جانبُ الصوابَ مَن يصف مبدعاً بأنه "خارق"، فالأمر الطبيعي أن يكون خارقاً، وليس من المعقول أن يكون هناك "مبدع إلى حد ما"، و"مبدع نص على نص" .. يمكننا أن نضيف إلى كلمة خارق، أحياناً، صفة "جداً"، كما في حالة الموسيقار بليغ حمدي .. السببُ أن بليغاً استطاع دخول عالم الملحنين الكبار، في أواسط الخمسينيات، من دون أن يعاني من وجود قاماتهم العالية قبله، بل ربما تضايق بعضُهم من انضمامه السلس إلى صفهم، وراحوا يتهامسون: "الواد ده طلع لنا منين؟"
لم يولد بليغ من فراغ، فعائلته تنتمي لنخبة علمية وأدبية رفيعة، والده عبد الحميد كان عالم فيزياء، ذا مؤلفات علمية، حاصلاً على جوائز تقديرية، وعازفَ عود، ووالدته شاعرة تمدح بشعرها سعد زغلول، حتى إنها أطلقت على أحد أبنائها اسماً مختلفاً عن اسم العائلة "مرسي سعد الدين"!. وكان بين أصدقاء العائلة شخصيات فنية كبيرة، كمحمد القصبجي وزكريا أحمد. وهكذا تعلم بليغ العزف على العود وهو في التاسعة من عمره، وصار يغنّي بين أقرانه في المدرسة، وبعد الانصراف يستمع إلى أسطواناتٍ للمطربين الكبار، ويقول لنفسه: "المطربين دول لما أكبر حَ لَحَّنْ لهم". وقد لحن لهم بالفعل، جميعاً، عدا مطربتين بقي التلحين لهما حسرةً في نفسه، أسمهان وليلى مراد.
في مثل هذه الأيام، في الخامس من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1960 غنّت أم كلثوم، أول مرة، من ألحانه، أغنية "حب أيه"، وبعد يومين فقط، في السابع منه، احتفل بليغ بعيد ميلاده الـ 29. وأشير هنا، وأنا أخوكم، إلى خطأ ارتكبته معدّة برنامج "على ضفاف النيل" في مقابلة أجرتها مع بليغ، فقالت إنّه لحن لأم كلثوم أغنية "حبّ إيه" وعمره 23 سنة، وخلال الحوار انساق بليغ باللاشعور مع هذه الفكرة، وقال إنه أخذ كلمات لازمة أغنية بعنوان "حب أيه" من صديقه الشاعر الذي كان مغموراً يومذاك، عبد الوهاب محمّد، ولحنها، ولم يكن قد أعطاها لأي مطرب، جرياً على عادته، فبليغ يجهّز اللحن ويغنيه بصوته قبل أن يتفق مع مطرب أو مطربة على أدائه. وكان الموسيقار محمد فوزي، صاحب شركة أسطوانات "مَصْرفون"، قد سمع تلك اللازمة منه، وأعجب بها، ودعاه إلى سهرةٍ في منزل الأستاذ زكي سويدان، وكانت ضيفة السهرة أم كلثوم، ومعها ابنُ أخيها المطرب إبراهيم خالد، وأحضر محمد فوزي العود، وطلب منه أن يغنّيها، فغناها على استحياء (لأن أم كلثوم لها رهبة) وأعجبت بها، وطلبت منه أن يمرّ عليها في اليوم التالي في فيلتها، ثم مرّ، وعرضت عليه فكرة أن تغنّيها، فوافق مسروراً، وكان عمره، 23 سنة.
هذه الرواية تعني أن ذلك اللقاء حصل في سنة 1954، لأن بليغ مولود في سنة 1931، وهذا غير صحيح لسببين، الأول أن بليغاً، في المقابلة ذاتها، يقول إن أم كلثوم كانت، في تلك السنة، قد تصالحت مع زكريا أحمد، وغنّت له "هُوَّ صحيح الهوى غلاب"، وأن زكريا أحمد أثنى على بليغ، وهذا دليلٌ على عظمته واعتداده بنفسه.. ومعلوم أن تلك المصالحة وقعت في سنة 1960، حيث اتفق زكريا مع أم كلثوم أن يلحّن لها ثلاث أغنيات، ويتقاضى عن كل أغنية 700 جنيه، ولكنه مات في 1961، بعد أن غنت له "الهوى غلاب". والسبب الثاني أن بليغاً يقول، في مقابلة أخرى، إن المشرف على البرامج الغنائية في الإذاعة، محمد الشجاعي، أدخله الإذاعة، سنة 1955، بصفة مطرب، وعندما ألحّ عليه أن يغير صفته إلى "ملحن" طلب منه أن يلحن أغنية لفايدة كامل، ففعل.
أخيراً: يقول محمود سعد، مقدّم برنامج "باب الخلق"، ما معناه إن سيد درويش كان يستمد غناءه من الشعب، ولم يشبهه أحد بعد ذلك سوى بليغ حمدي. وهذا صحيح.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...