خلفيات السياسة الثقافية لاتجاهات التحديث في الرواية العربية / وين جين أويان
خاص ألف
2016-06-16
بعكس حركات الحداثة الداخلية السابقة في الثقافة العرب- إسلامية، وبعدها التحديث الأوروبي، كانت أية مقاربة للتحديث في العالم العربي المعاصر تبدو صيغة من صيغ الالتحاق بالغرب. والمشاحنات بين "القديم" و"الحديث"، والتي كانت من خصائص التحديث الغربي المبكر، ذهبت باتجاه معنى مختلف. فهي الآن تتقاطع مع ديالكتيك "الذات" و"الآخر". وأصبحت مشكلة الجديد، وتصعيد إنجازات الأجيال السابقة غير ذات أهمية، وهذا يشمل "الأصالة" أيضا، بمعنى الاستمرارية من الماضي إلى الحاضر بلا انقطاع.
بكلمات أخرى، كيف يمكن للحداثة والتحديث ، وهما غالبا مرتبطتان بالغرب، والتغريب، بفضل تكوينها النوعي، أن تتغلب على اغترابها في الثقافة العربية. وتؤسس لتجديد ثقافي ، ومعاصرة تحقق الراهنية في العالم، مع الاحتفاظ بأصالتها؟. في غضون القرنين السابقين اقترح المثقفون العرب عددا من النماذج للحداثة الثقافية، على أمل أن تقود إلى تحديث العالم العربي. وتبدو هذه المشروعات المقترحة للتحديث كأنها تتحرك بين قطبي معضلة "الماضي" و"الحاضر"، الـ "ماضي" يعرف بالتقاليد العرب- إسلامية (٣٩)، والحاضر يعرف بلاعبه المؤثر - الغرب (٤٠). وكما لاحظ الكتاب العرب، إن النقاش بخصوص الحداثة العربية يركز على ما يبدو على ظاهرة الانتحاء ثنائي القطبية والذي لا يمكن تفاديه فيذهب إلى الحداثة، والتي تطمح لعالم معاصر يمكن إدراكه بدمج الثقافة العربية مع الثقافة الغربية المسيطرة، أو إلى "الأصالة"، التي تتأسس على الـ "ماضي"(٤١). وكما يقول ألفرد فرج: بدأت نهضة ثقافتنا العربية في مصر في القرن التاسع عشر باتجاهين متعارضين طوال النصف الأول من القرن التاسع عشر: وقد نشأ عن الشيخ رفاعة الطهطاوي اتجاه (تحرك) نحو دمج العقل المصري بالعقل الأوروبي المعاصر في أفضل صوره الديمقراطية والتكنولوجية...
وبالنسبة للاتجاه الثاني، والذي يبدو متعارضا مع الأول، فهو الاتجاه الذي بدأه محمود سامي البارودي في منتصف التاسع عشر. ونادى بإحياء التراث الأدبي العربي القديم، بجمعه، ونشره، وتبسيطه.
رافق البارودي رواد إحياء التراث (العرب- إسلامي)- الذين حرروا التراث الأدبي والثقافي الرسمي (العربي الإسلامي)، مثل جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده،والمويلحي، و(عبدالله) النديم، وحتى طه حسين ومعاصريه، ومعهم عشرات من المثقفين العرب الذين عمدوا لربط الماضي بالحاضر، لإحياء الأدب العربي الكلاسيكي ولتجديده بحساسيات حديثة(٤٢).
كلا الاتجاهين، كما يقول فرج، برزا كاستراتيجيتين "تقدميتين" لأنهما يقاومان الاستعمار، الأول أكد على قدرات مصر لتلحق ببقية العالم، وعلى قدراتها في مقاومة الاحتلال العثماني، والثاني هدف لتمتين الهوية المستقلة بالاستفادة من "ماضيها" القوي والمجيد (٤٣).
وأي اتجاه يختاره المثقفون العرب، يؤدي على ما يبدو بالضرورة للانقطاع في تواصل مسار التاريخ العربي.
ولاختيار الحداثة الغربية، فإنه على الماضي النفسي أن يستسلم، ولانتخاب "الأصالة" المتجذرة في "الماضي"، فإنه على "الحاضر" أن يتعرض للإفناء. والنتيجة، بمصطلحات برهان غليون، قطيعة في التاريخ العربي حتى يستحيل على الذات أن تتماسك. والمشكلة، كما فسرها حسن حنفي، موجودة في استحالة الاختيار: هل على الذات أن تطور نفسها من الحداثة ذات الطابع الغربي التي يفرضها الآخر، وأن تنفي نفسها من ماضيها الخاص، أم عليها أن تجذر نفسها في التقاليد الكلاسيكية العرب-إسلامية، حتى لو غربت نفسها عن الحاضر. ولكن كي نستعيد الاستمرارية التاريخية للذات، فإنه يجب علينا تخطي آخرية الآخر، لا أن نحطمه، أو نحطم الآخر بتعريفه، أو حتى برفضه، بل بدمجه في الذات. على سبيل المثال بإضفائه على الوطنية والثقافة التي أنتجها تاريخ له جذور في تطوير الذات. وعلم الاستغراب، وهو استجابة للاستشراق الذي اقترحه حنفي، لا يذيب الاستشراق، القوة الحافزة التي بها يتحول الآخر (الشرقي) إلى موضوع بواسطة الذات (الغربية)، وإنما يمتص الآخر (الغربي) في الذات (الشرقية)، ليجعل من الطرف الأول جزءا متضمنا في الطرف الثاني(٤٤).
في هذا السياق، يأخذ "قليق التأثير"، البارادايم النظري الذي افترضه هارولد بلوم لتفسير النصوص الأدبية، المعاني الإشكالية. فهو يعمل في نظام مثاقفة في وقت صارع فيه الكتاب العرب للتغلب على والتخلص من والتسامي فوق ورفض تأثير الموديلات الغربية. وفي نفس الوقت، هو يعاني من قلق غياب التاثير، فهو ليس متجذرا في جذور الماضي. لقد أصبح التناص، داخل الثقافة الإسلام عربية أو بين الشرق والغرب، استثمارا مقصودا، يجري كتاب النصوص حساباته بحذر قبل إعدامه. وبواسطة ترتيب الأشكال والموضوعات والتقنيات واستيرادها من التراث الكلاسيكي والإرث الاستعماري، يحاول الكتاب العرب تصحيح شمولية "الذات". فهم يحاولون علاج الانقسام المفروض على ذاتية العرب- وهي مقاطعة للتواصل بين الماضي والحاضر- ومن خلال تكامل كليهما الوطني والتقاليد المستوردة، وبتحقيق أصالة متشابكة مع المعاصرة، وهو، مبدأ المعاصرة والانتماء للعالم.
وفقط بتوفر هذين العنصرين المتزامنين يمكننا التأكيد على شرعية الثقافة الرؤيوية الجديدة. وكذلك مؤسساتها، والتي تم تشكيلها من أجل حداثة عربية.
إن التزامن، في كل الأحوال، يخلق التوتر في كل من النصوص النقدية المكتوبة على موضوع الحداثة في الثقافة العربية والنصوص الأدبية التي تنتج في هذا السياق. والرواية العربية، كما ذكر عصفور، تواصل المحاولة لتصعيد علاقة "اطرد واجذب"بين قطبين من هذه المعضلة المعقدة ويسميهما- الذات والآخر، الماضي والحاضر، الشرق والغرب، القديم والجديد، والوطني والأجنبي- وذلك لاستكمال هويتها المتميزة والفريدة (٤٥).
قطبا هذه المعضلات المتمفصلة لا يتوافقان بأسلوب نظامي. لو أن الأصالة تجذرت في الذات والماضي والشرق والقديم والوطني، فإن المعاصرة بالضرورة ستستقر في الآخر والحاضر والغرب والجديد والأجنبي. وهذه بكل وضوح إشكالية. العصرنة بالعربية تقابل المعاصرة، وتتضمن معنى أن تكون مع المرحلة، أن تكون في الحاضر والجديد. وهنا تصبح الأصالة متجذرة في نفس الوقت في الماضي والحاضر،في القديم والجديد، في التقاليد والحداثة. فما يعتبر أصيلا يصبح من ثمة موضوعا للإيديولوجيا، وتنافسا رؤيويا على حداثة العرب وأولوية ومصدرا لكل هذه الرؤى. والمصطلح، أصالة، يمكنه فجأة أن يتضمن الماضي والحاضر بالاعتماد على إيديولوجيا المدن.
وبالنسبة لمن يضع أهمية أكبر على الـ "هنا والآن" تعني الأصالة أن تكون متموضعا في المشاكل المباشرة الخاصة بالأمة/ الدولة التي تصارع للتغلب على القمع والمجاعة والتجاهل والفتن الطائفية والاحتلال العسكري وكله ميراث من الماضي والحقيقة أو الواقع.
وعليه هي مصدر الأصالة. وفي الخطابات الماركسية عن الرواية العربية، الماضي هو الآخر. والواقعية، لا العودة إلى التراث الأدبي للماضي، تؤشر على البداية الحقيقية للرواية العربية برأي بدر*، ماركسي، لأنه في الواقعية يمكن للمرء أن يجد علاجا لظروف العرب الآن. وهذا لا يدفعنا لنقول إن الغرب ليس هو الآخر بالعكس إن جزءا من واقع الأمة/ الدول هو الدفاع عن نفسها ضد هجوم مستقبلي للغرب حين أخذ شكلا من أشكال الرأسمالية قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، ودخول العولمة.
ويقر محمود أمين العالم أن العالم أصبح تهديدا يرفع درجة مخاطر العولمة الأمريكية أو الكونية التي تهدد بإلغاء خصوصيات الثقافة الوطنية والهوية القومية الثقافية لمجموعة أجزاء هذا العالم الواحد(٤٦).
والحل كما هو واضح أن لا تتخلى عن الخصوصية من أجل الكونية أو على الكونية في سبيل الخصوصية لأن العزلة والقطيعة عن البشرية حماقة، لكن ضياع الخصوصية والهوية انتحار قومي وثقافي.
عوضا عن ذلك، إن الجواب هو في أن تكون جزءا من العالم مع الاحتفاظ بتميزك، وأن تعمل باتجاه إنسانية مشتركة، مع مقاومة محاولات السيطرة وتحطيم الهويات الوطنية والثقافية(٤٧). أو بكلماته، للدفاع عن الأمة/الدولة. فالأدب العربي يفصل مسيرة الأمة الدولة في تحقيق وإنجاز الخصوصية، التي تأتي من الخبرات المعاشة، وكذلك طموحاتها للعصرنة والانتماء للعالم.
وبالنسبة لمن يرى الأفضلية في مواصلة الماضي والحاضر فإن مسيرة التأصيل لا تعني ببساطة البحث عن جذور أو أصل للثقافة العربية أو الأدب العربي في التراث الثقافي للعالم العربي. ولكن تتطلب إعادة تعريف هذا التراث بحيث يمكنه احتواء الظاهرة الثقافية والأدبية الجديدة والتي استبعدت تاريخيا من القانون الأدبي: والرؤيا التقليدية للثقافة من أجل الذات. والتي أخذت شكل مشاريع تصحيح أو إصلاحات سطحية قام بها زعماء مسلمون ومثقفون عرب في القرن التاسع عشر مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده واستمرت حتى القرن العشرين وقادها على سبيل الذكر لا الحصر طه حسين (٤٨) وأدونيس (٤٩) وحنفي(٥٠) والجابري وطيب تيزيني (٥١)، الذين ضغطوا من الداخل والخارج لتحويل الوضع ألى حالة ألحاح وجودي.
الموضوع ليس استبدال المحاضر بالماضي ولا القديم بالجديد، ولكنه أولا وأساسا اعادة بماء وعينا بالماضي والحاضر وما بينهما من روابط وعلاقات. وهذه طريقة تتطلب تخطيطا متزامنا لكل من التراث الفكري للماضي والمستقبل. والتخطيط للتراث الماضي النخبوي يعني إعادة كتابة تاريخه، وبالاستطراد، إعادة تأسيسه في وعينا، وابتنائه كتراث نستوعبه نحن، ولا يستوعبنا هو أو يفرض نفسه علينا.
أما التخطيط للتراث النخبوي من أجل المستقبل، فيعني تصميمه في ظروف متزامنة وتشاركية: التزامن مع التفكير المعاصر والتشارك لإغنائه وتوجيهه. وهذا هو معنى المعاصرة (٥٢).
إن الحداثة العربية المعاصرة وهي بوهان على المكونات الأجنبية، تجد مشروعيتها على أساس جنيالوجيا بنائها، وبوادرها تجدها في القرن الثامن عشر، وبشكل ممهد للنصطلح المعاصر الذي يدل على الحداثة في اللغة العربية، ويميزها عن المصطلح القروسطي المحدث، الذي ورد ذكره بكل وضوح. وبالمثل، إن الانواع الغربية التي دخلت الادب العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين بحثت عن مشروعيتها في جينيالوجيا متخيلة لها جذور تمتد في التقاليد الادبية العربية الكلاسيكية. مثل هذا النوع من السيرورات والاساليب يعطينا انواعا واجناسا ادبية جديدة، مثل الرواية العربية، له مصداقية وأصالة تاريخية مشتقة من " الذات"، وله سلطة تلعب دورا في تشكيل مشهد الثقافة العربية النعاصرة. وإن مشروعية هذا الصوت المسموع بدوره يلقى التحديات التي تتساءل عن مقدار الاصالة المتوفرة فيه، وبكلمات أخرى، كيف يلعب الادب المعروف والمستقر دوره في تشكيل الحداثة الثقافية؟(٥٣).
البحث عن المشروعية
في مقدمة زمن الرواية (١٩٩٢-١٩٩٦) بدأ جابر عصفور باقتباس الفقرة التالية من مقال لنجيب محفوظ نشرته مجلة الرسالة بتاريخ ٣ أيلول ١٩٤٥:
ساد الشعر في العصور الطبيعية والأسطورية. وهذه المرحلة ( التي نحيا فيها)، وهي عصر العلم والصناعة والحقيقة، تتطلب بالتأكيد فنا جديدا، يكون قدر الإمكان، قادرا على تحقيق المصالحة بين اهتمامات الشخص الواقعية وحنينه القديم للفانتازيا. وقد وجدت هذه المرحلة ما تبحث عنه في القصة. ولو أن الشعر تراجع بشعييته وانتشاره، ليس لأن القصة محبذة في هذا العصر، ولكن لأنه تنقص الشعر أدوات معينة تجعله مناسبا لعصرنا الحالي. القصة، بهذا المعنى، هي شعر العصر الحديث (٥٤).
ثم يتابع عصفور ليلاحظ بنبرة احتفالية إنجازات الرواية العربية في السنوات الممتدة بين نشر هذه المقالة وحصول محفوظ على جائزة نوبل عام ١٩٨٨. يؤكد عصفور أن محفوظ قد أوقف حياته الإبداعية على فن احتل بالتدريج مكانة توجيهية في خريطة الكتابة العربية، ولذلك نحن النقاد، قادرون على تسمية عصرنا، بالنظر لأولويات الإبداع (الأدبي)، باسم عصر الرواية. وفي الواقع، بعضنا يتكلم عن الرواية العربية وكأنها ديوان العرب الحديث(٥٥).
ويشير عصفور بوضوح لصعود الرواية العربية على حساب هبوط وتقلص الشعر العربي، والذي كان يعرف باسم ديوان العرب.
وبإطلاق العبارة الشهيرة ديوان العرب المحدثين على الرواية العربية، يعتبر في الحقيقة أنه أصبح للرواية العربية دور القيادة في خطاب الثقافة العربية الحديثة. على أية حال، هذا الحال المتعالي الذي منحه عصفور للرواية العربية هو على الأقل ضعيف ومكشوف. ولا شك أن عدة نقاد سيعترضون عليه. وعصفور نفسه يشعر بذلك.
فهو يقول: منذ أن شعرت أننا نعيش في عصر الرواية، تبادر لذهني أن الرواية العربية وقعت في مكيدة؛ فنحن لا نهتم بها بما فيه الكفاية بالمقارنة مع الشعر. وحتى اليوم لا تزال في وضع أدنى من الشعر في المهرجانات الثقافية العربية(٥٦).
أو كما يقول لاحقا. والسبب لهذا الانحدار له علاقة بأولويات الثقافة العربية التقليدية حاليا، والتي تميل لتنظر إلى الفنون الأدبية بنظام هرمي. كان الشعر دائما في قمة الهرم بينما المسرح والرواية في أسفله حتى عام ١٩٨٨، حينما حاز محفوظ على نوبل (٥٧).
فالاعتراف الدولي بروائي عربي، على ما يبدو، قدم للرواية دعما إضافيا، والأهم من ذلك، الشرعية التي يبحث عنها. هذه الإشارات تكشف، وربما بغير قصد، ليس ردود الفعل المتناقضة فقط نحو الغرب، ولكن أيضا الموقع الإشكالي للرواية في الثقافة العربية المعاصرة.
منذ دخولها إلى الحياة العامة في العالم العربي ارتبطت الرواية العربية بسرد الحكايات. والربط المبكر بين الرواية والحكاية قد مهد الطريق للمؤرخين الأدبيين والنقاد لإثبات أصالتها من خلال إيجاد علاقة في جذورها مع تقاليد الحكاية الشعبية الكلاسيكية عند العرب، ولا سيما الحكايات العجيبة والغريبة ، والتي تنتمي إليها أصلا ألف ليلة وليلة والسير الشعبية وسواها. عموما المشكلة أن الحكايات كانت هامشية في الثقافة العربية الإسلامية، وتعتبر لهوا وعبثا في معظم الحالات، وأحيانا كانت مدانة ومرفوضة. على سبيل المثال، حذر الغزالي المسلمين من الاستماع للحكواتيين. القصص كما يقول في إحياء علوم الدين هي بدع لم يقاطعها القرآن والتقاليد النبوية أو سيرة الصحابة. ولكن علينا أن نمنعها إن لم نتمكن بدقة من تحديد مصداقيتها حيال الأحوال الدينية للأنبياء والرسل (٥٨).
وتأصيل الرواية العربية من خلال ربطها بالحكايات العربية السابقة للحداثة يعتبر على نحو غريب تأكيدا واعتراضا، فالتقاليد في ادعائها أنها الحقيقة الوحيدة التي تمثل أصالة الوضع الثقافي تنظر إلى القصة على أنها لا شيء ولكن مجرد ترفيه ومادة غير أساسية بالنسبة للثقافة المنتجة. وينظر قيسومة إلى وضع الرواية العربية ويرى أنها تأتي في طليعة الفنون المحتقرة، وهذا ينطبق على الرواية والروائيين في عصر النهضة. ويشير لمجموعتين من الإشكالات. أولا، الرواية فن مستورد بلا علامات نوعية خاصة أو أساس واضح. وثانيا، كان ينظر إليها من زاوية سلبية ذات علاقة بالحكايات العربية السابقة للحداثة ( الفولكلور والأساطير والقصص العربية). وهذا الرأي السلبي جدلا أدان كل أشكال الحكايات واستهجن لغتها غير البليغة وموضوعاتها التي تخدش الحياء وتستهين بالأخلاق.
لا يحظى الروائيون العرب بالاحترام الذي يحظى به الغربيون، بالعكس كانوا متدنيين في سلم التصنيفات. وغالبا ما يكتبون بأسماء مستعارة ويحتفظون بمسافة تبعدهم عن هذا الفن، ولا يحتملون أعباء اتجاهاتهم الإصلاحية (٥٩). وبرأي بدر، القضية لها علاقة بشرعية الحكاية العربية الشعبية التي سبقت الحداثة. والأشكال المبكرة من الحكايات العربية الحديثة تعرضت للاحتقار والتهميش والاستبعاد من القانون الأدبي، وبالأخص بسبب الارتباط بما يسمى " ألف ليلة وليلة"، والملاحم الشعبية ( السير) ومقامات " عصر الانحطاط". هذه " الأشكال البدائية" أو " الممهدات" للرواية العربية لا تزال رهينة لأغراض الإملاءات والترفيه، أو التعليم والتسلية (٦٠).
