هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي.
حسان محمد محمود
خاص ألف
2019-09-14
غاب تسع سنين، حدث خلالها الكثير الكثير، ثم فجأة عاد أبوطشت. وعند كل خطب، أو نائبة، أو شدة، كنت أتوقع ظهوره، ناصحاً، مواسياً، مؤازراً، لكنه لم يفعل. رجع، وبذات طريقته المعهودة، الغرائبية، طلب مني مباشرة مهامي معه دون أن يبرر أو يفسر اختفاءه السابق، وأنا، ربما بفعل الحنين له، أو للماضي الذي جمعني به، وافقت من فوري على أداء وظيفتي.
ـ جيد أنك أصبحت لاجئاً في ألمانيا، هذا سوف يفيد مشروعي الجديد كثيراً.
هكذا؟! دون أن يسألني عن أسباب هروبي، والأهوال التي مررت بها؟! بهذه الطريقة والكلمات المقتضبة يقابل صديقٌ صديقه بعد كل هذا الغياب؟!
ـ العصفورية تعاني من أزمة في النقد الأجنبي، ولدي خطتي لمعالجة هذه المشكلة.
مررنا بأهوال، وكابدنا ما لم يكابده بشر من قبل، وأبو طشت محتجب لا أعرف أين، ولماذا، ثم، لهذا السبب يظهر؟ لم أشأ معاتبته، أصلاً فقدت القدرة على تقريع أي أحد على أي شيء، ولماذا أؤنب من ثبت عجزه وافتقاره الرغبة بمساعدتنا، أو الإحساس بآلامنا؟
ـ أنت في ألمانيا، والألمان مشهورون بأنهم صانعو آلات لا يضاهون، لكل شيء عندهم آلة، أريدك أن ترسل لي آلة تقوم بنقع المتة، وآلة تفصفص بذور دوار الشمس. سوف نكون أول من يفكر في هكذا مشروع، وبالتالي أرباحه مضمونة.
أذعنت كعادتي لطلبه، و خاطبت عدة شركات ألمانية، وقابلت التقنيين فيها الذين أكدوا عدم وجود مثل هذه الآلات لديهم، متسائلين بفضول تاجر يتحرى مغنماً عن فائدة هذه الآلات التي لم يفكروا سابقاً بضرورتها وأهميتها.
أسهبت في شرح انتشار عادة شرب المتة وفصفصفة بذور دوار الشمس في العصفورية، وكيف أصبحت إضافة لنشر الشعر الحديث على الفيسبوك النشاط الأول والرئيس لأعداد متزايدة من المجانين، فيه يتحدثون عن، ومع، وعلى بعضهم، محاولين إثبات ذواتهم الممسوسة، واضعين أسساً روحية لعلاقتهم بكل شيء، راسمين خططهم للتعامل مع محيطهم....
قررت ثلاث شركات التعاون مع بعضها لإنتاج هاتين الآلتين، وباشر فريق من المهندسين بتصميمهما، وأعطونا مهلة شهرين يبدأ بعدها توريدهما إلى العصفورية، على أن يكون تسديد ثمنهما آجلاً، نؤديه أقساطاً بعد إقلاع المشروع الذي أطلق عليه أبو طشت اسم "دوار الشمس لدعم النقد الأجنبي".
أثنى أبو طشت على نتائج مفاوضاتي مع الألمان، وطرح بعض الأفكار التوسعية التطويرية مستقبلاً، مثل إنشاء مشروع آخر باسم "دوار القمر" الذي سارع إلى إلغاء فكرته بعد أن بينت له عدم وجود بذور دوار القمر، وأن ما اعتادت العصفورية على فصفصته هي بذور البطيخ، وشقيقتها بذور دوار الشمس.
أيقظني من نومي إلحاح لجوج من هاتفي كي أرد على مكالمة من أبي طشت، أبدى رغبته فيها بتغيير اسم المشروع وجعله "كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي" معللاً ذلك أن "دوار" يعني "كورنيش" وعلاقة الكرة الأرضية برمتها مع الشمس علاقة "كورنيشية" فنحن ندور حول "كورنيش الشمس" وإطلاق هذا الاسم على المشروع يعطيه بعداً كونياً، ويظهر أننا مجانين علميون ندمج العلم بالاقتصاد، وهكذا أضحت "كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي" المؤسسة العصفورية الوحيدة التي تعمل في هذا المجال، وفي رسالة عاجلة من أبي طشت وصلتني على "الواتس آب" بعد انتهاء محادثته الصوتية قال مبشراً بآفاق المستقبل:
ـ أخبر الألمان أنهم إن كانوا من ملوك العولمة، فإننا في العصفورية أباطرة الكوننة، ونشاطنا الاقتصادي لا نقبل غير الكون مجالاً له، والمجموعة الشمسية ليست إلا بداية.
التزم الألمان بوعودهم، وأرسلنا الآلات إلى أبي طشت، ولم يمض شهر إلا وكانت الأرقام كما توقع، باهرة، مشجعة، وتبعث على الحبور، حولها أبو طشت إلى دعم النقد الأجنبي كما أخبرني.
سددنا ثمن الآلات، وطلبنا المزيد منها، فالعوائد تبشر بتوسع محمود العواقب، مضمون الربح، حتى أن أبا طشت وضع سياسة ترويجية للمشروع قامت على تخفيض عائداته. كانت فكرته حث المجانين لمبادلة كل كيلو من قشور بذور دوار الشمس المستهلكة بكيلو من البزر المحمص، لتشجيع الاستهلاك، وجذب مفصفصين جدداً، وقد آتت هذه السياسة ثمارها المأمولة، حتى صار الإنتاج المحلي من بذور دوار الشمس عاجزاً عن تلبية الطلب المتزايد، فكان لا بد من الاستيراد.
صرت أعقد صفقات استيراد البذور الألمانية جنباً إلى جنب مع استيراد آلاتهم، ولأن سعر الطن الألماني أرخص من مثيله المحلي قرر أبو طشت الاعتماد كلياً على الاستيراد، وفي غضون شهرين لم تعد ترى في أرجاء العصفورية كلها بذرة واحدة غير مستوردة، فأفلس المزارعون العصفوريون، وشرعوا بالبحث عن أعمال جديدة تؤمن رزقهم وقوت عيالهم، وتحولوا إلى ماسحي أحذية وبائعي يانصيب، وقسم منهم اضطر للهجرة بعد أن استعصت عليه سبل العيش في العصفورية.
كبيراً، بل هائلاً كان صافي أرباح "كورنيش الشمس" خلال سنة، حسبما أكد أبو طشت دون أن يعطيني رقماً محدداً لهذه الأرباح، فهو لم يعد يملك من الوقت ما يكفيه للرد على رسائلي التي أستعلم فيها عن مصير تلك الأموال، ومقدارها، وكان في غمرة مشاغله يرد بعبارة مستعجلة، مقتضبه، تقول "لا تقلق، حولت الأموال للنقد الأجنبي".
اكتفيت بإجابته تلك، ولم يخطر لي أبداً التشكيك بنزاهته، أو طلب ما يثبت قيامه بتحويل الأموال، وبيان أوجه استخدامها. هو رجلٌ، إن ساورك بصدقه أي سوء ظن في الأمور المالية، تكون كمن يرتاب بلون اللبن، لكن لكل شيء حدوداً، وصبري على مماطلاته بلغ منتهاه.
اضطررت لتهديده بالاستقالة إن لم يرسل لي ما يثبت تحويل المال إلى النقد الأجنبي، مؤنباً إهماله استفساراتي، خصوصاً أنني لم ألحظ أي تغير في معاناة وحياة المجانين ينسجم مع الأرباح التي يحققها المشروع.
ـ حسنٌ .. حسنٌ .. سوف أكلف المحاسب بإرسال ما تطلب. لا تصرعنا! لدينا عمل نقوم به، نحن لسنا متسكعين مثلك في شوارع ألمانيا!
هذه كانت رسالته التي أرسلها على "الواتس آب"، التي أتبعها بصورة يد برزت منها الإصبع الوسطى في إيماءة بذيئة لإغاظتي.
أذعن أبو طشت أخيراً لإنذاري، وأرسل المحاسب صورة عن كتاب أعده جاء فيه:
بلغت قيمة تحويلاتنا سبعة وعشرين مليار دولار للمؤسسة البريطانية للنقد الأدبي، وقد أوصينا أن يتم تحويل نصفها لنقد الشعر على الفيسبوك، دعماً للحركة النقدية العالمية، وبسبب عجز النقد العصفوري عن مجاراة إبداعات الشباب في ميدان الشعر.
التوقيع: المحاسب المركزي لمشروع كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي.
بعد انتهاء جنازة أبي طشت نشر الكثيرون شعراً برثائه على الفيسبوك، وبعد أن عزّ علينا النقد الوطني، لم يبق لنا إلا انتظار نقده بما تيسر من نقد أجنبي.