الجنون في الأدب العربي : بين الحلم و الذاكرة / وين جين أويان ترجمة
خاص ألف
2016-10-01
توجد استثمارات كثيرة للأمة- الدولة من الناحيتين الإيديولوجية والعاطفية، والأهم في الجانب الإبستمولوجي والأنطولوجي. منذ نهاية النصف الأول من القرن العشرين، تعلقت كل آمال المستقبل بالأمة- الدولة. و كان أهم مشروعين للقومية العربية في القرن العشرين هما القضاء على الاستعمار والتبشير بالحداثة. وكلاهما استثمره "مجتمع سياسي متخيل" كان عليه أن ينهض من رماد "المجتمع الديني" و"الفضاء العائلي" ويأخذ "شكلا" مناسبا هو صيغة من صيغ الأمة- الدولة ذات النوايا الإمبراطورية.
هذه الأمة- الدولة، نتوهم أنها حديثة وتقدمية وديمقراطية، وأنها في الوقت نفسه أصيلة ولها عمق تاريخي، تنعم بقوة سحرية تضمن لها القدر السعيد على مستوى الأفراد والجماعات. وهذا هو، في الواقع، الشكل النهائي لمشروع تحرير الأفراد والمجتمعات. وهو ما سيحرر الأمة من القبضة الحديدية لتسلط الاستعمار، ويطلق سراح الأفراد من طغيان المؤسسات الدينية والثقافية والسياسية التقليدية التي انتهى أجلها.
وفي ذروة خرافة اليوتوبيا القومية في غضون مطلع عصر الاستقلال وحركات التحرر الوطنية، كان من المتوقع تبديل العالم بجهود فردية، فالفرد انتقل من الهامش إلى المركز وأصبح موضوع المعرفة ووسيطا في العمل السياسي. ولم يكن من المستغرب أن تصبح الأمة- الدولة العلامة الأساسية على صعيد الجماعة وكذلك على مستوى الهوية الفردية. وقد كانت الهوية، في ظل ظروف حركات التحرر الوطني المتداخلة في النصف الثاني من القرن العشرين، بالضرورة وبكل تأكيد هي التعريف المتطابق مع مفهوم الأمة- الدولة.
لكن هذا الاستثمار الثقيل للأمة- الدولة لم يناسب الأفراد أنطولوجيا منذ أول بوادر تخيل الأمة- الدولة بصورة مجتمع سياسي مثالي. كانت القومية تعني بمفردات أندرسون: تخيل الأمة- الدولة، وبمفرداته أيضا: كانت تعاني من الفقر والضحالة النفسية. لقد كان الفكر القومي منذ بداياته موبوءا بمشاكل معرفية، وتجد ذلك بأجلى صوره حتى في الحدود الضيقة التي تنظر بها الرواية العربية إلى الخطاب القومي. فقد رأت أنه مجرد مضمون موروث يعمل على تخيل المجتمع أو المجاز القومي.
وهذا يمكن ملاحظته في الأساليب التي اتبعتها قصص صعود وسقوط الأمة- الدولة، وقصص تطبيق الحداثة في حدود الأمة- الدولة، وكذلك قصص تكوين التقاليد التي تحركها طموحات الدولة - الأمة لتكون أصيلة. لكن النتائج لم تحمل غير الفشل الذريع، ومعها قدر لا يستهان به من الغش و"حكايات الحب" التراجيدي، لو اقترضنا مصطلحات جوليا كريستيفا. كانت الصورة تشير لحب يموت، ولرغبة غير مقبولة، أو لخسارة لحقت بعاطفة النوستالجيا. وهناك أيضا الكثير من الحركات الخاطئة في إطار التفكير الجنوسي داخل التصورات العربية للمجتمع وللمجاز القومي.
وغالبا ما كانت الأمة- الدولة لا تهرب من التأنيث. فهي تأخذ صور: عشتار، وفي نفس الوقت الأم، والأخت، وعشيقة تموز، الذي نعتبره رمزا من رموز الذكورة والبطولة القومية. هذا غير ابتلاء الأمة- الدولة بالازدواجية. فالأمة هي شهرزاد، وعليها أن تعيش باستعمال حنكتها، والدولة هي شهريار، البطريرك الطاغية.
والحداثة، كما عبرت عنها الأمة- الدولة، موضوع رغبة أنثوية مغوية تعمل الذات المذكرة على تحريرها من الاستعمار لتنفرد (أو تختلي) بها. ويمكن أن تقول نفس الشيء عن التقاليد الجديدة التي لها هدف واحد وهو توفير الأصالة لمعنى الأمة- الدولة، شبيهة عشتار، التي تلغي الحدود الفاصلة بين الأم والأخت والحبيبة.
وشخصية ورقة التي صورها عبدالخالق الركابي، وهي موضوع الرغبة ورمز "التقاليد" في روايته (سابع أيام الخلق)، تشير إلى أنو، ربة الخصوبة، وسين، ربة الحرب، في الميثولوجيا الرافيدينية. ويبدو حب الأمة- الدولة قضية معقدة. إنه عشق جنوني. ولا أحد يفهم هذا العشق الجنوني مثل محمود درويش (١٩٤٢- ٢٠٠٨)، الشاعر القومي الفلسطيني. فقد استوعب في كتاباته بارادايم العشق... بالإضافة إلى الجنون النوعي في شعريته الوطنية. وفي مجموعته (عاشق من فلسطين-١٩٦٦)، والإشارة هنا إلى القصيدة والديوان، يرتفع درويش إلى مستوى الشاعر القومي الفلسطيني، فهو يوظف سرديات السياب المصابة بهذيان عشقي للأمة، ويمزجها مع العاطفة النوعية لقصائد الحب في شعر قباني.
إن هذه القصيدة هي أنشودة حب مهداة إلى امرأة، والتي هي، بنظره، وطن تعرض للاعتقال والخطف حينما حاول أن يستدل على طريقه إلى الحرية والحداثة. و كذلك تعرض للاغتيال حينما حاول بناء مشروع الأمة.
تبدأ القصيدة مثل "أنشودة المطر" للسياب، برثاء حزين، وفي نفس اللحظة يمكنك أن تقرأها كقصيدة حب من قصائد قباني، لما فيها من هيام استحواذي وعاطفة جياشة. وتنتهي القصيدة بالعودة إلى السياب، ولنداء الثورة الملتهب، المليء بالوعيد والتهديد والمتعطش للدماء.
والمشهد العاطفي لهذه القصيدة شديد الاضطراب؛ ويرفع الستار عن الحب كمادة قابلة للتطاير والاشتعال. فالحب يتحكم بالمشاعر المتناقضة كلها- الغبطة والحزن والوفاء والألم والبغض والغضب والثورة والانتقام والموت- ويعمد دائما للإفلات من السيطرة، والهروب من قبضة الوعي، أو العقل، لينمو في جو من الفوضى. فالعشق جنون، وأن تحب الأمة - الدولة يعني أن تصاب بلوثة الجنون.
ولكن هناك توسع بالجنون، كما أرى، في المخيال الأدبي العربي بشكل عام والرواية العربية بشكل خاص. فالجنون أكثر من مجرد تعبير عن حب مضطرب لم ينجح. وهو يخبرنا بالكثير من الأشياء عن الخبرات المعاشة التي مرت بها الأمة- الدولة ويتكلم عن مستقبل الأعمال الأدبية. والأهم، أنه يكشف العلاقة المعقدة بين نظرية المعرفة ونظرية الوجود. إن الأشكال المختلفة للحب طريقة أدبية للتعبير عن أنواع الحب والرغبة والحنين.
وهذا الثلاثي معا شكل الأساس لأي بارادايم عشقي في البويطيقا العربية. وأرى أن ذلك من أعراض، بالأحرى من نتائج، الإفراط والحرمان. إنه مرتبط غالبا بالرغبة والتي هي في جوهرها حب ونوستالجيا. وهكذا تثور ثائرة الرغبة التي لا تخضع للرقابة ولا الإشباع، وتغمر العقل الذي يتحكم، عادة، بالسلوك المنطقي للأفراد والجماعات. وتخلخل مثلث العلاقات الأساسية: العقل والعدالة والسلطة السياسية- وتضع شرعية هذه المساحة تحت الشبهات.
إن الجنون هو التعبير العميق عن مشاعر الاغتراب والضعف التي تمر بها الأمة- الدولة في حياتها حينما تكون اليوتوبيا الخيالية بعيدة عن الحالة المثالية، وتأخذ مكان نقطة قهر وقمع. وإن كشف القناع عن وجه الأمة- الدولة، التي سقطت في عالم قيامي، وأصبحت فيه الذات الفردية مجزأة، يؤدي إلى أن يستحوذ عليها باستمرار البحث عن التماسك المستحيل. وحينما لا يجد مثلث الحداثة - الذات والمعرفة والسلطة - طريقه إلى الاندماج، يفرض الجنون نفسه.
الجنون، وهذا مدعاة للتعجب، هو ثورة على الحالة، إنه يضع تحت الضغط مثلث حداثة آخر- الأصالة والابتكار والتقاليد- وينأى عن تأثيره، ولا سيما فيما يتعلق بالعقل المنطقي والخيال الأدبي. ويفتح مجالا معرفيا جديدا، ويتصل بالحقيقة، لو هناك شيء من هذا القبيل، إنما بطريقة جديدة تماما. ولا يترك لنا خيارا إلا في متابعة خطوات هذا الجنون.
لذلك توجد في الرواية العربية ثلاث أنماط من شخصية المجنون. وهي تذكرنا بـما وجده ميشيل دولس في الكتابات العربية الكلاسيكية، ويمكن حصرها في: "المعتوه الرومنسي"، "والمعتوه الحكيم" و"المعتوه المقدس". وشخصية كمال في (قصر الشوق) لنجيب محفوظ، كما أرى، عبارة عن حالة جنون مؤقت بالحب، فقد كان لعدة شهور في أحداث الرواية مثالا للـ "المعتوه الرومنسي"، مثل مجنون ليلى، لأنه رأى العالم بمنظار موشور غرامياته، أو "عشقه لعايدة". وكذلك جنون "متشائل" حبيبي يشبه "أحمق" ديستويفسكي، وكذلك "المعتوه الحكيم" في "آه كيو" لوشين لأنه يمزق قناع العبث عن الوجود الفلسطيني وهو تحت الاحتلال....
وسيمثل المجنون دور الثائر ضد القوانين المرعية في مجتمع متماسك له مشاعر مشتركة. فخياله هو عقله، وحيثما كان "العقلاء" مترددين أمام الظواهر الثقافية والاجتماعية، يمكن للمجنون إشهار أسلوبه في رؤية الأشياء وبقدر معتبر من البراءة التي تدعمها قدراته الخارقة على التنبؤ. هذا النقاء في الرؤية، والجرأة في التعبير، جعلا المجنون، تقريبا، مثالا يحتذى في الحساسية الشعرية.
*ترجمة: صالح الرزوق/ بإذن من وين جين أويان أستاذة الحضارة الإسلامية والأدب المقارن في جامعة لندن.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |