في حضرة الذاكرة/ وين جين أويان تردمة
خاص ألف
2016-07-30
ما ندعوه اليوم باسم الذاكرة هو ليس ذاكرة لكنه تاريخ. وما نقول عنه جدلا إحياء الذاكرة هو في الواقع رعشتها الأخيرة حينما تستهلكها الثيمات التاريخية. والحاجة للذاكرة هي حاجة للتاريخ.
بيير نورا. مجالات الذاكرة. ص 8.
التصورات الحديثة للأمة مساحة غير ممهدة تتلازم بالضرورة مع الرغبة في إعادة كتابة التاريخ بأسلوب يمنح الأمة الحديثة بدايات تعود للماضي الذي نسيناه. وكما يقول بيير نورا في مشروعه الهام عن إعادة تركيب الماضي الفرنسي: التاريخ هو مجال الذاكرة، إنه مسألة تتلامس مع الذاكرة الجماعية التي بلا شك تبلور المكان والموضع أو تعصرن المساحة التي تحتلها الأمة(1). إن ترابط كلمات فرنسية مثل lieu ' الموضع' وmémoire 'الذاكرة' تبرهن على وجود تضمينات عميقة- تاريخية وثقافية وعاطفية وإلى حد كبير لاشعورية (فمعناها يشبه ما نفهمه من الكلمة الإنكليزية: الجذور). ويضيف نورا مفسرا: هذه المعاني الضمنية تبرز جزئيا من الدور النوعي الذي تلعبه الذاكرة في بناء المفهوم الفرنسي لمعنى الأمة، وجزئيا من التغييرات الحالية في موقف الفرنسيين حيال ماضيهم الوطني(2).
ما يقوله نورا عن إعادة بناء الفرنسيين لماضيهم والذي يستهلكونه بصورة تاريخ وطني ويستعملونه، بشكل غامض لمقاربة كل من الماضي والأمة في فرنسا، يصدق أيضا على تعبئة العرب لماضيهم كلما عمدوا لبناء التاريخ القومي العربي. والغموض الذي يلف الماضي والأمة يزيد من الحاجة إلى التاريخ، أو من الضرورة للتعامل مع الذاكرة، ولا سيما إذا نظرت للحاضر والأمة كمولود جاء بعد مخاض ثقافي إشكالي، يضع الغرب والشرق في حالة صراع. والرواية العربية، والتي تشترك مع الأمة العربية في جينيالوجيا المثاقفة، قد وضعت نفسها في صف الأمة، وساهمت في تخيل وتعويم ومجازية الأمة، بالإضافة إلى إضفاء طابع حداثوي على الثقافة والأدب العربيين في الوقت نفسه.
وقد توصلت إلى ذلك من خلال البحث عن جذور للأمة والرواية في الماضي، وغالبا بتعبئة لغة الماضي للكتابة عن الحاضر، وإشباع لغة النص الروائي بمشهد يغلب عليه الحنين العميق إلى الماضي، والأكثر أهمية الحنين إلى المستقبل والذي لم يأخذ بعد شكله المناسب والمرغوب به. إن محاكمة الماضي يبدو مرادفا للبحث عن المستقبل. ومع ذلك، توجب دفع ثمن باهظ لقاء العودة إلى الماضي، ولغة الفترة الماضية، للتعبير عن الرغبة بالمستقبل وتصوير طبوغرافيا تحديث كل من الأمة العربية وروايتها.
وفي تفاصيل العلاقة الثلاثية بين الأمة- الدولة والحداثة والتراث توضح الرواية العربية، التي "توظف التراث الثقافي العربي"، حكايتها فيما يتعلق بديالكتيك الماضي والحاضر. وهذا بدوره كان قد شذب شكله من خلال البحث عن هوية متميزة وجذور نوعية، وكذلك كان قد تحرك استجابة لمحرضات خاصة بسرد حكائيات وتدوين تاريخ. وكان الهدف هو السماح للرواية العربية بسرد مرويتها، وأن تجد طريقها الذي تروي به حكاياتها والعواقب المترتبة على استراتيجيات هذه المرويات. وكل ذلك من خلال إنتاج معنى، وتقصي شكليات الإستاطيقا التي تقاطع عندها الماضي والحاضر في بؤرة نوستالجية تحنّ إلى حاضر وماضي الأمة، والأهم من ذلك، التي تسير في ظل تاريخ الأمة والرواية التي كتبته.
وقراءتي هذه للرواية العربية استلهمت أعمالي السابقة عن السرد العربي وعن الحكائيات السابقة للحداثة.
فقد كنت أكتب مقالة عن سيرة عمر النعمان، وهي دورة ملحمية مصغرة أضيفت إلى ألف ليلة وليلة في القرن التاسع عشر، ولاحظت كيف أصبح فجأة الفرق بين قصص الحب، ذات النهايات السعيدة كما تعكسها حكائيات ما قبل الحداثة، وغيابها الواضح في السرد العربي الحديث، مهما لفهم وظيفة دورة العشق في السيرة. وعمر النعمان، مثل معظم الروايات العربية، يصف بالتفصيل نهوض الأمة وسقوطها ثم إحياءها. ولكن في هذه الحالة من خلال جينيالوجيا السلالة الملكية لعائلته.
لقد اعتمدت استمرارية هذه السلالة، إلى حد بعيد، على التزامها بقانون التزاوج الداخلي ضمن العائلة، وهو الشرط الذب يكفل لها الشرعية. إن قصص الحب هذه خطابات، ذات طبيعة استعارية، وتتناول مصير الأمة. وهذا المصير مكتوب بيد أعضاء العائلة الذين يشكلون نواة الأمة في سلوكهم العشقي: فالأمة تنهض حينما يكون موضوع الحب ملتزما، وتسقط حينما تنتهك الشروط، وتصبح المشروعية مجالا للشك. وحينما تحترم قصة الحب كل متطلبات الشرعية، تتماسك الأمة. وقصص الحب في الرواية العربية تدور حول الرغبات المكبوتة، والآمال المغدور بها، والوعود غير المتحققة، وخيانة الثقة والمصائر التراجيدية. ومن زاوية مقارنة يمكن قراءتها وكأنها بيان للرواية العربية وكذلك للأمة المجزأة في دول عربية حديثة، والتي لا تزال تتعاطى مع مشاكل تتعلق بالمشروعية.
وعلى مستوى آخر، كانت حبكة الرواية العربية التي استعملت التراث، هي، بين أشياء أخرى، قضايا الغرام مع الأمة- الدولة. وحبها للأمة- الدولة، في كل الأحوال، مسكون بالعلاقات الإشكالية التي تعاني منها الأمة- الدولة ولا سيما في مشاكل الحداثة والتقاليد. وفي هذا الخصوص كانت الرواية تعبر عن قلقها من جذور السلالة. فالغرب كان يلعب في الظلام "وعليه أصبحت الدولة-الأمة والحداثة" أغرابا غير متفاهمين أو شركاء للتقاليد والرواية ولكن بلا غطاء شرعي. وأصبحت التقاليد هي الغريب أو الغريم النوعي للأمة- الدولة والحداثة والرواية. وأي نوع من الارتباط أصبح بالتعريف: إمكانية للاغتراب والانعزالية مع تعريض المشروعية للمساءلة. ولو تفحصنا عن قرب قصص الحب التي تتحرك خلف سياسة الرواية العربية تبدو لنا المسألة وكأنها تقمص لبويطيقا الحب عند العرب، فهو ليس موروثا في حكائيات ما قبل الحداثة فقط، ولكنه أيضا موروث في الشعر العربي الكلاسيكي والحديث، وهو تعبير عن إستاطيقا وأخلاق وسياسات الكتابة التي تميز الثقافة العربية في ماضيها وحاضرها.
حرضت الرواية العربية أفكارا معروفة عن العشق الحرام في الشعر والحكاية العربيتين- الحب والرغبة والنوستالجيا والحمق- وهكذا أخبرتنا عن مطامح العرب في مجالات الأمة والحداثة، ولكن أيضا عن خيبة أملهم في الدولة والتحديث. وذلك من زاويتين مختلفتين ومتقاطعتين تجدهما في ديالكتيك الماضي والحاضر. لقد عالجت الماضي من خلال موشور الحاضر، وذلك بتصور الحالة السياسية للجماعة ورغبتها بالحداثة، ولكنها نظرت إلى الحاضر بعين الماضي وأضفت عليه مجازا يؤمثل الدولة- الأمة ويفحص أساليب التحديث ودور التقاليد في هذه السيرورة، وفي نفس الأثناء ينقل لنا حكاية البحث عن شكل مناسب. وفكرة هذا الكتاب، سياسة النوستالجيا في الرواية العربية، والمجلد الآخر (بويطيقا الحب في الرواية العربية) يستفيد من الرؤيا البديلة والديالكتيك المختلف للماضي والحاضر، وكذلك من دور الجهد الذي يتخلل فكرة العشق الموروثة في تعابير الرواية العربية وحنينها لشكل مستقر، وخطاباتها حول مثلث الأمة والحداثة والتقاليد، والتاريخ الذي دونته من أجل العقل العربي والرواية العربية.
لقد درست في (بويطيقا الحب في الرواية العربية) كيف يحرك الحاضر الماضي في تطوير وبناء الأمة وتحديثها في السرديات التي تتكلم عن الحب والرغبة. وبالانطلاق من هذه الفكرة باعتبار أنها موضع تبدلت عنده الأفكار المتعلقة بالمكان، الذي لعب دورا في ديالكتيك الحاضر والماضي، نظرت إلى الأساليب التي أخذت بها الرواية العربية شكلها، وفي نفس الوقت منحت شكلا لما يمكن تسميته مساحة الأمة- الدولة. وتحريت عن منطق الرواية العربية بخصوص قلقها حيال مشروعها الناقص الذي غدر بالأمة- الدولة في الوقت الحالي وكيف رأت أنه يشبه الحب المضطرم الذي لم يبلغ نهايته السعيدة. وتفحصت أساليب الرواية العربية التي عبرت عن رغبتها في الحداثة، والأساليب التي تدخلت وتوسطت بها لإنجاز الخطاب ( بالمعنى الفوكوي للكلمة)، وهو خطاب تحديث حرضته التلاقيات بين تيارين، الأول لإنهاء الاستعمار والثاني لإنجاز الحداثة. وانتهيت بنظرة عن مقربة لتيار النوستالجيا في الرواية العربية والذي تورط في إضفاء طابع مجازي على الأمة وحقيقة استحواذ الماضي عليها. وبقي أن أتابع من حيث انتهيت وأنتقل باهتمامي إلى إعادة تشكيل فكرة النوستالجيا والحمق في الرواية العربية.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |