المدن التي نعشق
2016-10-29
توجه اسكندر حبش ولمصلحة جريدة السفير بسؤال لعدد من الكتاب السوريين كنت واحدا منهم وأراد من خلال السؤال الكشف عن تأثير المكان عند الكتاب السوريين الذين يعيشون في بيروت هذا نصه " غادرت دمشق وانت اليوم تقيم في بيروت، هل تأثرت الكتابة عندك بتغيير المكان؟ وأي دور كان المكان يلعبه سابقا في كتابتك .
كتبت حينها أفكر اليوم وبعد لجوء طال سنينا أن المكان هو الزمان فلا مكان عطفيا ينفصل عن الزمان. وهو ليس شيئا ثابتا بل هو متغير فالمكان لايمكن تحديده بعيدا عن الزمان الذي حدث ففي الزمن كنت تمشي فيه المرحلة الابتدائية في طفولتك ، ثم في مراهقتك وصولا إلى الكهولة هو الذي يشكل صيغة المكان والعلاقة العاطفية معه. وبهذا المعنى فالمكان هو تداخل العاطفة المتشكلة زمنيا مع برودة المكان القابع مكانه دون تغيرات تذكر.
ولنسم تلك الحالة؛ حالة ارتباط المكان بالزمان وبالذاكرة الباطنية "زمكان" وهو أختصار لذاكرة الأنسان، مطلق إنسان، ولعلاقته بالمكان وفي هذه الحالة لا يتقصد أي كاتب أن يكتب عنه بل هو موجود في مخزونه الباطني يفاجئ الكاتب حتى لو كان يكتب مقالا صحفيا في أي زمان ومكان.
شخصيا بقيت فترة طويلة من الزمن حين نقلوا لي عما جرى لشارع مدرستي الإعدادية الذي كنت أسيرعليه كل يوم خلف فتاة جميلة لأشاهدها تلتفت إلي التفاتة سريعة أوقعتني في مرحلتها الأولى في الغرام. قلت حكو لي عن الدمار الذي لحقه والحفر التي أحدثتها القنابل فيه بقيت إثرها لأسابيع طالت بمزاج سيء ومتعكر فقد دمروا جزءا من تاريخي الشخصي.
من هذا المنطلق فالمكان الطارئ أو مكان اللجوء لن يعطي دفئا كما الزمكان الذي عاش فيه المرء فترة طويلة من حياته. ويختلف الأمر من بلد لجوء إلى آخر فأنا الذي بدأت لجوئي إلى مصر والقاهرة تحديدا، ورغم القذارة التي تمكنت من شوارعها وبيوتها ومحلاتها، إلا أن ناسها بطيبتهم وحنانهم وسهولة التعامل معهم جعلت لي هناك بعض ذكريات قد تجد منفذا لها أثناء كتابتي دون إصرار مني على فعل ذلك.
كنت وخلال فترة إقامتي في القاهرة أفكر ببيروت ونظافة شوارعها وببارتها ومقاهيها وأبنيتها فهي المدينة الثانية بعد دمشق التي لها في ذاكرتي الشيء الكثير. ولكن هذا الشيء دمر فحين انتقلت لاجئا لا سائحا اكتشفت حجم البرود الذي يسكن في حجرها في بيوتها وناسها. وناس بيروت اليوم ليسوا من اللبنانيين فقط بل أصبح السوريون ينافسون سكانها الأصليين في تواجدهم الكثيف في شوارعها أعترف بأنني لن أتذكرها إذا طال بي العمر سوى كمدينة باردة عشت فيها قسوة لم أعشها طوال سني حياتي الطويلة ومقارنة بأسفاري الكثيرة.
حرض هذا السؤال ذاكرتي ورحت أتذكر تأثير المكان على كتاباتي عموما، فمثلا حين أردت الكتابة عن لقائي مع الله لأحدثه عن مكنونات صدري وهموم عشقي، وهموم سورية تحت نير الاستعمار الأسدي لها لم أجد مكانا مناسبا لهذه اللقاءات سوى جبل قاسيون. وحين كتبت عن عشقي كانت حمص ماثلة أمامي.وبعد انتقالي للعيش في دمشق التي ماعدت قادرا عن الانفصال عنها والعودة الي حمص شعرت أنني خائن ولمت نفسي طويلا على هجري لمرابع طفولتي ومراهقتي وخيانتي لها.
أكتشفت بعدها أنني أعشق دمشق أيضا كما عشقت حمص ولهما في داخلي المكانة نفسها وهذا ما أراحني نوعا ما.
أعود لأؤكد في موضوع تأثير المكان عند الكاتب أنه مالم تصبح علاقتك بالمكان تاريخا طويلا فيه تعشق وتكتب وتمشي وتفقد أحبابا وتحزن وتفرح وترقص لا يمكن بشكل من الأشكال أن يكون مكان هو طريق للعبور إلى مرحلة جديدة من الحياة.
وها أنا في اسطنبول اليوم، وبالأمس كنت في غازي عنتاب، ومن يدري أين سأكون الغد البعيد أو القريب. ولكنني أظل أنتظر فرصة للعودة إلى دمشق ولن أنتظر ثانية واحدة فيها حين يصبح يالإمكان العودة إليها حين تتغير الظروف. باختصار أنا أنتظر في اسطنبول ولم تصبح مكان إقامة ولن تكون القاهرة مكان لجوئي الأول ولا بيروت مكان لجوئس الثاني ولا تركيا ولا غيرها بديلا عن حمص وبعدها دمشق..
08-أيار-2021
08-أيار-2021 | |
17-نيسان-2021 | |
03-نيسان-2021 | |
27-آذار-2021 | |
27-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |