لوح ساننتياغو
خاص ألف
2016-03-19
حبيبتي مليكة الفؤاد، شذى
انقضت أسابيع ثلاثة منذ آخر رسالةً أرسلتها لكِ، وأنا فيها –الأسابيع الثلاثة- قطعة خشبية تلعب لعبة الجنون والنشوة على أمواج محيط غاضبة، نعم غاضبة، أليست أضعف الأشياء وحدها القادرة على تركيع الشرور الكبرى إن هي أدركت مواطن القوة فيها؟! وألم تودي بالنمرود البعضوضة؟، ألا يحق للأمواج الغاضبة أن تجن حمقاً، وأن تزفر غيضاً، وجبروتها الأحمق ينقلب خاسئاً وهو حسير أمام قطعة خشبية ضعيفة!
يا حبيبتي شذى، لقد روى فما روى الأجداد عن خبر هذه القطعة الصغيرة، قصةُ مكمن السحر فيها أنه لا يفهمها إلا الذي يفهمها، ولا يفهمها إلى من تلبست روحه شخوصها، فتصاب الروح بلمسة من سحر، تسمع بها الروح ما لا يسمع، وترى ما لا يرى، عندها لن يكون عجيباُ أن تدمع العين لا من شئ، كما أفعل أنا هذه اللحظة!
نعم، على ساحل صور، استيقظ العجوز وقرر أن يبني سفينةً، دفع سبع سنين طوال من عمره ثمناً لهذا الفلك، تأملها من بعيد، أحس بالحزن والفرح وهو يفكر في اللحظة التي يتركها لتطير ما بين الأزرقين، وبالألم الذي يعتصر الأب المفارق لابنه قرر أن يكتب تعويذة، لترافق الفلك حيث حل وسار، تضمن له السلامة بترتيباتٍ ماورائية لا يعلمها إلا الذي يعلمها؛ فاقترب العجوز من مركبه ممسكا بمطرقة النحت ومسماره، فكانت "يا حامل الأروح في الألواح ومسير الفلك بغير جناح و ...."، ولم يذكر الرواة تكملة التعويذة، وأنّى لهم؟ إنهم قوم لا يفقهون.
وثم ماذا؟ لم يسمع أحد بذلك المركب الجميل، إلا أن أهل البحر في صور تزعزع إيمانهم في تلك التعويذة، ولم يفسح مارد الزمان للعجوز أن يختبر تعويذته تلك، لأن العجوز أفلس من السنين فما بقى منه إلا ما تبقى من مركبه، وأجمل ما في الأمر يا حبيبتي أن الذكرى لا تنطبق عليها ظروف الزمان؛ فتبقى فاتنة جذابة ما تبقى المتذكر!.
وترتحل قطعة الخشب بنصفة تعويذتها عبر الجغرافيا، تناست الزمان وتناسها، فتتقدم هي جهة "خليج غولد ستريم" صوب "سانتياغو"* في يوم الانتظار السبعين، يلمحها العجوز وتلمحه، يتقدم نحوها وتتقدم إليه، يتناولها فتستقر في يده، يعاين تعويذة لغة الضاد "يا حامل الأروح في الألواح، ومسير الفلك بغير جناح..."، فيألفها، وتوقض في أعماق روحه ابتسامة غريبة، تحمل في ما تحمل من معانٍ أن ثمة قادم، وأن ذاك القادم سيأتِ ولن يأتِ كاملاً، فتمر الثمانون يوماً، ويأت الموعد، فتأتِ السمكة الكبيرة، فتشرّق بسنتتياغو وتغرّب، ولأول مرة في عمر الشيخ العجوز يرى خصمه رافعاً علماً أبيضاً، فيجر بخيلاء المنتصر رهينته جراً، وهنا حدث ما هو متوقع، لقد لاحظ الزمان الخبيث سنتياغو، فأبى إلا أن يقاسمه مجده، أو أن يكدر طراوة ذلك المجد؛ فتتدافع أسماك القرش تنهش و تنهش، عبثاً سارت لعنات سينتياغو على علوج الزمان، ولم يبق من السمكة الكبيرة شيء، تبقى المجد! تبقى العظم!، ما الذي تبقى؟ ما المجد؟ ذكرى؟ تبجح؟ رضى يصادق عليه البشر؟
شذى وأحمد، ما الذي يربطنا بالبحر، والقطعة الخشبية والسمكة وأسماك القرش والزمان؟، أولاً علي أن أتقدم باعتراف صغير وهو أني أول مرةٍ أرى اسمينا جنباً إلى جنب: "شذى و أحمد"، لقد وقفت روحي هذه اللحظة في ارتعاش وانتعاش طفولي جميل، ليت لي تعويذة كاملة تحميني وإياكِ يا رائعة من بؤس الزمان، تتقاذفنا أمواجه بحقد، ولا نشعر إلا بالنشوة والجنون، فيغتاض الزمان ولكنه لن يموت!!!
أحبكِ يا جميلتي القاتنة شذى، "كبر البحر وبعد السماء بحبك يا حبيبي بحبك"!
المغرم بكٍ أبداً/ أحمد
*بطل ارنست همنجواي في رائعة الشيخ و البحر.
08-أيار-2021
03-آب-2019 | |
19-آذار-2016 | |
01-كانون الثاني-2016 | |
14-كانون الأول-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |