التبشير مُعطِّلاً
خاص ألف
2016-01-01
إن اشتغال الإنسان بالمجهول واللزومية الطبيعية لإيجاد صيغة تربط الإنسان الفرد بهذا المجهول وترتيب علاقات محددة حياله وحيال بقية الأسئلة الكبرى في حياة المرء يجعل منه ثيمةً أساسيةً في تركيبة الإنسان، إلا أن الاشتغال بهذه المسألة الجوهرية وترتيب حيثيات هذه العلاقة يأخذ في معظم الأحيان صيغة مفترضة تنطبق بموجب واقعة الولادة والنشأة، فلا يُذهِب فيها المرء كبير جهدٍ، بل يتبنى الصيغة الموجودة والمعمول بها في الوسط الأقرب والأكثر تأثيراً وهو وسط العائلة والعشيرة، وهذا التبني هو جزء من منظومة أكبر تشمل العادات والتقاليد و الأعراف و فكرة الأخلاق العامة؛ وبالتالي لا حاجة للسؤال –على وجه التحديد- عن سبب هذا التبني التلقائي والقبول الطبيعي للإفتراضات السابقة، والمتعلقة بعلاقة الإنسان بالمجهول، والمعمول بها في الوسط التي ينشأ فيه المرء، وإذا كان ثمة سؤال، فالسؤال سيكون أوسع ليشمل السؤال عن السبب الأعمق في حصول هذا التبني، والبحث في هذا السؤال سيكون بمثابة جسر إلى مسألة أخرى، فهل فعلاً يتبنى الإنسان؟ أقصد ما كنه هذا التبني؟ هل هو بمثابة عملية ذهنية خالصة يعملها الإنسان لتفضي به إلى إقرار هذا التبني؟، وعلى الرغم أنه لا يمكن تقديم تأكيدات حول هذا المسألة، فإنه من شبه المؤكد أن الأصل في الإنسان أنه يستقبل هذه المنظومة بشكل طبيعي وتدريجي من المجتمع المحيط به، دون أن يعمل حيالها العقل الواعي، لأنها مع مرور الوقت تكون بالنسبة له بمثابة الحقيقة المتعالية على السؤال والشك، وإلى هذا المنتهى تكون المحصلة هي تماثل يصل إلى حد التطابق بين المؤمنين/البشر، وسأحصر هذا التماثل في مسألة محددة والتي سأسميها تجاوزاً بالمسألة الدينية، وبالتالي سيخرج من هذا الحصر مسألة التقاليد والأعراف والأخلاق العامة، وذلك على الرغم من صعوبة الفصل بينها وذلك بحكم حقيقة التداخل والتشابك.
إن المقصود بالمسألة الدينية هي مجموعة الأفكار التي تتضمن اشتغال الإنسان بسؤال المجهول وترتيب علاقته معه ومع الأسئلة الكبرى في حياة الإنسان ... "من، لماذا، كيف، إلى أين؟"، وعليه فإن هذا المصطلح من السعة بمكان بحيث يسع الإنسان بمختلف توجهاته ومعتقداته، وهو بكل تأكيد يسع أؤلئك النافرين من أشكال البنى الإيمانية التقليدية، الذين يحاولون النفور وعدم الإشتغال بالأسس الطبيعية في هذه البنى كفكرة وجود الرب وسلطانه وتدبيره؛ على اعتبار أن محاولة عدم الإشتغال بهذه المسائل ودفع هذه الأفكار هو إشتغال بها بصورة من الصور، ومن ناحية أخرى، أن إستبدال تلك الأفكار بأخرى، حتى وإن كانت عدمية، فإنها تشكل بشكل من الأشكال ترتيب لعلاقة الإنسان مع المجهول و تفاعله مع الأسئلة الوجودية الكبرى؛ وهذه الملاحظة تمككنا –في هذا السياق- من تصور ترادف بين لفظة المؤمن وبين لفظة الإنسان، فكل إنسان هو مؤمن بصورة من الصور.
