طرائف من عالم القطيع
2016-09-17
طلب مني أبو المراديس أن أبلغ مُحبيه أن يحبوه بلطف. قال إنه لا يريد أن يكون مثل الشاعر الذي وقف في حضرة الخليفة المُكَلَّف بتبديد ثروة شعبه المحفوظة في "بيت مال المسلمين"، وألقى قصيدةً عامرة بالكذب، والنفاق، والتزوير، فانتفش الخليفةُ مثل الديك المزابلي الأمعط، وقال لحاشيته: احشوا فمه بالدُرّ.
يتخيل أبو المراديس أن عملية حشو فم الإنسان بالدُرّ تتطلب أن يُجْلِسوه، عنوةً، على كرسيٍّ شبيه بكرسي طبيب الأسنان، ثم تبدأ عملية إدخال مجموعة من الأحجار الكريمة القاسية في فمه، من دون استخدام السائل المخدر (البنج)، ثم يُغلقون فمه، ولا يسمحون له بفتحه، ومنها جاءت العبارة القائلة: لا فُضَّ فوك.
وقال: يقتلُ الحكام أبناء شعبهم، أو يحشون أفواههم بالمال، لأننا محكومون بثقافات قَبَليّة، تقوم على العصبيات والتكتلات وهيمنة الحس الجمعي، واتفاق الجميع على احتقار الفرد وحريته وكرامته.. فمن أقوالنا المأثورة (البلاء عام والرحمة مخصّصة)، وأفضل نصيحةٍ يوجهها واحدُنا لنفسه هي: إذا جُنَّ أهلُك فإن عقلك لا يفيدُك. وأحسن ما نحفظ من شعر العرب قولُ دريد بن الصمة:
وما أنا إلا مِنْ غزيَّةَ إن غَوَتْ/ غويتُ، وإن تَرْشُدْ غزيَّةُ أرْشُدِ
وإذا نادى منادٍ، على نحو مباغت: عليهُمْ عليهُمْ، نعرفُ أن علينا أن نقارع أناساً لا على التعيين، ونقاتلهم، ونقتلهم. لا تسلْ مَنْ يكون هؤلاء الناس الذين سنهجم (عليهُم عليهُم)، فليس مهماً أن نعرف مَنْ يكونون، ويكفي أنهم ليسوا من جماعتنا، ولا من رَبْعنا، ولا يلوذون بنا.
عشنا، في ظل هذا المفهوم، عشرات السنين، وبالأخص في أثناء حكم حزب البعث القومي، العروبي. ومن طريف ما وصل إلينا، في هذا السياق، أن رئيس الجمهورية الأسبق أمين الحافظ كان لا يقبل أن يُسْألَ أو يُساءلَ أحدٌ من الرفاق البعثيين، مهما سرقوا أو استبدّوا، وكان يجيب عن هذا قائلاً: هدول رفقاتنا، وما بيجوز الواحد يحكي على رفقاته وأبناء حزبه بسوء.. ولا تنسَ أنهم مناضلون، كانوا ينفسون دواليب سيارات المعارضة.
كان هذا الشعور الجمعي القطيعي، أيام أمين الحافظ، في بداياته. وفي أيام الدكتاتور حافظ الأسد، تطورت حالة التمترُس الجمعي، والعداء للفرد، إلى حد أنها أصبحت تعني التفاف "الجماهير" حول قائد المسيرة الذي يُحَبُّ، ويُمَجَّدُ، ويُقَدَّسُ، ويُنْتَخَبُ بنسبة 99,99%، وأما معارضوه القلائل، فلهم الاعتقالُ، والتعذيب، وربما التصفية الجسدية، ولأهاليهم العَزْلُ والنَبْذ والحرمان من الحقوق المدنية.
كان، في إحدى المحافظات السورية، أيام حافظ الأسد، رجلٌ طريف، يعمل بصفة مدير لأحد المراكز الثقافية الصغيرة. كانت لهذا الرجل علاقاتٌ قوية مع الشُّعَبْ المخابراتية الكبرى في دمشق، وضباط القصر الجمهوري، ومديري الشركات، ووزير الإعلام، وأعضاء القيادتين القومية والقطرية لحزب البعث. وكان راضياً بعمله الإداري الصغير، لأنه، ويا للغرابة، يحب أجواء المثقفين والأدباء والمفكرين أيضاً. وكان هناك تَحَدٍّ دائم بينه وبين القادة البعثيين في المحافظة، فكلما أعلنت القيادة القطرية عن تشكيل فرع جديد لحزب البعث، يجتمع أعضاء الفرع الجديد، ويقرّرون إقالته من منصبه، فيذهب هو إلى دمشق، ويعود بقرار يقضي بحَلّ فرع الحزب نفسه... ومن أطرف ما حصل مع هذا الرجل، أنه استضاف مرّة أحد شعراء الحداثة. وكالعادة، حضرت دورية الأمن السياسي لتراقب مجريات الأمسية. جلس أفراد الدورية في القاعة مثلما يجلس الأطرش في الزفّة، إذ لم يفهموا أي شيء مما ألقاه الشاعر الذي يستخدم لغةً غامضة. فما كان منهم إلا أن هرعوا إلى مكتب المدير وسألوه المشورة، لأن عليهم واجب كتابة تقرير حول القصائد.
ضحك صاحبنا، حتى كاد أن يسقط على الأرض، وقال: علي الطلاق بالثلاثة أنا مثلكم لم أفهم شيئاً من القصائد. قالوا: فماذا نكتب في التقرير؟ قال: اكتبوا هذا الشاعر من جماعتنا.
يعني: من القطيع
عن السوري الجديد
08-أيار-2021
08-أيار-2021 | |
20-آذار-2021 | |
20-شباط-2021 | |
31-تشرين الأول-2020 | |
17-تشرين الأول-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |