العاطفة و الرموز في الشعر- لقاء مع الشاعر الأسترالي موراي ألفريدسون/ ترجمة و إعداد:
صالح الرزوق
خاص ألف
2015-11-30
بعد جولة من الحوار مع الشاعر موراي ألفريدسون Murray Alfredson عن الجرح الفلسطيني بشكل عام و مضار الصهيونية السياسية على السلم العالمي، نتابع معه حول المباشرة و الرموز في الفن. و ضرورة أن يكون للشعر وظيفة جمالية و أخلاقية في وقت واحد.
س: قرأت فلسطينياتك الشعرية. بمعظم الحالات هي مباشرة و لا تؤكد على اللعب بالصور و الخيال لو قارنتها مع القصائد غير السياسية. لماذا؟. و برأيك ، بمعنى من المعاني، من هو "الأصح" فلسطين أم إسرائيل؟.
ج: نعم. لدي قصائد سياسية و غالبا لا أكتب بهذا النوع. مع ذلك، أتوقع أن أزيد من مساحة السياسيات في حالة بعض القصائد التي أفكر بها لمناقشة مسائل لها علاقة بالمناخ و أمن الطبيعة.
وأيضا نعم، في بعض الأوقات استعملت صورا يتنامى فيها الخيال من أجل تراكيب رمزية و لا سيما في القصائد الموسيقية. و لست متأكدا في حال بعض القصائد التي لها علاقة مباشرة بالموضوع السياسي و المشاكل العسكرية و الحروب، أنه توجد مساحة في خيالي و تصوراتي للرموز. الخيال المباشر و الاعتماد على الصور بحد ذاتها من غير محسنات بديعية و بلاغية و من غير استعارة و كناية، تحتمل برأيي التعبير عن سلطة المعنى بلا وسائط.
بعضهم يتهمني أنني منحاز في مقاربتي و كتاباتي هذه لما يمكن أن نسميه "الأرض غير المقدسة". و يجب الإقرار على الأقل نوعيا، أن قصيدتي عن غزة و غيرها تضع ثقلها في معظمه ضد إسرائيل. و هذا أساسا لأنني كما أرى، إسرائيل حاليا تمسك السوط بيدها. فهي تمتلك ترسانة أسلحة مدمرة، و مستعدة لاستعمالها على نطاق واسع. و بالنتيجة، حين نلجأ للقوة، ستكون المعاناة و الآلام من حصة الفلسطينيين. بينما معاناة الإسرائيليين محدودة بالمقارنة. و لهذا السبب، كان موقفي عدائيا ضد إسرائيل. الإسرائيليون هم الأقوى؛ و لذلك عليهم تجنب الخراب و أن يقوموا بخطوة ذات معنى لتحقيق السلام، و توفير شروط كريمة. لقد فقد الفلسطينيون الكثير و ليس من المستغرب أن يحملوا حقدا و اشمئزازا عرقيا. هذا جزء من حكمة بوذا، و هو تفكير شائع بين قدماء اليهود و لا سيما في أقوال و أمثال كتابهم المقدس. فالكراهية تولد الكراهية، و لذلك لا بد من خطوات شافية لتبديد الغضب و الحقد. و في النهاية لحل المشكلة، لا بد من خطوات حكيمة و متأنية. و ينتابني الإحساس أن إسرائيل هي الطرف القوي في المعادلة و هي التي تبدل الميزان، و عليها أن تكون عادلة. مهما كانت المبررات، لا يوجد صلح بإغلاق غزة و حصارها أو باستعمال سياسة زحف المستوطنات حتى تغطي كل الأراضي المحتلة في الضفة الغربية و حتى تسد منابع و مصادر المياه.
لدرجة كبيرة كانت طريقتي في تلك القصائد تحويل البلاغة و الكود الأخلاقي في كل طرف. و كما قال شيللر: الشعر العاطفي أو الانفعالي يعزل نفسه من السطحية، بتعويم الفكرة ضد الطبيعة، عوضا عن وصف الطبيعة، فتلك الفكرة في كل حالة هي النظام الأخلاقي الذي يرافق اسميا كل طرف. و في حالة حماس، لم أقر أن حماس تتصرف بحماقة ( مع أنها لسبب أو آخر تفعل ذلك) و لكن تلك الحماقات هي على النقيض من التعاليم الأخلاقية التي يبشر بها الجهاد، سواء بالمعنى السياسي أو العسكري، و كما وضع القرآن أسسها. و لذلك إن بلاغتي في التكرار تتبنى هذا السؤال: هل هذا هو الجهاد؟.
وفي حالة الإسرائيليين، أنظر إليهم من خلال حقيقتين متلازمتين: الصدمة الهائلة التي تلقاها الأطفال اليهود الذين مروا بالمحرقة النازية، و نفس الصدمة التي ألحقوها هم بالذات بالأطفال الفلسطينيين في غزة، و كذلك كنت أتكلم بصوت يشبه لغة نبي عبراني قديم. إن البروباغاندا الإسرائيلية حول المقاتلين الفلسطينيين الذين يستعملون شعبهم كدروع بشرية، و حول الضفة الغربية بخصوص التوازي الغريب مع ألمانيا النازية التي تبحث عن فضاء حي Lebensraum لشعبها بالزحف شرقا Drang nach Osten. ذلك في كل الحالات بلاغة مرة في الواقع، و سخرية مسمومة و ثقيلة و بعيدة جدا عن روح الفكاهة.
حسنا، بودي أن أقول إن الشعر المباشر يناسب مثل هذه الموضوعات ربما أكثر من صوتي الاعتيادي الغنائي (و لكن هذا ليس دائما و توجد استثناءات). و شعراء آخرون مثل أوين أو ييتس استفادوا من الطرق الرمزية للكتابة شعريا عن الحرب.
أما من هو "الصحيح" بمعنى من المعاني: فلسطين أم إسرائيل؟!!..
أرى أن كلا منهما ليس صحيحا و لا مزيفا. و كما ذكرت سابقا، علينا أن نستغل ذلك بقدر استطاعتنا. أو على الأقل، على الفلسطينيين و الإسرائيليين أن يفعلوا ذاك. و بعض الحوافز من الولايات المتحدة قد تساعد. ما دام ذلك يحسن موقف إسرائيل و يحررها من وضعها الحالي الجامد و المتصلب.
س: و الآن إلى تجربتك الشعرية. إلى القصائد التي تبدو لي مكثفة و عاطفية و أكثر تدفقا. و تغمرها عاطفتها من أخمص قدمها إلى رأسها..
ج: نعم، ربما لديك ملاحظة موفقة أن شعري السياسي ليس ناجحا مثل قصائدي الشخصية. هذه القصائد تبدو ذات خصوصية أعمق، و أشكرك على هذه الملاحظة.
بعض قصائدي تستخدم الصور بطريقة ناعمة. و غالبا أحاول ( بعكس القصائد السياسية) أن أقود صوري باتجاه الرموز. في حالات مغايرة، و لا سيما قصائد الطبيعة، يبدو أنني ألاحظ في النباتات و الحيوانات التي أشاهدها بالصدفة، سلسلة من القيم و التي نحن بنو البشر لا نحدد هويتها، و تكون أولوياتنا الإنسانية قليلة الأهمية. يمكن للنحلة أن تحصد الرحيق من الزهور التي نرى أنها أعشاب ضارة. و فكرة العشب ليست هامة في حياة خلايا النحل أو مستعمرات النمل. و الكنغر لا يهتم بالنباتات التي يربيها الإنسان في حديقته. هو يلتهمها بسعادة لو وجد أنها غذاء نافع. و لذلك أستعمل كلمة " يشذب" للدلالة على كنغر رمادي يأكل نباتات يمنحها الإنسان قيمة جمالية في حدائقه.
لكن طبعا بعض الحيوانات، و لا سيما الأليفة و التي تشاركنا الحياة في المنزل، لديها أسلوب خاص في تأملنا و التعرف علينا أكثر بكثير مما نفكر بها نحن بني الإنسان. فكلب أو قطة العائلة يفهمان الإشارات، و في الواقع ينتظران إشاراتنا. و يبدون حيالنا الاهتمام. و أتذكر كلبين هرعا نحوي حينما سقطت و أصبت بجروح. لم يكن بمقدورهما المساعدة. و لكنهما أبديا الاهتمام. و كتبت قصيدة في الماضي عن هرة والد زوجتي، ذلك أنها اختبات تحت البيت حينما توفي. و بقيت مختفية إلى أن أعيد رماده إلى البيت.
لقد قفزت بقوة نمرة على علبة الرماد. نعم، نحن نقلل من ذكاء الحيوانات، حتى تلك ذات الأدمغة الصغيرة كالطيور.
عنوان قصيدتي " امتلاك"، و هي عن بطة سوداء و بنية. كانت بين بطات مثلها. إنها لا تفكر بالفروق العرقية أو العنصرية، لا تشعر بحاجز اللون. يمكن أن نتعلم من الحيوانات أشياء كثيرة عن اهتماماتنا البشرية.
مثل هذه الأشعار، لديها مسافة و مفارقة خاصة بها، و يمكنها أن تكون ساخرة قليلا و بطريقتي. و غيرها يمكن أن تكون عاطفية، مثل المرثية الطويلة عن موت الأخوين التوأم، و لا سيما في حركتها الافتتاحية، حيث استخدمت الجسم القوي كاستعارة للرئة الممزقة.
حتى بعض قصائد الحب عندي يمكنها أن تكون بعيدة. بعضها مغرقة بالعاطفة، مثل "قصيدة حب"، و التي تستعير شعريتها من غوتة، و تستعمل الرمز التقليدي للنار في كل الفقرات تقريبا:
اللهب المستعر يغوص فينا، و يدور حول الفحم المتوهج: يبرق،
فننفصل
ثم نستلقي معا، و ندمدم بكلمات دافئة،
و نربط القلب بالقلب.
الشعر و الموسيقا، عذبا المذاق مثل احتراق البخور،
يتأرجحان مع الوقت
و تحملهما موجات النوم التي تهز أنفاس أربع رئات
تنتهي بقافية.
أو في "أغنية القرط":
أنت زنزانة
و قيود
تمسكني.
مع ذلك أخبرها
كيف أرتدي أقراطها بحرية،
و أنشد كم أنا سعيد
، أنا سجينها،
لقد سمحت لعشقها
الذهبي أن يغمرني.
و لكن أشعار حب أخرى أقرب قليلا من الأبعد كثيرا، كما في قصيدة " بمقدور الحب أن يلطم"، و هي أصلا تقدم تحذيرا:
يمكن للحب أن يلطمنا كأنه حجرة تطير،
أو صداع كوني، قال أحدهم،
أو شعاع من الضوء ثم ألم، بعده المرض.
عن التقدم بالعمر، تكلم المنشدون، و عن سهام اللحظ الناري
حين تنطلق من قوس الحواجب المشدودة: فتلتهب النار،
و تنفجر داخل الدماغ و الغدد السفلى.
القلب يجلس في منتصف المسافة بين النبضات المتسارعة.
سنة أو ثلاثة من العبادات، و النار تحرق بلا رحمة.
لا تهمل تغذيتها بشيء من التروي
بالوقود الصلب حتى تبني كهفا من الفحم الأسود
في النهاية لا يبقى غير الرماد في العيون لتذروه الرياح.
س: لننتقل إلى آلية الكتابة عندك. من أين تبدأ فكرة الكتابة عندك؟.
ج: يمكنني القول إنها تبدأ من لامكان. و أحيانا تستغرق وقتا طويلا لتنضج قبل أن أبدأ في الكتابة؛ و أحيانا تنضج تقريبا فورا. و أيا كان الأمر أحتاج بالعادة كي أبدأ لزاوية أو ركن لتسهيل الاندماج بالذات و سهولة التعبير.
وقصيدتي القصيرة عن ببغاء بتاج كبريتي اللون، جاءتني حينما واجهت سربا منه. غالبا كنت أصادف أسرابا من هذه الطيور و كانت طريقتها الصاخبة تدهشني. و كذلك تبين لي أن عددا غفيرا من الناس لهم مواقف سلبية تصل لدرجة البغض من تلك الطيور. على الطبيعة بطريقة ما أن تكون "هادئة" و "مريحة". و قد ارتفعت أصوات غاضبة ضد هذه الطيور. و طالبت الإدارات المحلية بطردها و إلا فعلوا ذلك بأنفسهم، أو قتلهم. هذه المواقف لم يمض عليها فترات طويلة، مع أنها لو فكرت بها لا تختلف عن الأطفال في باحة اللهو. بهذه الشرارة الجانبية من الأفكار، التشابه و الاستعارة، اجتمعت كل خيوط الماضي و الحاضر من ردود الأفعال و المواقف، ولم يبق إلا كتابة القصيدة:
بعضهم يدعي أن الاسم
ليس من ريشات صفر مشرقة
يربونها مثل سادة مهذبين،
و لكن من مواد
تحترق بلهيب أزرق و حار و يذوب
بلون أسود و يسيل بتيار متماسك.
و في أسراب بالمئات،
نعم، صراخها الثاقب
يحزم المساحات المفتوحة بالضوضاء.
و ها أنا أقف
و أصيخ السمع لباحة المدرسة
أحاديث تدوي، و ها أنا أبتسم في قلبي.
و لكن توجد حالة أقل نضجا. قدمتها في قصيدة جهزتها في يوم واحد، قصيدة تشعر بها و تكتبها فورا. إنها تشرح نفسها بنفسها.
- رسالة من السماء
في القبطان سال تيار أفكار مقدسة
و آمن أن الرسالة تأتي من الله؛
كتب بالضباب على السماء:
يسوع يحبك
و لكن لعلملك: العالم من
عنصرين هامين، الريح و الحرارة،
و في عشرين دقيقة كل شيء يهب بعيدا
و معه قناعة الإنسان الأبدية.
برأيي تلك القصيدة مفهومة، و السطر الأخير يحول المعنى المجرد إلى رموز متحولة، الحقيقة الروحية العميقة للظاهرة، التي نقلها إلينا بوذا. و طبعا، ما ننظر إليه على أنه حقائق دينية دائمة لا يمكن اختزالها.
ولكن الانفراد بنبرة خفيفة ساخرة قد تضر بمشاعر الذين يؤمنون بالطريق الروحي. ولذلك قررت كتابة قصيدة عن ذلك الموضوع، و يكون لها على الأقل بين الناس الذين تكلموا الإنكليزية أرض محايدة مشتركة. و هذا هو منبع قصيدة "عن الآلهة و الحقائق" حيث عدت أدراجي إلى دين مات من ألوف السنوات، و لكنه تطور و تبدل على امتداد ٣٠٠٠ عاما تقريبا. و في النهاية تناولت الإله آمون كمثال عن مصر القديمة. ثم انتقلت إلى ديني الخاص. و تنبؤات بوذا أن الداما سوف تتفكك و تختفي، و تزول لتلتحم مع الشريك الذي ينادي، واستعملت الغيوم التي تختفي في يوم صيفي حار كرمز لهذا التلاشي:
احذر كي لا تقول عن الحقيقة إنها أبدية؛
في طبقات سماء الصيف تذوب الغيوم المتوهجة.
وتابعت و كتبت قصيدة أطول سميتها " غسق الآلهة"، و لم أتمثل هنا الأوبرا الفاغنرية، و لكن ثلاث رموز إلهية، رمز مصري هو أوزيريس و إيزيس، و الإله الجرماني فودين Óðinn ( لفظه الإنكليزي بمعنى متخشب)، و كريستوس بانتوكرايتور Christus Pantocrator و الذي هو في الغرب على الأقل وخلال حياتي يحمل علامة تدل على الانحسار. إنها ثلاثية تتدفق على امتداد ٥٠٠٠ عاما من تاريخ الإنسانية. و من خلال التاريخ يمكننا ملاحظة مصير الحقيقة البشرية المحتوم.
تشرين الأول