إن التبني الطبيعي/المعتاد للمسألة الدينية لا يشكل، من حيث المبدأ، حالة أصيلة، أخذاً في الإعتبار الطبيعة الحقيقة لهذه الحالة؛ فالأصل أن هذه الحالة في جوهرها هي حالة فردية ذاتية محضة، حالة خاصة مغرقة في خصوصيتها، وبهذا الإعتبار، فإن قوة هذه الحالة و درجة أصالتها يقاس، إفتراضياً، بمدى تفردها وعمقها، وإنكفائها على ذاتها، وتحقيقها لتفردها، وبمدى الحضور المستمر و الواعي للحقيقة الفعلية لهذه العلاقة، وبشكل دقيق هي مخاض مستمر و واعي، مخاض يأخذ حيزه في أعماق النفس السحيقة، هو أشبه بمعارك وضوضاء داخلية، إشتداد أوارها يتجلى في سكون ظاهري في طبيعة المرء، لأن المرء يكون عندها متقلب في أحوال داخلية، تجعله يشتغل بنفسه عمّا سواه، وهذا السكون الخارجي ذاته هو أساس لعين المحبة التي يبصر بها المؤمن، وهو بذرة لقابلية فعل الخير والعطاء تجاه الغير/الآخر.
إن الفعل الواعي للتوجه بخطاب مباشر أو غير مباشر تجاه الآخر/الغير –كل من ليس أنت- والذي يتعلق بالحالة الدينية ينتقص بصورة معينة من أصالة الحالة الدينية، إن التبشير في جوهره شكل من أشكال الإغراء، إغراء الآخر ببضاعة من نوع خاص، فعل الإغراء دائماً ما يكون مبطن بالتوق إلى تحصيل قبول الآخر لهذه البضاعة، وهذا بغض النظر عن السبب المحرك لفعل الإغراء، والذي قد يكون الرغبة في الأجر الأخروي كما نجده في أشكال الإيمان المعتادة أو حتى الرغبة في نشر الثقافة التي تقوم على إعلاء الأخذ بالأسباب المادية والأدلة والمناهج العلمية بحسب المبشرين بالإلحاد، ... ألخ. وقد يتخذ سلوك الإغراء شكل الرغبة والحرص في تقديم الذات للآخر بصفتها مؤمنة بشكل محدد من الإيمان، وهو نوع من الإغراء الغير المباشر، وهذا النوع -بصورة ما- هو أقرب ما يكون إلى السلوك الطفولي الذي يقوم معه الطفل بالتبجح أمام أترابه بما يملك وبالخصائص والمميزات والأشياء التي يتمتع بها، وهو سلوك هدفه الأساسي إيقاظ الآخر وتنبيهه إلى النقص والفقد الحاصل عنده فيما يتعلق بهذه الأشياء، وبالنسبة للمبشر، فإنه يعتقد بأن الشعور بالفقد والنقص الذي قد يشعر به الآخر نتيجة لفعل الإغراء غير المباشر قد يؤدي إلى تحفيز هذا الآخر وإيقاض الرغبة في ملأ هذا النقص والفقد بقبول بضاعة المبشر، سيما وأن هذه البضاعة لا تشترى بالمال، بمعنى أنها قابلة للتداول والتملك من قبل أي راغب بها.
والآن كيف يمكن أن يكون التبشيرمعطلا للحالة الدينية؟ أو بصورة أدق كيف يمكن أن ينتقص من أصالتها؟، إن فعل التبشير في عمقه يتجه بصورة معاكسة لطبيعة فعل الحالة الدينية الأصيلة/الفريدة؛ ففي حين أن التبشير يتجه إلى الخارج صوب الآخر/الغير في محاولة للإغراء والإقناع، نجد أن الحالة الدينية الأصيلة دائماً ما تتضمن محاولة أعمق للإنكفاء والإرتداد والإنشغال بالذات، والإنشغال بالمخاض المستمر التي تفترضه، والذي يتطلبه الوعي المستمر لطبيعة الحالة الدينية ومقتضياتها، بحيث يصبح المؤمن في حالة مستمرة من المحاولة لبلوغ معرفة أعمق، إن التبشير يسهم بصورة معينة في إشغال الإنسان بالآخر عوضاً عن الإشتغال بالذات، في الإهتمام بالسطح عوضاً عن التركيز على العمق، وبإزدياد حرارة التبشير تنتقص عمق الحالة الدينية، ويجب الإشارة إلى أن أصالة الحالة الدينية أمر لا يتقاطع أو يتعارض مع صدق الحالة، صدق الإيمان، والإخلاص في المعتقد، فالصدق والإخلاص يفترض عاطفه مسلمه بحقيقة هذا الإيمان، ولا يفترض بالضرورة وعي عميق ومخاض مستمر ورغبة نابضة وتوق دائم في المعرفة والإدراك.