وقد تحول الجيل المبكر من كتاب الرواية على نحو مبرر ضد التقاليد الحكائية بكليتها- وهو ما يسميه غالي شكري مخاصمات الحكاية(٦١)- وهذا لا يتضمن فقط ما نسميه الأدب الفولكلوري ( الأدب الشعبي) ولكن أيضا أعمال الأجيال الأسبق(٦٢). وعوضا عن البحث عن " الأصالة" في " الماضي" فقد وقفوا مع المشروع القومي في تفكيك الاستعمار ووهبوا أدواتهم الفنية لتصوير واقع المقاومة والحياة في البلدان المعنية (٦٣ ). والنتيجة إعادة تشكيل الرواية كما قال شكري: " فلا تاريخنا ولا أدبنا يحمل صدى التاريخ الغربي أو ثقافة الغرب. وفي الواقع لقد ألهمتنا أشكال الأدب (الغربي)، مثل الرواية والمسرحية والقصة القصيرة والشعر. ولكن الفكرة ( الموروثة) والمشاعر والشخصيات واللغة والمواقف والأحداث القومية والمحلية ساهمت بقدر كبير في إعادة تركيب الرواية والمسرحية (٦٤).
والتساهل مع الغرب كان ممكنا، كما يقول شكري، فقط خلال صعود الظاهرة القومية. ولا سيما في ١٩٤٠-١٩٥٠ حينما كان التفاعل مع الآخر مسألة صحية.(٦٥). فالتوتر بين التقاليد والحداثة ، ثم بين الأصالة والمعاصرة قد تم تجميده خلال فترة الحمى القومية (٦٦). مع ذلك هذه الهدنة كانت مؤقتة. وانتهت فجأة بعد هزيمة العرب في حربهم مع إسرائيل عام ١٩٦٧(٦٧). وبعد هذه الهزيمة، تم المطابقة بين الأصالة والماضي. والماضي أصبح يمثل "الذات".
وأهمية التقاليد الأدبية العربية ليست في الحسابات التاريخية ولا النقد الموجه للرواية العربية وحدها. فالرواية العربية تورطت في صناعة ثم تفكيك هذه التقاليد فيما كانت مشغولة بالتخطيط لصعودها. وقد كتب المويلحي، ولا أعلم هل يجب اعتباره روائيا أم لا، بأسلوب المقامة الكلاسيكي في منعطف القرن، أنتج هيكل وطاهر لاشين وتوفيق الحكيم وسهيل إدريس، الذين أنكروا بحزم أي علاقة بين الرواية العربية والحكاية التي سبقت الحداثة(٦٧) أعمالا تابعت نهج الرواية "الغربية" خلال عدة عقود من تاريخ هذا النوع منذ ظهور زينب لهيكل عام ١٩١٣. وفي السبعينات ومنذ نشر الزيني بركات لجمال الغيطاني عام ١٩٧٤ عادت التقاليد لإضفاء المشروعية على الرواية كما لو أن المسألة حدث انتقامي: فقد هيمنت على خطابات ثقافة وأدب الأمة / الدولة في مرحلة ما بعد الاستعمار. وبالنظر للمد والجزر يبدو أن التقاليد وحدها ليست كافية لتوفير مشروعية للرواية. وبدأت الرواية بالبحث عن أدوات وسبل إضافية.
والرواية العربية كأداة معروفة للتسلية والترفيه، كانت تأخذ مهمتها بجدية، وتشارك في المشروع القومي، أولا من خلال خدماتها في تسريع الانعتاق من الاستعمار ( في الفترة بين الحربين) ولاحقا في عملية بناء الأمة ( في الخمسينات والستينات)، ولكنها كانت قصيرة النظر في وعيها الذي تبنت بواسطته استراتيجية تأسيس مشروعيتها الثقافية خلال سيرورة التحول. وفي القرن التاسع عشر، كان رواد الحكاية ، الذين اعترف بهم عصفور وقيسومة، قد حملوا على عاتقهم مهمة تحديد شكل وكذلك مستقبل الأمة. وكانت الكتابة تحت ضغط العدو المستعمر ومعه التبادل الثقافي، والأعمال المنتجة، تحدد كيف يكون استيعاب الحساسيات المتبدلة في بنية الداخل وبنية الخارج. والتحول في أسلوب مخاطبة البلاط للناس عبارة عن مؤشر على إعادة ترتيب وتنظيم أولويات تحديث الثقافة. فالقفز من التأكيد على ثقافة النخبة التي سبقت الحداثة إلى ثقافة الجماهير، إجراء أكدت عليه الحساسية الحديثة، وعلاوة على ذلك، جعلت منه مهمة للرواية العربية في مقاربة موضوع أو ثيمة تشكيل ثقافة الحداثة من الداخل. لقد كانت الحداثة، مهما هي هراء بنظر العالم، تعني تثوير بنية السلطة في العالم العربي، وفي القرنين التاسع عشر وجزء كبير من العشرين حصلت نقلة من السلطة الثيوقراطية إلى الديمقراطية العلمانية القومية. والأدب الفولكلوري الذي يدعي أنه يمثل العلمانية والجماهير، أصبح بوسعه أن يكون صوت الثقافة القومية الجديدة.
إحياء التراث ومراجعة التاريخ
الأساليب التي وظفها الروائيون العرب في شرعنة الرواية العربية - ومنها الخطابات القومية التي مهدت لإحياء الماضي والتراث- عملت بدورها على تعريف التراث الأدبي العربي وتحديد ماهيته وشخصيته.
وهذه التقاليد التي تم تحديدها والشكل الذي أخذته أمام عين الناظر قد تشكلت بالضرورة من خلال الدور المناط بها في الدول/ الأمة الحديثة.
ومهما كان الشكل الذي تأخذه هذه التقاليد في ديالكتيك الحداثة، فإن الرواية العربية تصور "الماضي" بطريقة يبدو بها "الماضي" وكأنه حاضر باستمرار ومتواصل ولا يعاني من الانقطاع.
إنه من المستحيل أن تتجاهل حضور تراث الحكايات العربية التقليدية التي سبقت نشوء وتطور الحداثة في الرواية العربية المعاصرة. يقول محمود طرشونة في ورقة عمل قدمها في المؤتمر الدولي الأول الخاص بالرواية العربية (٦٩) الذي استضافته الهيئة العامة للثقافة في القاهرة بين ٢٢-٢٨ شباط ١٩٩٨ وفي تحليله لثلاثية الغيطاني، كتاب التجليات (١٩٩٠) إن الغيطاني ينتمي بأعماله لواحد من أربعة اتجاهات في الرواية العربية كانت قد وجدت في نهايات القرن العشرين. وقد وضع في الحسبان الطبيعة المتداخلة لهذه الفئات، ولكنه تكلم عن اتجاهات معروفة اليوم ( يسميها طرشونة تيارات) سيطرت على الرواية العربية على أساس بعض المواصفات الواضحة: تيار الوعي، الرواية الجديدة، الواقعية الجديدة، تيار التراث حيث يغلب عليه توظيف التراث ( الاستلهام والتطبيق)(٧٠).
والأهم من ذلك، نظر للتيار الأخير على أنه هو الذي يعبر بأفضل طريقة عن ذاتية وخصوصية الرواية العربية ، والتي هي كذلك موضوع المؤتمر. وما يثير الانتباه هنا، هو إمكانية تحديد ولأول مرة في تاريخ الرواية العربية اتجاها يمكن التعرف من خلاله على تناص وظيفي ومقصود وواضح يتقاطع مع التراث الأدبي العربي، وهو ما يسميه طرشونة مدرسة توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة(٧١).
وبين بواكير جهود الغيطاني في بدايات ١٩٧٠ ومؤتمر عام ١٩٩٨ الخاص بالرواية العربية، ظهرت على ما يبدو حساسيات أدبية ونقدية جديدة، وساعد على انتشارها، إن لم نقل حولها إلى رغبة ملحة، الارتباط بالتراث بطرق مبتكرة. وعوضا عن النظر إلى إحياء التراث في السرديات المعاصرة على أنه خطوة رجعية تقودنا إلى الماضي، كان التراجع عن الحداثة نحو الأصالة، كما يبدو في نظر النقد المعاصر، في جزء منه على الأقل، عبارة عن سلوك تقدمي له معايير مستقبلية قدمت للرواية العربية شخصيتها وتميزها. والغيطاني، واحد من أهم كتاب هذا النوع، وقد كسب قصب السبق وربح الجولة.
من المحتمل الآن بطريقة استرجاع الإشارة إلى الجيل الأول من الروائيين، من أمثال حسين (١٨٨٩-١٩٧٣) وتوفيق الحكيم (١٨٩٨-١٩٨٧) على أنهم أدوا نفس الدور. فالحكيم في مسرحيته (شهرزاد-١٩٣٤) يخبرنا بحكاية شهرزاد المعروفة منذ أيام ألف ليلة وليلة. ومتأثرا بمقاربته كتب حسين نسخته من نفس الحكاية في (أحلام شهرزاد: ١٩٤٥). وقبل (أحلام شهرزاد) اشترك الحكيم وحسين في كتابة (القصر المسحور: ١٩٣٥)، وفيها قدما رؤيتهما لحكاية شهرزاد(٧٢). وهنا، يستعيران ببساطة شخصية من ضمن إطار حكاية الليالي ويعيدان إنتاجها
في عمل جديد. وفي نفس الوقت يقطعان الصلة مع مواصفات السرد الشفاهي في الليالي. وبشكل تعاكسي وغرائبي يوظف الغيطاني شكل السرد التقليدي، في الأسلوب واللغة، ولكن ليخبرنا بحكايات نعيشها يوميا في مصر المعاصرة.
بكلمات أخرى، "التقاليد" في السرد العربي السابق للحداثة هي التي تم استعادتها وتحويرها،و ليس الشخصيات المستلهمة من الكتابة التاريخية الكلاسيكية أو الخيال التقليدي. وعليه إن تقاليد السرد التي وظفها في أعماله تتخطى أنواع الحكايات القديمة المعروفة، ولا سيما المقامات، والليالي، والملاحم الشعبية والفولكلور، وتشمل مدونات تاريخية وتجليات وبيانات صوفية وأدبا جغرافيا وخطابات فلسفية مع أنواع وأشكال أخرى من الكتابة. وبفضل كتاباته وما يشبهها في البنية الذهنية عند روائيين اشتهروا في العالم العربي، وذاع صيتهم اليوم، وتجدها في دراسات عصفور وقيسومة،و من هؤلاء رفاعة الطهطاوي (١٨٠١- ١٨٧٣) في تخليص الإبريز في تلخيص باريز (١٨٣٤)، بالإضافة إلى رواية ترجمها عن الفرنسية وأصبح عنوانها مواقع الأفلاك في وقائع تيلماك (١٨٦٧)، وفيها تم عقد قران السرد الفرنسي مع نثر السجع المملوكي (٧٣). وإلى جانب الطهطاوي تجد المبارك (١٨٢٣-١٨٩٣) مؤلف علم الدين (٧٤)، وأحمد فارس الشدياق (١٨٠١-١٨٨٧) مؤلف الساق على الساق (١٨٥٥)، وناصيف اليازجي (١٨٠٠- ١٨٧١) مؤلف مجمع البحرين (١٨٥٦). ومحمود المويلحي (١٨٥٨-١٩٣٠) في أحاديث ابن هشام (١٨٩٨-١٩٠٢؛ ١٩٠٧)، وشهاب الدين الألوسي (١٨٠٢-١٨٥٤) في المقامات الألوسية (٧٥). بالإضافة إلى حافظ إبراهيم (١٨٧١-١٩٣٢) في ليالي سطيح (١٩٠٦)، وفرنسيس المراش (١٨٣٦-١٨٧٣) في غابة الحق (١٨٦٥) وتعتبر هذه النماذج أول من مهد للرواية العربية.
وفي عام ١٩٨٢ ظهرت على السطح تحديات ضد محاولة الغيطاني وأسلوبه. في ندوة عقدتها مجلة فصول تناولت فيها تجربة الروائيين الذين بدأوا بالكتابة في الستينات وأصبح لهم موطء قدم راسخة في السبعينات. وتم الاتفاق على تسميتهم جيل الستينات(٧٦)، تلقى الغيطاني أسئلة مباشرة: هل تعتقد أن الشكل التاريخي قد استنفذ أغراضه فعلا؟(٧٧).
"الشكل التاريخي" لا يعني هنا الرومانس التاريخي (رواية المغامرات والفروسية) ولكن السيرة الإسلامية العربية. وبينما حاول الغيطاني أن يبرر أسلوبه في الكتابة، فقد ظهرت أمامه وواجهته تحديات ولا سيما من روائي مثله هو صبري موسى الذي قال:" كيف بإمكانك استعمال لغة بنيتها قديمة وتكنيك الحكاية فيها من عصر آخر ودون أن ترث أو تمرر معاييرها؟". موسى لم يعترض بالضرورة على إيمان الغيطاني أن الواقع الحالي في مصر (كما صوره في الزيني بركات) ليس مختلفا تماما عن ظروف البلاد في نهايات المرحلة المملوكية (القرن الخامس عشر) حسب التفاصيل التي دونها المؤرخ ابن إياس: مع ذلك كان يعتقد أن مسؤولية الفنان توجد في مكان آخر:
فالعديد من أجيال الكتاب يكتبون من زاوية نظر ساكنة (ثبات) لا تتبدل ( تحول). (٧٨). وكما ذكرت، الظاهرة الاجتماعية خلال عصر ابن إياس يمكن أن تظهر في عصرنا، والكتاب يستمرون بالانشغال بهذه الظواهر (المستعادة). وأنا لا أعترض على انهماك الكتاب وانشغالاتهم المسبقة بظاهرة من هذا النوع، ولكن أعتقد أن واحدة من مسؤوليات الكتاب الأساسية أن ينظروا نحو المستقبل.
الاكتشافات العلمية الهامة تدق على أبوابنا!. وعلى الفنان أن يسبق عصره. تابعنا التعامل مع عدد من القيم التي استعملها عدد من الفنانين في القرن الماضي. مع أن القيم والمعايير والعلاقات الاجتماعية تتبدل بطريقة تهدد المؤسسات التقليدية. لقد تهيأت للتحقيق مع شعوب "المنطقة" في فساد الأمكنة، وسيد من حقل السبانخ. لقد تعاملت هنا مع عدة مؤسسات اجتماعية أتوقع لها أن تختفي، مثل الزواج والعلاقات بين الأب والابن (٧٩).
حتى في عام ٢٠٠٢ خصص الغيطاني وقته لهاجس اكتشاف أساليب جديدة من أجل التعامل مع "الحاضر" ومع تفسير باطني "للمستقبل" بصيغة "الماضي". في ندوة الرواية العربية: الرؤيا الخاصة بالواقع الاجتماعي، المعقودة في مركز الدراسات العربية المعاصرة، جامعة جورج تاون، بين ١٢-١٤ نيسان عام ٢٠٠٢. أكد إلياس خوري وهو روائي له إيديولوجيا مختلفة، أن الرواية العربية ليست بحاجة للبحث عن " الأصالة" في "الماضي"، ولكن عوضا عن ذلك يجب تأسيس ذلك على أرضية علاقاتها مع الواقع الحاضر، ولا سيما الآن، فمحفوظ منح هذا النوع الأدبي تاريخا له جذور قوية في ثقافة الداخل ، يقصد ضمن حدود ومعطيات العالم العربي. والفرق الحقيقي بين خوري والغيطاني بالرغم من انشغالهما بنفس الموضوعات بالضبط وهي موضوعات "الأصالة" و" الشرعية"، يثير السؤال التالي: هل إن محتوى التراث هو مضمار اهتمامنا أم أننا نهتم بالأساليب السردية. لو أن خوري يحبذ توطين الشكل الغربي بتأسيس استمرارية في تكنيك السرد العربي، الذي يميل لتوظيفه دائما في كتاباته، يبدو الغيطاني وكأنه لا يحتاج فقط لهذه التقنيات السردية فقط لكن أيضا كل كتلة التراث والتقاليد بوزنها وشدة حضورها في الوجدان.
وعلى الرغم من بعض الإيجابيات في تلقي أعماله، والتي تعتبر "مغامرة في الشكل" (٨٠) الذي تبناه جيل الستينات، يبدو الغيطاني وكأنه منذ البدايات قد أوضح نفسه. في مقابلة عام ١٩٨٤ مع ألف، أعرب عن رغبته في "كتابة شيء لم أقرأ مثله"(٨١)- وقراءته للرواية الغربية كانت مكثفة- ولذلك آمن أن تقاليد السرد العربي يمكنها أن تكون مصدرا للإلهام وتكوين - أشكال تعبير جديدة- (٨٢).
التصعيد وليس المحاكاة لكل من شكل التعبير في الرواية الغربية وتقاليد السرد العربي كان هو الغاية. على أية حال، كان حساسا تجاه ما حققه:
لا أقول إنني إبتكر شكلا جديدا: ولكن، أحاول أن أجدد الشكل الموجود ضمن جو الرواية. الرواية الغربية، أو الرواية المعروفة المكتوبة ضمن إطار موجود منذ أيام دون كيشوت وحتى ما يسمى الرواية الجديدة في أوروبا وأمريكا، هو النموذج الذي يجب على الروائيين العرب أن يقتدوا به. ما أحاول أن أقوم به هو أن إوفر الأصالة للشكل من خلال ربطها بالجذور المتوفرة في التراث. في المعنى الواسع للكلمة، أستفيد من التقاليد الشفاهية، أو التراث الفولكلوري، الذي أضفته للبنية بشكل أساسي والشكر يعود لتربيتي في مصر الفوقانية ولمنطقة الجمالية، وللتقاليد المكتوبة(٨٣).
هذه الحساسية مفهومة. في ذلك الوقت كان يفكر بقليل من الأمثلة عما يعنيه. وذكر للتأكيد على فكرته رواية إميل حبيبي الوقائع الغريبة لاختفاء سعد أبي النحس المتشائل (١٩٧٤) ورواية محفوظ ملحمة الحرافيش (١٩٧٧)، ورحلة ابن فطومة (١٩٧٩) وليالي ألف ليلة (١٩٨٣). ومع تطور كتلة الأعمال المصنفة الآن في مدرسة الكتابة الجديدة ، سواء على صعيد الرواية أو الدراسات النقدية المعاصرة، إن إيمان وثقة الغيطاني توسع وتحول إلى تيار. ويمكنه الآن أن يؤكد على أدواته ودورها التطبيقي في "ابتكار" شكل متميز وجديد خاص بالرواية العربية (ص٨٤).
في مقدمته لمنتهى الطلب في تراث العرب: دراسات في التراث (١٩٩٧) يتكلم الغيطاني عن " الرغبة والطموح منذ أن بدأت الكتابة، بالتحديد عام ١٩٥٩، لابتكار أشكال تعبير جديدة"(٨٥). لقد وجد بالعودة إلى التراث، "أفضل شكل" للكتابة، سمح له بحرية التفكير الضرورية،و أن يبتكر ويتابع مع أشكال التعبير القديمة (٨٦). ونجم عن نجاحه تيار جديد والآن بمقدوره أن يتكئ على إنجازاته ويفكر بنفسه كمؤسس لاتجاه جديد. وعنوان كتابه حافل بالاحتمالات. لا يحتمل الغموض، ورسالته واضحة. وسواء كان هذا يعني " الحد الأعلى" أو "نهاية" البحث والتفتيش عن التراث العربي، لا يوجد شك أن الكتاب موجه للدفاع عن التقاليد العربية والتي يمكن استخلاص أشكال أدبية
سردية جديدة منها. لقد قدمت التقاليد للغيطاني الحدود، والغيطاني في نظرته للتراث الثقافي كجزء من الخبرات المعاشة والحية، يتكلم عن العمارة الإسلامية وتخطيط المدن، والمدونات التاريخية والمصنفات الجغرافية، ويكتب مقالات عن السحر وما بعد الموت، وعن الأدب الصوفي كجزء من التراث العربي الإسلامي والذي قد يخدم تقاليد السردية العربية.
ومفهومه للتقاليد يذهب لما وراء مجال الليالي، والملاحم الشعبية، وحكايات الفولكلور والمقامات، وكتلة الحكايات قبل الحديثة كما تعرف عليها الآخرون بالإضافة لتراث الحكاية المروية شفاهيا. وتعريف الغيطاني للتقاليد وتقديم "مدرسة توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة" ، ولا سيما بالتلازم مع التاريخ الذي يحيل إليه دائما وهو هزيمة ١٩٦٧ واعتباره حافزا للتغيير، هو موضوع مسار إشكالي.
أولا، إن مجال التقاليد التي عالجها الغيطاني هي إسلامية عربية وتستبعد كل المحتويات غير العربية: السابقة على الإسلام ( كالبابلية والفينيقية والفرعونية) أو غير العربية ( مثل البربر في المغرب) او اللاإسلامية ( مثل القبطية في مصر). ثانيا، التاريخ أكثر توافقا مع تطور الرواية في مصر وفلسطين، ولكن ليس بالضرورة في أجزاء أخرى من العالم العربي أو الدياسبورا. فقد شهد المغرب والعراق صعودا مفاجئا في اهتماماته بالتراث العربي خلال العقد الأخير من القرن العشرين. فأعمال المغربي سالم بن حميش مثل مجنون الحكم (١٩٩٠)، محن الفتى زين شامة ( ١٩٩٣)، والعلامة (١٩٩٧) تبدو ذات علاقة بالسؤال الأقرب للمرحلة الحالية الذي يتعلق بالهوية وإشكالاتها في البلاد. لقد تعرضت الهوية المغربية، كما بين المؤتمر الأول حول هذا الموضوع عام ١٩٩٧ (٨٧) لتحديات واضطرابات نجمت عن صعود البربر والخطابات الإسلامية في المغرب وكذلك عن تبدل علاقات المغرب مع فرنسا، أحد مستعمريها السابقين. وفي العراق، سابع أيام الخلق (١٩٩٤) عالجت حرب الخليج والحصار اللاحق بعد عاصفة الصحراء، وعلى ما يبدو إنها حرضت على هذا النوع من ردود الأفعال في الداخل والخارج. وسليم مطر (سليم مطر كامل) وهو كاتب عراقي يعيش في سويسرا، كتب روايتين، امرأة القارورة (١٩٩٠) والتوأم المفقود (٢٠٠١)، كردة فعل على الآثار الناجمة عن الأحداث الحالية في العراق والتي قادته إلى التعريف بالمشاكل التي شرحها في دراسته (الذات الجريحة: إشكالات الهوية في العراق والعالم العربي الشرقاني )(١٩٩٧).
وقد وثق مؤرخو الرواية العربية ، بالقرائن وليس بالنموذج، الأوهام التي تشكلت وأحيانا الاستيعاب العلني للأجناس الحكائية غير الحديثة عند العرب وكذلك السرديات البدائية. فقد تم تصنيفها بلا ضوابط ضمن الرواية العربية دون أن يترافق هذا الاتجاه مع تحليل وتبرير مناسب. من جانب آخر إن النقاد، الذين اقتربوا من الموضوع، قد ركزوا عليه من زاوية حالات خاصة، أو من خلال كتاب وأعمال محددين. ويبدو أن الغيطاني حصل على نصيب الأسد من الاهتمام النقدي. وأعمال محفوظ والمسعودي(٨٨) وحبيبي وحميش (٨٩) جذبت الانتباه أيضا. ويبدو أن تأثير الليالي على الرواية العربية حصل على حظ أكبر؛ والإشارات لهذا التأثير بعيدة ولكنها عميقة والتحليلات النقدية تبقى متفاوتة. وإن رمز شهرزاد ، وليس الشخصية المتخيلة، قد تمت دراسته في سياق الفكر العربي المعاصر (٩٠). وإن إعادة المعالجة لليالي عند محفوظ (٩١) وحبيبي (٩٢) قد حاز على مناقشات في عدد من المقالات الهامة. وبالنسبة للنقاد الذين كتبوا عن الموضوع، فقد نظروا إلى تقاليد الكتابة العربية على أنها ثانوية وليس لها الدور الأول في صياغة الرواية العربية تاريخيا، فقد كان دورها محدودا في تقديم استراتيجية سردية بديلة أو أصوات جديدة في الرواية العربية. لقد حان الوقت للانتباه لمقولة روجير ألين (٩٣) وأن ننظر لهذه الكتلة من الأعمال الأدبية ليس ببساطة على أنها نصوص مبعثرة، وكل منها ينقل لنا حكايته عن التناص مع تراثها الخاص، ولكن كمشروع جماعي يشترك في سرد رؤيا خاصة تمهد الطريق لحداثة ثقافية عربية وأدب عربي وفوق ذلك أيضا لتشكيل خطابات أخرى تتناول هذه الحداثة وتبشر بها.
هوامش:
٣٩- انظر التقاليد والغرب في الأدب العربي، إعداد: عيسى ج. بلاطة وتيري دي يونغ ، منشورات جامعة أركنساس. ١٩٩٧.
٤٠- انظر رشيد العناني، الغرب في كتابات العرب: لقاء الشرق مع الغرب في الرواية العربية. ( روتليدج، لندن، ٢٠٠٦). كامران راستيغار، الحداثة للادبية بين الشرق الأوسط وأوروبا: المحاضر المكتوبة في أدب القرن التاسع عشر العربي والإنكليزي والفارسي ( لندن، روتليدج. ٢٠٠٧).
٤١- انظر أيضا برهان غليون، اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية (بيروت: دار التنوير،١٩٨٥)، مجتمع النخبة (بيروت، معهد الإنماء العربي، ١٩٨٦). الوعي الذاتي (الدار البيضاء، منشورات عيون، ١٩٧٨). حسن حنفي، التراث والتجديد، موقفنا من التراث الغربي: مقدمة في علم الاستغراب (القاهرة: الدار الفنية للنشر والتوزيع، ١٩٩١). محمد عابد الجابري ،إشكاليات الفكر العربي المعاصر (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ٨٩١٩)، التراث والحداثة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ١٩٩١)؛ حسن حنفي ومحمد عابد الجابري ، حوار المشرق والمغرب (القاهرة، مكتبة مدبولي، ١٩٩٠)، وجورج طرابيشي، المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي للعصاب الجماعي (لندن: رياض الريس، ١٩٩١)، مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة (لندن: رياض الريس،١٩٩٣).
٤٢- ألفريد فرج، الملاحة في بحار صعبة. القاهرة- دار المستقبل العربي، ١٩٨٦. ص٣٠٦-٣٠٨.
٤٣- المصدر السابق. ص ٣٠٩.
٤٤- حنفي، علم الاستغراب. ص٧٦.
٤٥- عصفور. زمن الرواية. ص٣٤.
٤٦- محمود أمين العالم، الفكر العربي بين الخصوصية والكونية( القاهرة: دار المستقبل العربي، ١٩٩٦). ص ٧١.
٤٧- المرجع السابق. ص ٧٢.
٤٨- انظر لدراسته الخلافية عن الشعر الجاهلي. (القاهرة ١٩٢٦). وفيها حاول إعادة تقييم الشعر العربي الجاهلي بتطبيق المناهج الديكارتية.
٤٩- انظر في الثابت والمتحول: بحث في الابداع والاتباع عن العرب. منشور بثلاثة أجزاء ، بيروت ١٩٧٣. ومتوفر حاليا بنسخة معدلة في ٤ مجلدات ، لندن، دار الساقي، ١٩٩٤
٥٠- انظر التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم ( القاهرة: المركز العربي للبحث والنشر١٩٨٠)، مقدمة نقدية لمشروعه في إعادة تقييم التراث الثقافي عند العرب، من العقيدة إلى الثورة، ٥ مجلدات ( بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر. ١٩٨٠).
٥١- انظر مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط (دمشق: دار دمشق ١٩٧١)؛ ومشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الجاهلي حتى المرحلة المعاصرة. ١-من التراث إلى الثورة: حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي. ( بيروت: دار ابن خلدون ١٩٧٨). مجلد ٢. الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى (دمشق: دار دمشق ١٩٨٢).
٥٢- محمد عابد الجابري ، إشكالية الفكر العربي المعاصر (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية. ١٩٨٩. ص ٣٨).
٥٣- انظر أيضا محمد مدياني، إشكالية تأصيل المسرح العربي( قرطاج: المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون .١٩٩٣).
٥٤- مذكور في عصفور: زمن الرولية. ص٩.
٥٥- المرجع السابق. ص١٠.
٥٦- المرجع السابق. ص٥٥.
٥٧- المرجع السابق. ص ٥٦.
٥٨-الغزالي، إحياء علوم الدين ، ٥ مجلدات. بيروت: دار القلم، الطبعة الأولى. بلا تاريخ. المجلد:١. ص ٥٨-٥٩.
٥- قيسومة، الرواية العربية ص ٣٩.
٦٠- بدر، تطور الرواية. ص١٧.
٦١- غالي شكري، برج بابل، النقد والحداثة الشاردة( لندن: رياض الريس،١٩٨٩). ص٥٢.
٦٢- بدر، تطور الرواية. ص ٢١١.
٦٣- المرجع السابق: ٢١٠-٢١٦.
٦٤-شكري، برج بابل: ص ١٣٥.
٦٥- المرجع السابق.ص١٣٥.
٦٦- المرجع السابق. ص ١٠٧-١٠٨.
٦٧- المرجع السابق. ص١٠٧.
٦٨- بدر، تطور الرواية. ص ٢١٢-٢١٥. السعافين: تطور الرواية. ص ٢٢-٢٣.
٦٩- نشرت وقائع المؤتمر في فصول : ١٦/٣ (شتاء ١٩٩٧)، :٤:١٦ (ربيع ١٩٩٨)، و١:١٧ (صيف ١٩٩٨). ويبدو أن المجلة تأخرت بالصدور والتواريخ لا تتطابق مع مواعيد المؤتمر.
٧٠- محمود طرشونة، مدرسة توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة. فصول ١:١٧ ( صيف ١٩٩٨). ص ٢٧-٣٩.
٧١- المصدر السابق. ص٢٨.
٧٢- تفاصيل أوسع تراها في شكري محمود عياد: شهرزاد بين طه والحكيم،فصول ١٣ / ١ ربيع ١٩٩٤. ص ٩-١٩.
٧٣- عصفور، زمن الرواية.ص٣٣-٣٤.
٧٤- جابر عصفور، غوايات التحديث، فصول: ١٢/١، (١٩٩٣)، ص ٩-١٢؛ ١٠-١١.
٧٥- قيسومة، الرواية العربية، ص ٢٦.
٧٦- أذكر أسماء مثل صنع الله إبراهيم، عبدالحكيم قاسم، يحيى الطاهر عبدالله، يوسف القعيد وصبري موسى، وكلهم من مصر.
٧٧- مشكلات الإبداع الروائي عند جيل الستينات والسبعينات. فصول : ٢/ ٢. ( ربيع، ١٩٨٢). ص ٢٠٨- ٢١٤.
٧٨- الإشارة لنظرية أدونيس حول المبدأين الأساسيين في التراث العربي الإسلامي فالتاريخ لديه يتطور وفق اتجاهين ثابت ومتحول.
٧٩- مشكلات الإبداع الروائي عند جيل الستينيات والسبعينيات. فصول ٢ / ٢ ، ربيع ١٩٨٢. ص ٢٠٨-٢١٤. ٢١٣.
٨٠- انظر محمد بدوي: مغامرة الشكل عند روائيي الستينات. فصول، ٢/٢: ص ١٢٥-١٤٢، ١٩٨٢.
٨١- الديالكتيك ضمن النص: مقابلة مع جمال الغيطاني، ألف، ٤- ١٩٨٤/ ص ٧١-٧٢. ٧٥.
٨٢- المصدر السابق، ص٧٦.
٨٣- المرجع السابق. ص ٨٧.
٨٤- جمال الغيطاني، منتهى الطلب إلى تراث العرب: دراسات في التراث(القاهرة: دار الشروق،١٩٩٧). ص ٥.
٨٥- المرجع السابق ص٥.
٨٦- المرجع السابق ص٥.
٨٧- انظر مستقبل الهوية المغاربية أمام التحديات المعاصرة. وقائع مؤتمر عقد في تطوان ، ٦-٧ كانون الثاني ١٩٩٧ ( الرباط، أكاديمية المملكة المغربية،١٩٩٨).
٨٨- سؤال الأصالة في أعمال محمود المسعودي هو موضوع كتاب لخالد الغريبي، جدلية الأصالة والمعاصرة في أدب المسعودي (قيروان:صامد،١٩٩٤). انظر أيضا: محمود صلاح عمري، القومية والإسلام والأدب العالمي: جوانب من المؤثرات المتبادلة في كتابات محمود المسعودي. لندن: روتليدج،٢٠٠٦.
٨٩- ينظر لمجنون الحكم، رواية بن سالم حميش ، كمثال عن تحقيق تناص نوعي مع السردية قبل الحديثة ، مصطفى عبد الغني، في خصوصيات التناص في الرواية العربية: مجنون الحكم ،نموذجان تطبيقيان، فصول: ١٦/ ٤. ( ربيع ١٩٩٨). ص ٢٧٠-٢٨٩.
٩٠- انظر عبد الغني، شهرزاد في الفكر العربي الحديث( القاهرة، دار الشروق،١٩٩٥).
٩١- انظر صبري حافظ، جدلية البنية السردية- المراقبة في ليالي شهرزاد ونجيب محفوظ، فصول ١٣ / ٢. ( صيف: ١٩٩٤). ص ٢٠-٦٩. وفريال غزولي ، الشعرية الليلية: الليالي العربية في الدراسات المقارنة.القاهرة: منشورات الجامعة الأمريكية. ١٩٩٦.
٩٢- انظر آنا زامبيلي سيسونا،
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |