهم.
كان في السابق يعمل عليها. ولكن لا أحبذ الليل، بالأخص حين يخيم الظلام. دائما النور مشتعل في الأسود و الأبيض، أحيانا أزرق، و لا يمكنني أن أرى من خلاله ببصيرة نفاذة. و لا أحبذ البرد حينما يشتد علي. دائما الجو دافئ في الأسود و الأبيض. و في بعض الأوقات تهب عليه نسمات الهواء. و مع ذلك لا أرتدي قبعة. في الخامسة يغلقون المكان و ينظفونه. و دائما أرتدي تنورتي الرمادية و لفاحتي الحمراء، و لا تراني أبدا من غير طلاء الشفاه.
في بعض الأوقات تحضر صديقتي، و دائما معها كوبان من الشاي. و لو أن أحدهم احتل مكانها تخبره بذلك. هي أكبر مني و لكنها أنحف. و لو أن الجو قارس البرودة يمكنني تناول الحساء. أتناول طبقا كبيرا. و معه يقدمون شريحة من الخبز. و لكنهم لا يفعلون ذلك مع الشاي إنما فقط مع الحساء. و لذلك قد أتناول الحساء. لو الجو بارد. و بين حين و آخر يمكن أن ترى كل الحافلات و هي تذهب نحو وسط المدينة. كلها تنطلق إلى هناك. و لم أذهب طوال حياتي بالاتجاه الآخر. ليس الاتجاه الذي يذهب بعضهم فيه. لقد ذهبت إلى ليفربول ستريت. و هناك آخر الخط بالنسبة لبعض الحافلات.
هي يغزوها المشيب أكثر مني. و لكن الأنوار تبخس من عمرها قليلا. و في إحدى المرات وقف رجل ليلقي موعظة. و جاء شرطي. و اعتقله. ثم عاد الشرطي إلينا. و طلبنا منه مباشرة أن يدعنا و شأننا، و لم تقع عيني عليه بعد ذلك. هذا ما قامت به صديقتي. و لم يظهر بعد ذلك أحد منهما. ليس هنا الكثير من رجال الشرطة. قالت له صديقتي أنا كبيرة بالعمر و لن أتورط معك. فسألها:حقا؟. قالت له: أكبر منك و لا أناسبك.
لا مانع عندي، ولم يكن حولنا صخب مرتفع، إنما دائما القليل من الضجيج.
وفي إحدى المرات جاءت سيارات أجرة.
لم تكن تحب القهوة. و لم يسبق لي أن شربتها.
شربت القهوة في إيوستون، مرة أو اثنتين، في طريق العودة. و أحب حساء الخضار أكثر من حساء البندورة. و كنت أتناول طبقا حينما رأيت على الطاولة أمامي هذا الرجل،يغط بالنوم. و لكنه كان يتكئ على كوعيه، و يحك رأسه. و كان شعره يتساقط من رأسه في الحساء، كان ينام مثل ميت. سحبت طبقي بعيدا. و لكن في الخامسة أغلقوا المكان لتوضيبه. و لم يسمحوا لي أن أبقى. و صديقتي لم تكن تحب أن تبقى. لو أنها حاضرة. لم يكن بوسعي شراء كوب شاي. طلبت كأسا لكنهم لم يسمحوا لي بالجلوس. و لا حتى لو رفعت قدمي عن الأرض لتنظيفها.
مع ذلك لا يزال لدينا أربع ساعات. فهم يغلقون لساعة و نصف. و بمقدورك المغادرة إلى الضفة، و لكن لم أذهب إليها إلا مرة واحدة. و دائما معي لفاحتي. و لا أتخلى عن طلاء الشفاه. و أنظر نحوهم. مع ذلك لا يحفلون بي. يهتمون بصديقتي و في إحدى المرات حملوها معهم في الشاحنة. و لم يتأخروا بها. و لكنها تزعم أنهم افتتنوا بها. لم يسبق لي أن رافقتهم لشيء من هذا النوع. على الإنسان أن يحتفظ بطهارته.
و لكنها لم تحتمل ما يجري في الأسود و الأبيض. ومع ذلك هم لا يلحون. أرى نظراتهم. و في معظم الأحيان يكفون النظر. و لا أعرف هناك الكثير من الناس، فقط القليل ممن ألتقي بهم في الجوار. دخلت امرأة بقبعة سوداء ضخمة و بوط أسود كبير. و لم أحاول أن أحزر من هي. مرر إليها جريدة الصباح. المسافة ليست بعيدة. يمكن أن تنصرفي و تعودي بسهولة. حينما يشرق الضوء أغادر. و صديقتي لا تحب الانتظار. تغادر فورا. و لا أعترض على ذلك. و لكن انتابني بسبب أحدهم الغثيان. وصلوا بمعطف من الفرو في إحدى المرات. و حقنونني بحقنة. كما قالت. إنها وايت هول. كل شيء مرتب. و يمكن أن يحسبوا عليك أنفاسك. و قد تكون الحقنة أذنية. و بعد ذلك وصلت صديقتي. كانت عصبية قليلا. و لزمني وقت لتهدئتها. سيحملونها معهم. و حينما يشرق الضوء سأغادر إلى ألدويش. و هناك يبيعون الصحف. فقرأتها. و في صباح سابق ذهبت قليلا إلى جسر واتيرلو: و شاهدت آخر حافلة رقم ٢-٩-٦. لا بد أنها الأخيرة. و لكن لم تكن في ضوء النهار تشبه حافلة الليل.
هارولد بنتير Harold Pinter: كاتب مسرح بريطاني. حاز على نوبل في الآداب.