ولكن، ألا يمكن الجمع بين أصالة الحالة الدينية و بين فعل التبشير؟ هنا يجب التنبيه إلى أن القصد من التعاكس الذي قد يحدث بين فكرة الأصالة وفعل التبشير لا يأخذ معنى التناقض الفج، وإنما المقصود هو أن إجتماعها يطلق مخاضاً يؤدي إلى هوان أحدهما بصورة تدرجية لمصلحة الآخر مع مرور الوقت، والأغلب أنه لمصلحة فعل التبشير، والسبب في ذلك، أن التبشير يفترض وجود مضمون معين "المبشر به"، ويستتبع ذلك تقديم خطاب تبشيري فيه نوع معين من الإستقرار والإتزان والثبات، ومن ثم وجود المبشر الذي يقوم بدور التبشير/الإغراء/الدعاية، ويفترض فيه جهوزية مستمرة للدفاع عن هذا المضمون أمام كل الحجج المضادة والمعاكسة، وبغض النظر عن قيمة هذه الحجج أو حتى جوانب الصحة التي قد تحبل بها، فإن موقف المبشر ثابت ومتركز على تدعيم مضمون التبشير، وبالتالي تكون هذه هي معركة السطح، المعركة التي من شأنها سرقة الأضواء من معركة الأعماق، والتي ستعلو ضوضاءها على ضوضاء الداخل؛ ذلك أن مخاض الداخل نابض متحرك، يفترض خطوات للأمام، وأخرى للوراء، الشك والتيقن، القبض والبسط، البساطة والتعقيد، النظر وإعادة النظر، إطلاق العقل وتحرير النفس، وكل هذا المخاض ينتج عنه حالة أكثر عمقاً.
إن هذه المقالة لا تفترض وجود حالة دينية أصيلة محددة تحديداً دقيقاً، إذا لو فعلت لوقعت في مغالطة؛ وذلك أنه من الصعوبة بمكان تحديد المعالم الدقيقة والمقياس الصحيح لهذه الحالة، وهي لا تفترض كذلك أن الحالة الأصيلة تقف على النقيض من حالة دينية هزيلة، أي بمعنى أن كل حالة دينية غير أصيلة هي حالة دينية هزيلة، لا؛ وإنما المعنى الأدق هو أن المقصود بالأصالة في هذا الصدد هو العمق، وبالطبع هي فكرة غير محددة بشكل دقيق، إلا أن ثمة توقعات يجب أن تكون حاضرة في أي عمل يمكن وصفه بالعميق، ويترتب على ذلك أن مفهوم الحالة الدينية ليس مفهوماً جامداً ثابتاً، وأن فكرة الأصالة بحد ذاتها يمكن تلمسها وإدراك وجودها حتى وإن كنا لا نستطيع تحديدها بشكل دقيق، ويكون فعل التبشير –بالمعنى المطروح في هذه المقالة- مؤشر جيد لاستكناه وضع الحالة الدينية.
ولكن إذا كانت إرادة التبشير يغلب عليها أن تكون أساساً في طبيعة البشر؛ فما الذي تقترحه هذه المقالة حيال موضوع التبشير؟ لقد سبق وأن أشرنا بالترادف –في سياق معين- بين لفظتي "إنسان" و "مؤمن"، وها نحن ذا نضيف مرادفة جديدة وهي "مبشر"، ويقف خلف إراة التبشير إرادة التشابهة والتجانس مع الآخر، أو بالأحرى تجانس الآخر مع المبشر أو تابعيته له، وهذا الأمر يشمل كل أمور الإنسان وأنظمته وتجاربه ولا يقتصر على المسألة الدينية، نعم توجد تلك الرغبة؛ وبالتالي هل تقترح هذه المقالة إلغاء مزية أساسية في تركيبة الإنسان؟ وهل هذا ممكن إبتداءً؟ وهل تقترح نهاية للتبشير على اعتبار –بحسب إدعاء المقالة- بأنه معطل لوجود حالة دينية أصيلة؟ والإجابة هي بالطبع أنه لا يمكن إلغاء هذا الأمر الجوهري في طبيعة الإنسان، و بناءً عليه أيضاً، لا يمكن الحديث إطلاقاً عن "نهاية التبشير" في السياق الديني، ومن ثم فإن الحالات الدينية الأصيلة –بالمعنى المشار إليه- تكون دائماً إستثناء أمام الحالات الدينية الأخرى الجماهيرية، والتي يكون معظمها حالات صادقه ومخلصه في إعتقادها.
08-أيار-2021
03-آب-2019 | |
19-آذار-2016 | |
01-كانون الثاني-2016 | |
14-كانون الأول-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |