بعنا الجحش واشترينا الطعام بثمنه
خطيب بدلة
خاص ألف
2021-02-20
حدثني أبو الجود عن المرحوم والده الذي كان يهتم بالحمار ويصر على تسميته (الجحش)، لأن كلمة حمار - برأيه - شامية، ونحن في إدلب نقول (جحش) ولا نقول غيرها، وأهل الساحل السوري يسمونه (الكرّ)..
وقال لي أيضاً إن اهتمام والده بالجحش كان يصل إلى درجة أنه اقتطعَ مساحةً من المنزل وبنى فيها غرفة صغيرة وقال له: هاي للجحش، لأن هادا، يا ابني يا جواد، له روح، متلنا، يبرد في الشتاء ويتضايق من الحر في الصيف.. ومن عدا النواحي الإنسانية، نحن مصلحتنا أن يبقى الجحش بخير وصحة جيدة، لأنه يشيل معنا كل الأحمال الثقيلة، وبصراحة أكثر، يا ابني يا جواد، هادا الجحش عم يشيل معك أنت! لأنه أنا ما لي في الدنيا غيركم إنتو التنين.
وضحك أبو الجود وقال: يكتر خيره أبي، تبين لي أنه يحبني متلما بيحب الجحش، وربما أكتر!
المهم، سيدي، كان لأبي ابن خال اسمه فارس، غادر إدلب قبل نحو ثلاثين سنة وتزوج من امرأة حلبية غنية، وهذه المرأة غَيَّرَته، وجعلته يعيش معها في "منتزه السبيل" بحلب عيشة أرستقراطية باذخة، وكانت علاقة أبي به جيدة وقوية قبل ذلك، ولكنها أصبحتْ مُحْرِجة للطرفين بعد التحولات التي طرأت على حياة فارس.
وفي ذات يوم، سمعنا زمور سيارة آتية من بعد مئتي متر، لأن الحارة التي نسكنها لا تستطيع أية سيارة دخولها، وبعد بضع دقائق سمعنا وقع أقدام في الزقاق، ثم طُرق الباب بطريقة فيها الكثير من المونة ورفع الكلفة، وحينما فتحتُ الباب دخل فارس وزوجته وولداه الأنيقان المرتبان وابنتاه الجميلتان اللتان تخرجان سافرتين كأمهما، بل وبثياب قليلة الاحتشام، وبدأت المصافحة والتبويس، وأهلين بابن العمة، وأهلين ببنت الخال، وأهلين حجة نورا، والضيوف كلهم، رجالاً ونساء سلموا عليّ بحفاوة، وقبّلوا وجنتيَّ، وواحدة من البنات قبلتني بطريقة غريبة، وقالت لأختها همساً: ياي، ما أحلاه!
قال فارس مخاطباً أبي:
- علينا أن نوضح لكم أننا سنبقى في ضيافتكم حتى الساعة الرابعة بعد الظهر، ثم نتابع إلى اللاذقية.
قال أبو جواد: عال! يعني نتغدى معاً، وتغادروننا بالسلامة.
قال فارس: لا بأس، ولكن انتبه، نحن لا نريد أن نثقل عليك، يعني لا داعي لأن تحضروا لنا مئة شكل ومئة لون، يكفي قليل من صفايح اللحم بعجين، وقليل من الشعيبيات الإدلبية بالقيمق، واعطسْ يرحمْك الله!
ضحك والدي ضحكة صفراوية لا يمكن للشخص النبيه إلا أن يلاحظها، وقال لابن خاله فارس المتمدن حديثاً:
- تكرم عينك يا ابن خالي، هذا أهون ما طلبتم!
ثم غمز لي بعينه أن أتبعه إلى الداخل- اسمع ما سأقوله لك ولا تقاطعني، ولا تتلفت، ولا ترفرف بعينك أثناء حديثي. يا ابني يا جواد، أنت تعرف (أبا عبدو الفيلوني)، داره في آخر الزاروب. إنه رجل طماع يحصِّلُ من وجه الأمرد شَعرة! البارحة، بعد صلاة الصبح رآني راكباً على جحشنا، فضربه بنظرة حسد كاد أن يقتله بها، وعرض علي أن أبيعه له. ومع أن جحشنا لا يسوى أكثر من أربع ليرات قال لي إنه مستعد أن يشتريه بأربع ليرات وربع. المطلوب منك الآن أن تدخل إلى الزريبة، وتفك رسن الجحش وتأخذه إليه،.. قل له توكلنا على الله وبعناك. فتبعته. وهناك قال لي:
الجحش. واقبض منه أربع ليرات وربع، وإذا أظهر مزيداً من الطمع لا بأس أن تسامحه بربع ليرة، واذهب على الفور إلى السوق، وأوص لنا على رطل صفايح باللحم والعجين، مع اللبن والخبز والبصل ودبس الرمان، وأوص عمك أبا وليد العاشور على صدر شعيبيات يلعب عليه الخَيَّال، ولا تعد إلى هنا إلا وكل هذه الأشياء معك.
نفذتُ أوامر أبي بحذافيرها دون تردد أو تذمر، وأكل الضيوف ما حضر من الطعام بتلذذ ومرح، ثم غادروا وابنتهم تنظر إلي نظرات حارة.
قلت لأبي الجود: وبعدها؟ أيش صار؟
فضحك حتى كاد أن ينقلب على قفاه وقال لي:
- كان أبي قد وزع العمل بيني وبين الجحش بالعدل والقسطاس، ولك أن تتخيل ما جرى لي بعد أن بعنا الجحش!