نباح مبدئي في وجه قط بكداشي
خاص ألف
2016-05-28
ما يهمني في "نباحي" هذا ليس الدفاع عن المعارضة أو أية حالة سياسية، ولا مهاجمة أي تشكيل سياسي، لأن الأمر لم يعد يعنيني، إذ لم يبق لدي الرغبة والقدرة على أن أعنى بالأمر، ففي الهشيم الشامل المسمى "سورية" تفتتت كل الكيانات، الفردية أو الجمعية، التي يمكن أن تكون موضوعاً أو محلاً لاهتمام مثمر: الخراب معمم، وعميق، ولئن كنا نخشى سابقاً الدخول في طور التفتت، فإننا اليوم دخلنا طور ما بعد التفتت: تعفن المفتت، واهترائه.
الأمر ذاته ينطبق على المكونات المرنة لهذا الهشيم (السوفتوير): العقل، والبرامج، والرؤى. لا شيء يمكن أن أناقشه. ما يهمني هنا هو سمعتي الشخصية، وسمعة أسرتي. وأقول سلفاً لمن يريد اتهامي بالنرجسية: حل عن حطامي (يا متواضع).
******
هل جربتم مرةً البحث في اللغة العربية عن مفردة فصيحة تصف فعل (التجقم) المعروف باللهجة الشامية بما يسمى (ملاوءة)؟
إن لم تعثروا، ربما عليكم التساؤل عن السبب. (يتجقم) شخص بآخر، يعني أن يقلده، ساخراً، بمد لسانه أو القيام بحركات تكيده، وهذا كنا نفعله صغاراً، مع أقراننا في المدرسة والبيت والشارع.
في تلك المرحلة العمرية كان ثمة تكافؤ (تجقيمي)، فإن مد أحدهم لسانه وأطلق أصواتاً من فمه، يمكنك أن تفعل ذات الشيء، أما في سورية اليوم، فإن هذا التكافؤ مفقود، وحالتي في هذه (التجقيمة) التي تقرأونها هي أشبه بشخص مكبل اليدين والقدمين، مشدود إلى جذع شجرة، ثم يأتي الذباب على وجهه، فلا يستطيع طرده.
هذا أصعب ما يمكن أن يمر على رأس إنسان، أن يكون عاجزاً عن استخدام طاقته للدفاع عن نفسه، فيستغل الفرصة (أبو بريص) من هنا، وأفعى من هناك، و(أبو مقص) عن اليمين، وعقرب عن اليسار..فينهشون لحمك، وأنت تتفرج عليهم. حتى قول (آه) يكون متعذراً عليك، لأن هذه (الآه) لو نطقت بها ربما تودي بحياة آخرين.
في حدود هذه (الآه) سوف (أتجقم).
في أول يوم أباشر فيه عملي مديراً إدارياً وقانونياً في دار الأوبرا السورية، كانت أحاديث الموظفين عن " المدير الجديد" القادم قد خلقت مختلف التصورات عنه، وربما الأوهام، وخطط التعامل معه، وتخيل شكله، وصوته، ولباسه...كنت حريصاً يومها على أن أكون أنيقاً، رسمياً، كي أجني ثمار الانطباع الأول على مختلف الصعد، ولدى الجميع.
دلفت إلى غرفة "الذاتية" حيث يتجمع عدد من زملائي الموظفين، فأشار أحدهم بعينيه لزملائه إشارة تنمّ عن أن هذا الشخص هو المدير الموعود. قلت "صباح الخير" فرد الجميع "صباح الخير أستاذ" .. وقعت على أذنيّ كلمة أستاذ مزعجةً مليئة بالتكلف، وكأنهم قالوا "سيدي" التي كنت أقولها في الجيش. قلت لنفسي "لا بأس، سأجعلهم يغيرون هذه المفردة مستقبلاً وبالتدريج" . كان هذا تصوري ورغبتي لعلاقتي معهم، وهو ـ بالمناسبة ـ ليس تواضعاً مني، بل تطبيقاً لأحدث ما تعلمته في ماجستير الإدارة الذي عُيّنت على أساسه في وزارة الثقافة.
خطوت داخل الغرفة خطوتين أو ثلاثاً، فقامت موظفة اسمها "سارا" من خلفي بحركات كالتي كنا نفعلها وراء الأستاذ في المدرسة. حركات تريد من ورائها المشاغبة، والإطاحة بهيبة المدير أمام زملائها، لتبني لنفسها مكانة في نفوس أقرانها، وكنت أراها بطرف عيني، إضافة إلى انعكاس حركاتها على زجاج النافذة المقابلة لنا.
كان أمامي خياران، الالتفات إلى الخلف، كي أفاجئها " لقطتك..يا عيب الشوم عليكي" أو إهمالها، والاستثمار في جهلي المتصنّع لما قامت به. تابعت حديثي مع الموظفين، وانتظرت حتى فرغت "سارا" من حركاتها كي لا أحرجها، ثم أدرت وجهي نحوها، وطلبت التعرف على اسمها، فاحمرت، ونطقت به مشوباً بخجلها. بعد أن أنهيت فقرة التعرف عليهم ذهبت إلى غرفتي، وباشرت "مسؤولياتي".
نصف ساعة مضت وأنا أرتب أشيائي وأوراقي، فإذا باب غرفتي يعلن أن أحدهم يريد الدخول. دخل "كفاح" وبدأ يمهّد كي يكون جاسوساً على زملائه، بادئاً بمقدمة تذم "سارا" وسوء أخلاقها مستهجناً "خيانتها" ...كان عليّ التصرف فوراً، والاختيار بين الاستفادة من "خدماته" أو لجمه. أنت هنا، خلال لحظات، عليك أن تتخذ قراراً تأسيسياً لعلاقتك به، وبهم، زملاءك الذين أنت رئيسهم.
فوجئ "كفاح" عندما قاطعته مصرحاً بمعرفتي بما قامت به "سارا" وسألني: كيف عرفت أستاذ؟ هل أخبرك أحد؟ (كان يريد الاطمئنان إن كان ثمة جاسوس ناشط غيره). قلت: رأيتها بطرف عيني وعلى زجاج النافذة. تساءل مستغرباً: ألم تنزعج؟ أجبته: لا، بل أشكرها على ما فعلت. قال: تشكرها؟ لماذا؟ أجبت: هي ساعدتني في مسألة غاية في الأهمية، لقد قالت لكم جميعاً بتصرفها "هذا أستاذ، ينبغي أن نحسب له حساب، أعادت إلى ذاكرتكم هيبة معلم المدرسة".
يبدو أن خياري باستثمار تصنع الجهل بما فعلت "سارا" كان صحيحاً، فقد جنيت عوائد هذا الاستثمار العديدة، ومنها اكتشافي هوية "المخبر" على زملائه اليوم، وعلينا كلنا غداً: كفاح.
السيد "كفاح" هذا، كان بكداشياً.
******
بعد أسبوعٍ من حادثة (التجقيم، الملاوءة) هذه طلبت من زملائي أن لا يخاطبونني بمفردة "أستاذ" على الأقل بيننا، في اجتماعاتنا وأعمالنا المشتركة، بمن فيهم "كفاح" الذي لم يستطع ذلك، لأن الأمر متأصل فيه وملتصق به التصاق لحاء الشجرة بجذعها. في تلك الفترة كان بإمكاننا جميعاً الحبو أو الخطو أو العدو، لم تكن أقدامنا مربوطة كما هي عليه اليوم، كنا نستطيع الرد على (التجقيمة) بأحسن منها، أما الآن، فحالي كحال الكلب في "توم وجيري" حين رسم له القط خطاً لا يستطيع تجاوزه، لأنه مربوط بحبل، ثم وقف القط "المكافح" وراء ذاك الخط، مكيلاً اللكمات للكلب، الذي لم يكن يملك وقتها إلا النباح المرّ، ومحاولة اجتياز الخط....تذكرون هذا المقطع ربما ! وتذكرون ـ لا شك ـ ما فعل الكلب بذاك القط "الخسيس" عند فك أسره، وتحرره من "الحبل".
هذا بعض "نباحي" (الآن):
ربما أضحت جراحنا وليمةً لنوعين من "القطط": شامتة، ومستمتعة. ذاك ينكأها بلؤم الوضيع، وهذا يستمتع بما تنتجه من "نصوص أدبية".
نعم، جراحنا أضحت للفرجة، في زمن وجيل الفرجة الفيسبوكية. ذاك الذي يتلوى تحت وقع السياط على جسده نضع " لايكاً " له، نترحم عليه إن مات بعبارات نمطية (الرحمة لروحه). تحلق صرخاته بنا إلى فضاءات الاستمتاع بنص أو منشور فيسبوكي كتب تعبيراً عن جزء يسير من مكابداته، فنطير..نطير..في تلك السماءات، ثم حين يصرخ صرخةً (لا تعجبنا) في وجه لئيمٍ أو متاجرٍ بألمه، نُعرض عنه لأنه (غير متوازن، عصبي). كنا نريده مسيحاً !! فإذا به مثلنا، لا ملائكة تحيل النار برداً وسلاماً عليه. أليس هذا "هشيم" وحطامٌ وبقايا آدمية، لا يعوّل أو يبنى عليها؟
ينال القط من أخلاقي ومن وطنيتي. اسمع يا قط:
ـ كنت أتوقع منك يا عزيزي أن تدعو السوريين جميعاً للافتخار بأسرتي، قائلاً لهم: انظروا إلى عائلة المرحوم "محمد محمود" الذي تجاوز الأطر الإقليمية والطائفية، منذ عام 1967 (عام هزيمتكم) وأعلن انتصاره بأن تزوج من مدينة (عامودا).
ـ تزوج امرأة، تشهد الحارة الشرقية في مدينة سلمية كيف كانت تحفر معه أساسات البيت، وتنقل (البلوك) كي توفر في تكاليف (العمار).
ـ ولأن رجلاً من سلمية تزوج من عامودا، يعني أن يولد أبناؤهما وفي يد كل منهم ـ لحظة ولادته ـ كتاب، جعل من أبنائه كلهم أطباء، باستثناء (الكلب) الماثل أمامكم، الذي لم تسعفه الدنيا بأكثر من ماجستير.
ـ كنت أحسب أنك سوف تقول للسوريين في لحظتهم هذه: إليكم هذا النموذج الوطني العابر لما تقتتلون عليه، فأبناء المرحوم، ساروا على نهجه، وتزوجوا من طوائف ومناطق أخرى، فأضحى في أسرته ثلاثة مذاهب.
ـ كنت أظنك ـ يا قط ـ سوف تصدح بمواء حزين، مخبراً السوريين عن حيان، شقيقي، قائلاً: نادرٌ في مدينتي سلمية أن يحوز طالب طب على المرتبة الأولى في الجامعة، حيان، الأول على زملائه، اعتقلوه من المشفى الذي كان يختص فيه (داخلية ـ قلبية) وغيبوه، سنوات أربع، وثمة أنباء عن موته في السجن بعد حفلة تعذيب. حيان الذي حل به ما حل، في ذات الوقت الذي أفرجوا فيه عن (الجولاني، وحسان عبود). أليس هذا طعنة لأنموذج "الوحدة الوطنية" المتجسد في أسرته؟ هل يمكن لحيان أن يكون "إرهابياً" وهو ابن هذه البيئة: مدينته وعائلته؟
كنا كما يريدنا "الوطن" علماً، ونزاهةً. هل تعلم ـ يا قط ـ عن تاريخ الكلب الذي يحدثك؟
ـ في موسم الهجرة إلى كندا رفضت الهجرة، قلت: سأبقى في وطني أبنيه، كنت يومها موظفاً في نقابة المحامين، ويمكن لمن يريد أن يسأل صديقي المحامي الأستاذ "نورمان الماغوط" عن سمعتي فيها. يقولون في تعريفي (الشخص الذي رفض العمل في الوكالات). يومها استدعاني نقيب المحامين، طالباً مني العمل فيها، فرفضت قائلاً: يا أستاذ، بالأمس اشتريت غسالة بالتقسيط، إن ذهبت إلى الوكالات لن يصدق أحد أنني اشتريتها بحر مالي وعرق جبيني... وذهبت مثلاً، ولقد رأيت وسمعت مرتين، محامين في ردهات النقابة يتهامسون عليّ: (ليك هذا هو الموظف الذي رفض العمل في الوكالات).
ثم حين انتقلت إلى وزارة الثقافة، أرسل نقيب المحامين كتاباً إلى وزير الثقافة، يطلب فيه إعارتي للنقابة، نظراً لحاجتها خبراتي، مستعداً فيه دفع أجوري وتعويضاتي من خزانتها.
ـ في وزارة الثقافة تستطيع ـ يا قط ـ أن تنظر إلى الوثائق التي نشرت صورها على صفحتي في "الفيسبوك". استقالاتي المتكررة، مذكرتين للوزير، تحقيقات صحفية عن مواقفي من الفساد.
أربع استقالات، وتحقيقان صحفيان عن رفضي الخنوع، والإدلاء بشهادة زور في المحكمة. وكل هذا في عام 2007. قبل كل موضة وموجة "الانشقاقات" . ثم حين ضاقت السبل أمامي، عدت إلى مدينتي "سلمية" مفضلاً أن أكون موظفاً هامشياً فيها على وظائف عليا، أكون فيها مجرد برغي في ماكينة الفساد. منذ عام 2007 أثبت زهدي، وصلابة احتقاري لبريق المال والسلطة والنفوذ.
ـ وشرعت أبني أسرتي، في مدينتي. و "الوطن" باقٍ في البال، فاخترت الكتابة الصحفية مجالاً لحياتي العامة. هل تتخيل أنني قمت بتحقيق صحفي عن تقصير الوزير الذي من موازنة وزارته أقبض راتبي؟ هل تعلم أنني لم أعبأ باحتمال أن أخسر لقمة عيشي، مقابل أن أقول لوزير الثقافة (أين وعدك بإعادة رفاة عبد الرحمن الكواكبي من مصر إلى مسقط رأسه في حلب)...؟
سأكتفي بالنباح إلى هنا، حتى عام 2007، أما بعد ذلك التاريخ، واعتقالي مرتين عام 2012، وما جرى معي فيهما ورأيته بأم عيني، فسوف أحدثك عنه، لكن بعد أن أستعيد قدرتي على الركض. بعد أن تقطع الحبال التي تقيد قدمي، فيمكنني ساعتها تجاوز الخط الذي رسمته (يا توم) فأعدو خلفك، على راحتي، أيها...الخسيس.
08-أيار-2021
05-أيلول-2020 | |
23-أيار-2020 | |
04-نيسان-2020 | |
21-أيلول-2019 | |
هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي. |
14-أيلول-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |