الحرب/ جوليا فيدورجوك ترجمة:
خاص ألف
2017-02-18
تركض الطفلة، بنت صغيرة، إلى الأمام. لها وجه دقيق الملامح، و ساقان و ذراعان طويلان و نحيفان- على وجه الإجمال، تدعوك لتعتقد أنها جروة تعلم أنها ستكبر و تصبح كلبة جميلة و كبيرة. و ليس من الصعب أن تلاحظ عينيها البراقتين و الواسعتين و رموشها الطويلة على نحو غريب. هاتان العينان تضفيان عليها لمسة غير حقيقية، كأنها عفريتة. كانت تحمل تحت إبطها لوح التزلج، مع أن الوقت هو منتصف الشتاء و باشر الثلج بالسقوط للتو. دخلت في المصعد، و الذي توقف لحسن الحظ في ذلك الطابق، و انتظرت- كان والداها يودعان بعض الأشخاص، و يكرران نفس عبارات الوداع: أمنيات طيبة، نتمنى لكم صحة جيدة مع المودة، نعم، بالأخص الصحة و العافية.
كان هناك ممر في الطابق الأسفل، و اغتنمت الطفلة الفرصة للتزلج على لوحها، لثوان قليلة فقط، و لكن هذا يكفيها: كانت سعادة الطفلة غامرة، فهي لا تشعر أنه ينقصها شيء.
قالت لها أمها قبل أن يخرجا من المبنى: "هيا ضعي قبعتك حالا".
كانت القبعة بلون أزرق خفيف و حجم واسع، لذلك اختفى وجه البنت تقريبا تحتها، و لم يبق مرئيا غير عينيها الساحرتين البراقتين.
قالت الطفلة برضا:"ها هو الشتاء أخيرا"، كأنها ربحت الرهان. كانت الثلوج الناعمة لا تزال تنهمر، و تبدو أمام أنوار الشارع مثل الغبار الفضي. رفع الرجل المساحات لإزالة طبقة رقيقة من الثلوج كانت على النافذة الخلفية. و فعل ذلك بطرف يده. و وقفت المرأة جامدة لدقيقة. و تذكرت الشتاء في أيام طفولتها- و السعادة التي تشعر بها ابنتها الآن. و فكرت: إن ما يفصل البالغ عن السعادة، هو الذاكرة، و هي بالتعريف حالة سابقة و لكن غير مستمرة.
تسلقت البنت الصغيرة إلى كرسي الأطفال في المقدمة، و جلست الأم خلفها، و اعتنى الأب بالمحرك، و انطلقت السيارة ببطء. كان الثلج حديث السقوط، لم يمر فوقه أحد، كما لو أنهم في القطب، أو على قمة جبل أو في قاع المحيط. و كانت الأشجار تبدو مثل منحوتات متناسقة؛ وكانت المدينة كأنها شيء متحول، لا يتذكر ماضيه. حالة ليل الشتاء تنبه حتى البالغين، و بدأ الأب يترنم بأنشودة، و لكنه لم يتذكر كلماتها، لذلك اخترع هو و ابنته كلمات مشابهة تناسب اللحن. و كانت الغاية من هذا التصرف أن يسليا الأم، و لكن كانا يحققان ذلك أحيانا - وفي هذه المرة لم يحركا أشجانها. و عندما جفت منابع الإلهام لديهما، عمدا إلى الموسيقا. و بالصدفة انطلقت ألحان أغنية "الانتحار بالروك أند رول" و حاولوا جميعا الترنم بها معا...
و رددوا بصوت واحد: يمكن للحياة أن تكون قصيرة، و لكن ما الفرق، هذه اللحظات المرحة موجودة و أنت تقريبا تشعر بها- و تود لو تعتقد أنها أبدية.
ابتعدا عن المشروع السكني و دخلا في الشارع الرئيسي، و لم يكن مزدحما بحركة المرور.
قالت المرأة من المقعد الخلفي:" انتبه كي لا ننزلق على الطريق".
لحسن الحظ، لم يكن عليهم أن يبتعدوا كثيرا. نظر الرجل بالمرآة الصغيرة، و التقت عيونهما لفترة وجيزة. تلك العيون الساحرة- و التي حصلت عليها الطفلة منه. ابتسمت المرأة و تخلصت من قفازاتها، و ربما فكرت أن تعبث بشعره، و لكن في تلك اللحظة، وبغمضة عين، ضغط الرجل فجأة على الفرامل، و ارتطم وجه المرأة بظهر مقعده.
"ماذا يجري؟".
لم يرد الرجل. نظر إلى اليسار ليتخطى الـ بي إم دبليو الفضية و التي تسببت تقريبا بالحادث من ثانية مضت، و لكن الـ بي إم دبليو شقت طريقها بسرعة، و بلا إشارة، عبرت من أمامهم و توقفت. نظرت المرأة للبنت الصغيرة و انتبهت أن خوفها عارم مثل سعادتها قبل قليل. انعطفوا يمينا، و تناهى إليهم صوت بوق سيارة، و وازتهم الـ بي إم دبليو و بدأت تضغط عليهم، حتى اضطروا للخروج عن توازنهم.
قالت المرأة :"سأتصل بالشرطة".
" نعم" قال زوجها و ضغط على الفرامل كرة أخرى، و حاول مجددا تخطي الـ بي إم دبليو.
طلبت المرأة الرقم. و ردت عاملة المقسم. و أسرعت الـ بي إم دبليو بقفزة مفاجئة و أصبحت تسابق الريح. ثم توقفت بشكل مائل في عرض الطريق و سدت كل المنافذ، و توجب عليهم التوقف أيضا. كانت المرأة تشرح للمقسم أين هم: و بمعجزة تمكنت من تذكر اسم الشارع. وكانت تعول لأن رجلا - حسنا في الحقيقة هو شاب- يرتدي الأسود غادر الـ بي إم دبليو، و اقترب من باب السائق و جر القبضة. و كانت عاملة المقسم تطلب من المرأة أن تنتظر، فهم على وشك إرسال دورية. و ردت المرأة بالصراخ. و أجابها صوت أوتوماتيكي:"من فضلك انتظري، من فضلك انتظري، من فضلك انتظري". و كان الشاب يطرق بقبضته على نافذة السيارة.
و كان يصيح:"افتحوا أيها الأوغاد، افتحوا".
و قالت المرأة "لا تفتح". فقد كانت ترى المزيد منهم هناك، و بينهم أيضا بنات.
و صاح الشاب:"اللعنة عليك، أيها الرأس الأحمق، لماذا تجاوزتني بذلك الشكل المتهور".
و رأت المرأة في المرآة الصغيرة وجه الرجل، زوجها، و هو يتبدل.
فتوسلت إليه بقولها:"لا تفتح".
كانت متأكدة أن الشاب سيحطم النافذة، حينما زعقت الفرامل فجأة، و ارتدوا جميعا إلى الخلف. و سمعوا صوت بوق سيارة أخرى تتخطاهم بسرعة قصوى. قبضت المرأة على هاتفها، و لوحت به أمام الشاب، و رسمت بفمها من وراء النافذة كلمة "شرطة"، كانت تفتح فمها مثل سمكة في إناء. فعاد الشاب إلى سيارته.
و كرر الصوت في الجهاز "من فضلك انتظري، من فضلك انتظري، من فضلك انتظري". أغلقت المرأة الهاتف. و تمكنوا من تجاوز الـ بي إم دبليو. و صعدوا على الرصيف، و عادوا إلى الطريق بعد انتهاء الضوء الأحمر في إشارة المرور، و تابعوا نحو هدفهم. و سمعوا صوت بوق سيارة آخر، و لكن بعد دقيقة كان الطريق خاليا، و انتهى كل شيء.
سألت المرأة:"هل تراهم؟".
رد الرجل بصوت بارد:"إنهم عند الإشارة".
وجلست الطفلة بعينين مفتوحتين، بلا حركة، و هي تقبض على لوح التزلج.
و تخطتهم سيارتان إضافيتان، و ليس بينهما السيارة "بيمير"، و رن الهاتف، و كانت على الخط المرأة التي تعمل في مقسم الشرطة.
سألت:"هل كل شيء على ما يرام؟".
قالت المرأة "لقد ابتعدنا عنهم"، و كانت تشعر أنها مستعدة في أية دقيقة لتنفجر بالدموع. أجابت:"آه، يعني كل شيء هادئ؟". و كرر الصوت العبارة.
"لا بأس".
نعم كل شيء هادئ.
قالت عاملة المقسم"سأصرف الدورية"، و أغلقت الخط.
أوقفوا السيارة أمام بيتهم. و حملوا أشياءهم من صندوق السيارة. و حاولت المرأة أن تنظر في عيني الرجل، و لكنه لم يكن مستعدا للنظر في وجه أحد الآن، كان ممزقا و مضغوطا. لفت المرأة الطفلة بذراعها. و انفجرت الطفلة بالعويل. بكت كأنها لم تبكي منذ كانت رضيعة، و أعولت بقوة دون أن تلتقط أنفاسها للحظة. و طمأنتها أمها، و حاولت أن تضحكها. و صعدوا إلى البيت ببطء، و أخيرا أجبرت المرأة ابنتها على الضحك، و أخبرتها أنها تفخر بأبيها و عموما لا يوجد غير عدد محدود من الأشخاص يستعملون هنا الكلمات النابية مثل"هراء" و "أخرق"، و ربما لم يجدوا من يعلمهم ألفاظا أفضل. و دخلوا إلى البيت، و كان الأب بمعطفه، و رتب الأشياء خارج الأكياس، و جهزت الأم الحمام للبنت.
أصبحت البنت الصغيرة في الحمام، و وقفت المرأة تحت خيمة التهوية في المطبخ، لتدخن، و في الخارج، كانت الثلوج تنهمر بغزارة، العالم يغيب عن الرؤية، و المدينة تفقد حدودها و معالمها. و ببطء، نفخت المرأة سحابة كبيرة من الدخان.
و غطت رقاقات الثلج النافذة بأشكال متعددة و بلون أبيض ناصع، كانت مثل نقاط كبيرة. ما هذا الذي يقلقنا؟. تساءلت المرأة. و اعتقدت أن ما يفصل البالغين عن السعادة هي أشياء لم تكن موجودة سابقا، و لكنها الآن في كل مكان و تفرض علينا أن ننتبه لها. وكان الرجل لا يزال بمعطفه، فأشعل أنوار شجرة الميلاد، و هكذا انطبعت ألوان كثيرة على زجاج النافذة.
ترجمتها عن البولونية آنا زارانكو. منشورة في مجلة ووردس ويذاوت بورديرز "كلمات بلا حدود"، عدد شباط ٢٠١٧.
جوليا فيدورجوك Julia Fiedorczuk: كاتبة من بولونيا. مولودة في وارسو عام ١٩٧٥.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |