أصول التدوين و أنماط الكتابة عند جمال الغيطاني 1 - 2
صالح الرزوق
خاص ألف
2017-05-06
لجمال الغيطاني خطان أساسيان في الكتابة الفنية و هما:
الإخبار بمعناه الفني الذي يرقى بأصوله إلى غوغول ( و من معطفه خرجت القصة النظامية ذات التمهيد و الحبكة و الخاتمة التي يغلب عليها البكاء و الدموع و التأسي). ثم إلى غي دي موباسان ( و الذي خرجت من معطفه قصص النفوس المعقدة).
و لا يخفى على أحد الفرق بين الإثنين. فهو تعبير عن نظام إنتاج إقطاعي و نظام أسرة تتألف من عدد محدود من الأفراد. لقد ترك ذلك أثره على الحكاية.. زمن مفتوح مقابل عدة ساعات أو أيام، و شخصيات بطولية خارقة مقابل أناس عاديين من داخل المجتمع.
لم يتورع جمال الغيطاني عن توظيف كلا الأسلوبين في نسيج محكم لبنية واحدة. فبالمشاهدة وضعنا في مواجهة خطوط العزل كالجدران و الأسوار و المباني المرتفعة الشاهقة و بالنشاط النفسي قفز من فوق هذه الحواجز و ترك للنفس حرية التجوال في عالم لا حدود له، سواء كان كابوسا مرعبا تقشعر له الأبدان ( ذكر ما جرى و حكايات المؤسسة مثالا) أو حلما أخضر يدعو للتفاؤل و يشجع على الانتظار ( الزويل مثالا).
الخط الثاني: الإخبار بالتوازي. و هو الخطاب ( الإنشاء بلغة كمال أبو ديب) و يرتبط بالأذهان بتجارب بلاغية لها رصيد في لغتنا الجميلة ( بين قوسين).
و فيه أيضا اتجاهات.
١- متوازيات اللغة والحكاية. و هي كل كتابة تتوحد فيها تراكيب الجمل و العبارات مع زمن القصة. بمعنى أن نحو اللغة تدعمه حكاية القصة. كلاهما يعمل بصيغة مضطردة و مستقيمة. فصيغة الماضي تتكلم عن حقبة تاريخية قديمة لا يمكن لنا إحياؤها إلا فنيا ( الزيني بركات و أوراق شاب عاش منذ ألف عام مثلا). و صيغة الحاضر تتخصص بما يجري حاليا من أزمات عابرة و مخاطر تهدد الأفراد و كذلك مصير الأمة ( نفثة مصدور للتجربة الخاصة و الرفاعي للتجربة البطولية التي لها بعد أسطوري و ملحمي).
٢- متوازيات اللغة و خطاب البنية ( أسلوب ترتيب الأحداث ). و هنا تدخل اللغة في دورة إنتاج استهلاكي. و تتعرض التراكيب المعروفة التي أفل وقتها ( كتقاليد المشافهة و الكتابة الفارسية و العثمانية ) للتفكيك ثم إعادة التركيب بتأويل معاصر. لقد كان الغيطاني يفرّغ الأساليب السابقة من محتوياتها ثم يعيد تحميلها برسالة لها أخلاقيات و منابع أو مصادر مختلفة. و اعتمد في ذلك على تفريع خط الحكاية و على شكل الحكاية الروسية ( الحكاية ذات الأدراج ) و على رسم مشاهد متتالية لها نفس المعاني و الأدوات كما هو الحال في مغانرات السندباد. فهي تتألف من رحلات عجيبة تكثر فيها المعجزات و البطولات التي يقدمها لنا الراوي المجهول بشكل دوائر لا تنتهي. و أقرب مثال عليها هو ( هاتف المغيب). إنها رواية دائرية
يمكن أن نضيف لها وحدات أصغر باستمرار. و لذلك إن نهاية الأحداث لا تدل على استنفاذها و لكن على الدواعي النفسية الخاصة للحالة.
٣- تراكيب لغوية ليس لها وقت و لا مكان. و تشبه في مبناها و معناها ما للغة الأحلام و الإشارات من سلطة و قوة.
و أرى أن جمال الغيطاني نسيج وحده في هذا المجال. فهو يختلف عمّا قام به زكريا تامر الذي نبش قبور شخصيات تاريخية ميتة بكل ما للكلمة من معنى. لقد ترك منهم الاسم فقط و حرمهم من قانون اللحظة، المكان و الزمان و حتى المنطق. و قل نفس الشيء عن أمين معلوف الذي سلط على رقاب شخصيات مدونته التاريخية قانون ترفيه النخبة في عصر التوسع الإمبريالي. و نحن على أتم الثقة أن مدونات العثمانيين و من قبلهم الفرس و كذلك أدباء دولة المرابطين كانوا أقرب للغة الشارع و لعفويته و أوهامه. لقد كانوا يعملون تحت ضغط الضرورة. و ما خيالاتهم عن كنوز مرصودة و أنهار من عسل إلا لهدف واحد هو التستر على الحرمان و الفاقة و العوز.
لقد كان جمال الغيطاني في بلاغياته يتبع سياسة أو منهج أسميه " تعميم الخاص". و هو أشبه بإدخال مؤسسة داخل نظام مؤسسة منافسة. و بتعبير أوضح: استعمل نظام المشافهة في نظام كتابة مدونته.
و لئن كان لا بد من مقارنة لا أجد في الذهن غير مثال يتيم هو للشاعر المعاصر أديب كمال الدين الذي استعمل تراكيب و أناشيد العشق الإلهي للتعبير عن أزمته الخانقة و هو يتنقل بين المنافي.
و يجب أن لا نفهم من ذلك أن جمال الغيطاني يبحث عن تمكين الأصول و لكنه كان يعمل على تحرير نفسه منها. إن أية محاولة لإعادة إحياء التراث تنطوي على مشروع تحرري قد يؤدي لإلغاء حدود النوع بهدف التأسيس لنوع ليست له سوابق، نوع نظيف و طاهر.
فالمشابهة لا تدل على الاستسلام ( كما يقول بريان بالتريدج ).
زهور جمال الغيطاني المتأخرة: رشحات الحمراء
راهن جمال الغيطاني منذ بداياته على حدود النوع. و لذلك اختار أن يبدأ حياته الفنية بكتابة ما يسميه الرسائل و الخطط و الأوراق، و لكنه اختتمها بسلسلة ذات عنوان موحد هو ( دفاتر التدوين).
ولئن كان كل دفتر سيرة نفسية أو مشاهدات ذات طابع سياحي و تأملي على طريقة ما يسميه سومرست موم عميد المسرح البريطاني ( عصارة الأيام - summing up) فقد انفردت ( رشحات الحمراء ) بحكاية تتألف من طبقتين:
١- البحث عن الزمن المفقود بالاستعادة. باعتبار أنه نشاط ذاكرة ثاقبة لا يفوتها أن ترى في الإنسان قيمة رمز عضوي. و معادله هو الطبيعة المقيدة و غير الحرة التي فقدت نقاءها و دخلت في طور سقوط و تحلل و احتضار ( فهي طبيعة مكان اجتماعي متخلف).
٢- تثبيت لحظات من الطفولة كانت بمثابة نافذة على الجانب الأسطوري و الملحمي للذات. بكل عقدها و ما يترتب على ذلك من أمراض و قنوط و تقهقر.
و كما أرى إن التثبيت هو التعبير النفسي عن مشاعر الخشية و الخوف و الرعب من المجهول الذي تحول إلى لعنة غامضة لا فكاك منها. هي لعنة التخلف ( من الجانب الحضاري) و لعنة الكبت و الإظلام ( من جانب إداري- هذا إذا اعتبرنا أن الحاضر هو أنجع وسيلة لإدارة مخزوننا و تجاربنا فيما يتعلق بالنظام و القانون و السلطة و معنى جوهر الحرية).
و قد ساعد ذلك على ابتكار طريقة لتحرير النص من تراكم الأنواع دون التضحية بالمتبقي - و هو الجزء الخاص بامتداد شجرة الأنواع.
و بعبارة أوضح: لعب ذلك دورا أساسيا في تحديث الشكل القصصي دون التضحية بروحه أو جذوره. لقد خرج على مفهوم القصة الحديثة كما كتبها بلزاك و فلوبير و لكنه لم يدخل بين أسنان الطاحونة التي استبدلت الحكاية بالمونولوج كما فعل جويس مثلا.
لقد اعتمد الغيطاني في هذا العمل الصغير و المتوازن على عدة خدع فنية كما يلي:
١- سياسة إغلاق و عزل المشاهد. بحيث أن كل مشهد يتطور على امتداد خط مستقيم. بلا انحناءات و لا منعطفات. و هذا يعني التقليل من أهمية الحبكة و الاتكال فعلا على الإسقاط و المجاز و الاستعارة و كل الجماليات الإضافية التي تضع النص بمواجهة نفسه. فهو نص إبلاغ و ليس نص مشاهدة و متابعة. و هذا يبرر لماذا لجأ للإسقاط و الاستعارة و المجاز للتحرش بالسلبيات و الانحرافات.
و لذلك كل مشهد قصصي لديه إذا بدأ بفعل ينتهي بمعنى الفعل مع التأكيد على زمن وقوعه. مثلا لو بدأ المشهد بفعل تجيء ينتهي بتراميب تؤكد أنها تجيء الآن.
٢- الإكثار من أدوات الوصل. و هي أسماء ( في الصرف و النحو) و الهدف منها الربط و الاستدامة. و لذلك كانت المشاهد المتجاورة تترك لدى القارئ الانطباع أنها متتالية. و لو لا ذلك لماتت الحكاية في مهدها.
٣- تعدد المشاهد مع الاحتفاظ بحق شمولية الأنماط. فتعدد الأسماء ( لشخصيات نسائية غالبا ) و تعدد الأماكن ( و هي لساحات ثابتة لا تتأثر بالزمن و تقلباته و بالتالي تبدو مقاومة للموت و الشيخوخة) تتحول لفضاء له وظيفة أو صفة مثل ذات - الشخص و ذات - المشهد.
و مثل هذا الإلحاح على زمن ذات الكتابة momentum يساعد على تمرير لغة المدونة، لتكون حاملة و تمثيلية. تعبر عن معنى و تحيل لصور لها معنى و رصيد نفسي. بلغة أخرى هذا الأسلوب هو الذي يضاعف من أهمية المدونة.
إنها تتحول بذلك لفضيحة تنشر الأسرار و تنتهك الخصوصيات. وبعبارة مختصرة إنها هي التي تسهل علينا قراءة المدونة كموضوع و ذات. كحكاية خيالية ممكنة و كمذكرات حصلت فعلا و لا مجال للشك بمصداقيتها.
لقد كان الفاعل في ( رشحات الحمراء ) نفسه. إنه شخص من الواقع و ينتمي للزمن المكتوب ( شريط اللغة و التراكيب ) و ليس لزمن الكتابة ( الأدوات المادية المنتجة للنص).
إن القصة بمفهومها الكلاسيكي تبدأ بالمرسل و تنتهي بالمتلقي. و لكن في (رشحات الحمراء) يوجد طرف ثالث لا غنى عنه هو ما يسميه بارت قابلية الكتابة.
ولا بد أن هذا النص الشيق و المدهش و الممتع قد حقق التوازن بين أطراف النشاط اللغوي: الكتابة و القراءة.
لقد بدأت المدونة بوعي أشياء العالم و ابتكار أسماء لها ثم انتقلت في جزء يسير منها ( قبل الخاتمة ) إلى إنارة خفايا ذاكرتها. بمعنى أن التكوين و امتلاك الأحداث و اشتقاق المعاني تحول في النهاية إلى ملاحظات و مشاهدات.
و يمكن أن نقول أيضا إن الاهتمام بعلاقة الفضاء النفسي و زمانه كان له أن ينتقل إلى رسم مساحات بيضاء.
لقد عمد جمال الغيطاني في ( رشحات الحمراء) إلى صيغة التقابل. بحيث كل أداة تغدر بمثيلتها: الزمان يغدر بالمكان. و التعريف بالنكرة و الاسم بالفعل، و هكذا دواليك كما يلي:
١ باعتبار أن ( رشحات الحمراء) ذكريات غير متسلسلة كان الكاتب يقدمها لنا بشكل قراءة في صفحات من ماضيه الشخصي. و لكن هذا يفترض لزاما وجود عازل بين زمن القراءة و زمن الأحداث التي جرت على أرض الواقع.
و في هذا الفاصل لا بد من فراغ نفسي يصول فيه الكاتب و يجول حسب ميوله و أهوائه و رغباته و ليس استجابة لإملاءات موضوعية.
٢- لشد اهتمام القارئ كان لا بد من التغاضي عن المألوف و التركيز على المدهش و الغريب و المشوّق. و قد فرض ذلك نوعا من المبالغات الموضوعية في تجسيم المادة الخام. إنها تحويلة فنية لا بد منها للانتقال من مجال التصوير للتأويل. من الواقع الأبكم الصامت المنكفئ على ذاته لسريالية الذهن و أشواق الروح.
و أتبع ذلك بتعريف ما هو معرّف. أو بتوظيف رؤيتنا لما نعرفه. و رفد ذلك بخبرات نفسية خاصة تضعنا بمواجهة المحيط النفسي و أمواجه المتلاطمة. سواء عن طريق الحلم أو قراءة ما بين السطور. و ربما عن طريق توسيع الواقع و ردم نقائصه بالأوهام و التخيلات.
٣- دمج فعل التذكير ( إعادة تعريف البديهيات و الحدود ) مع العاطفة الثابتة التي تلعب نفس الدور مهما اختلف الزمان و المكان و البطل ( الشخص الحامل للأحداث).
في اللغة ( دون) ضد فوق و هو تقصير عن الغاية و تكون ظرفا. و يقال ( دوّن) الديوان: جمعه. و منه : ( الديوان و الدٓيْوان): و تعني الصحف أو الكتاب. و يفهم من ذلك أن التدوين هو تنزيل للأفكار من موقعها في الذهن المفكر إلى موقعها في الكتابة.
و هذا التفسير، الذي يبدو لنا على شيء غير قليل من الغرابة، يوفر للكتابة وظيفة غير وظيفتها الأصلية ( التعبير عن أفعال تتطور و تنضج بمرور الوقت ) بحيث تتحول لمدونة ثابتة هي فضاء أو مكان أو لنقل وعاء يحتفظ بالمعاني.
إن التدوين حركة تؤثر بها الظروف. و لكن على اعتبار أنه يصدر عن نشاط نفسي يختلف عن الإيحاء ( مثل النصوص و الكتب السماوية ) فقد تحول من مجال التعاليم و الأفكار الخالدة إلى مجال الدوال ( حيث يوجد سياق خاص بالتواصل يختلف حسب المناسبة و أساليب التفسير). و هذا نشاط يتأثر بالعصر و الحقبة و الأفكار السائدة و مفهوم القوة و يكون بعيدا عن الديمومة التي يعبر عنها خير تعبيرالنشاط الروحي.
و بعبارة أخرى: إن المدونة أداء وضعي متعارف عليه و له جانب ذاتي و شخصي ( وجدان و عاطفة ) يلعب دورا أساسيا في كل من الإرسال و التلقي.
و انطلاقا من هذه النظرة المتحولة لكل من الزمان و المكان و هما من الأسس التي لا مفر منها في التجربة البشرية يمكننا النظر في خصائص التجربة الفنية المتميزة لجمال الغيطاني.
فهي تجربة غنية تقف على مسافة واحدة من التحديث و التأصيل. و لكنه فعلا لم يكن توافقيا. بل إنه على أشد ما يكون من الحزم حيال التكوينات و العناصر. فالأصول في مدونته بلا قيمة ثابتة و يمكن القول إنها جاءت من خلف المعايير.
و يمكن التدليل على ذلك من النقاط التالية:
١- لقد أعاد النظر بالمفاهيم الفلسفية و الجمالية لمعنى " الزمني" و ليس " المكاني". فالقاهرة لديه ليست مدينة ذات خصائص جغرافية و لكنها حقبة من التاريخ بما تنطوي عليه من أحداث جسيمة ستترك ندبة في الذهن. بمعنى أنه أصر على المتحول في معادلة أدونيس و ليس الثابت. لقد كان أقرب لروح المدونة لا شكلها و معيارها.
٢- و حاول تعريف كل الأشياء الخارجة على نطاق المعارف. و للتوضيح إنه اقترب من الحداثة الغامضة التي ليس لها أب و المستوردة لأرض لم يحرثها أحد بعد عن طريق الأصول. فقد وظف العمارة و الكتابة المملوكية لتشكيل الذهن الحديث و المعاصر.
٣- ومع أنه بدأ مع نهاية الخمسينات و اشتد عوده في الستينات و هي مرحلة النهضة الوطنية المعادية للمشروع الإمبريالي الداعم للحداثة، لم يتورط مثل غيره في حملة البروباغاندا و لا في الهتافات و الشعارات. و التف من حول الإيديولوجيا المخجلة و العارية و وفر لها عاطفة مصدرها هو شرطها التاريخي أو ضرورتها.
معنى الزمان و المكان
يؤكد غاستون باشلار أن ( اللحظات الفاعلة يتم إنجازها دائما على صعيد يختلف عن الصعيد الذي ينفذ فيه الفعل) و هذا يضع الزمان بالمعنى الدقيق للكلمة في موضع علامة. كأنه كلمة لها معنى ( ص ١٣٣).
فالعلامة كما هي حال الدال في اللغة حامل للمعاني. ما أن تدخل في سياق حتى تصبح جزءا من نظام خطابه. فتنفصل عن معنى القاموس و تتحول إلى إشارة ( علامة في شبكة من العلامات المتجاورة).
إن البناء النهائي هو الذي يضلل القارئ و يغير من مغزى المفردات، لأن كل شيء يصبح مرهونا لذات إنتاج و ذات استهلاك و ميثاق غامض و متحول بينهما.
لقد كان لزمن الأحداث عدة مستويات عبر تاريخ الكتابة و هي:
١- الأزمنة الثابتة التي تقاوم التبدل. و تعرف باسم الأزمنة الروحية. و هي تتطور مع الخطاب. و لا تنفصل عنه. إنها أزمنة غير تواصلية و تعمل على التبشير برسالة تأتي من الأعلى لتخاطب من هم أدنى منها. و هذا يفترض حكما وظيفة تربوية و تعبوية. و قد لعب جمال الغيطاني في عدة مناسبات بهذه الأساليب و سخرها بصفة أداة حاملة. كما فعل في الزويل ( كموروث شعبي) و متون الأهرام ( كرسالة حضارية من أزمنة غابرة).
٢- زمن الوقائع و الأحداث. و هو أقرب لمفهومنا عن السيرة الشخصية. و يترادف مع لحظات الأداء. و هو ليس مثل سابقه ( يتوسل بشكل رؤيا و إنشاد) و لكن يغلب عليه نشاط العين أو نشاط النظر و الإبصار. و لكن يضاف له نشاط التاويل و التفسير و الذي تغلب عليه الذات المنتجة و طريقة نظرتها لما يجري.
و إن هذه المتتالية التي نراها بالعين و نسمعها بالأذن تحتاج لمسرح أحداث .
و إذا حصل عدم انسجام بين زمن و مكان التطورات ينشأ نوع من التعارض الذي يتسبب لموضوع الرغبة بالكبت. و هذا كما هو متوقع مصدر لعصاب سيتسبب للبطل و الشخصيات بالاضطراب و ستميل الأحداث لتكون ألغازا غامضة و بالتالي ستتوسع الأحلام و قطاع اللاشعور ( الجيوب السرية للأحداث). و أقرب مثال على ذلك في: ذكر ما جرى، ووقائع حارة الزعفراني. و هي أعمال تقوم أساسا على عقدة نفي و رفض ما هو كائن.
٣- زمن الواقع النفسي و الطبيعي. و هو إخباري بذاته. و تتجاور فيه العناصر و الأدوات و تنتظم في بنية شاملة و عضوية. بمعنى أن الزمان يكون متوالية تتسلسل فيها المشاهد.
و يمكن تمثيل كل لحظة بنقطة على محور أفقي متصاعد. و تكون الحقبة هي الخط الذي يصل بين نقطتين هما بداية الأحداث أو المشاهد و نهايتها.
و يمكننا دائما التمييز بين الأفعال التجريدية كما هي بذاتها و كما هي لذاتها. أو التمييز بين الفعل و طريقة الأداء. حيث أن الأول يكون مستقلا و عاما و الثاني له خصوصية و يفترض على الأقل وجود شخص حامل و مكان حاضن. أو قوة تطبيق و مهد.
و أفضل النماذج على ذلك نفثة مصدور و دفاتر التدوين التي تتراوح بقيمتها الفنية من رواية تعتمد على الذاكرة إلى خواطر و لوحات قصصية لها رصيد واقعي في ذاكرة الكاتب.
كما أرى إن هذا التصنيف يبدل من حدود النوع و يؤثر في البنية و طرق التعبير عنها و حتى على المفردات و التراكيب.
مثلا إن الاهتمام بالمكان و الزمان الثابت يرفده اهتمام بالمشاهد و المناظر الطبيعية المنبسطة التي لها دلالة ملحمية مثل قصور و مساجد المماليك بزخارفها التي لا تفنى و الاي تشبه الصلاة و التراتيل ذات النبرة الثابتة و المتكررة. و هذا يفترض وجود شخصيات بسيطة متصلة بالبيئة الحاضنة. لا يؤثر بها توالي العصور و السنوات. إنها أرواح حارسة تعمل من فوق الواقع و تعتبر جزءا لا يتجزأ من عقيدة المكان و رهبته و خشوعه.
و لذلك إن المفردات من نوع خاص مثل: الحلم، الباطن، الوجدان، النفس. و ما يترتب عليها من تراكيب و أداء.
و هنا يغلب المجاز على الحركة و تكون الجمل غير تامة. مثلا الجمل الإسمية تتألف من اسم و جملة فعلية. اما الأفعال فتكون بلا فاعل، فالفاعل هو النفس الخالدة أو الله جل جلاله. و لو أنها أفعال شريرة يكون الفاعل غامضا و مختبئا خلف حراسه او في داخل حصونه و تغلب عليه صفات و نعوت الشيطان و كل أبطال الظلمات و عالم الظل و ما شابه من قوة إبليسية في مكمنها تحت الأرض. و الزيني بركات مثال نموذجي على عالم الرهبة و الموت و الأفعال الدنيئة و التي تتفنن باساليب التعذيب في أقبية و سجون سرية.
و لكن في حال الاهتمام بالسيرة و الوقائع يغلب على المدونة الجمل التامة ذات المدلول الداخلي. و ذلك في إطار من المغامرات التي لا ينقصها الحنين و التعاطف.و كانها قصص تشويق و رومانس. أو حب و هيام.
أما في حقل النشاط الطبيعي و الذي يتخصص بإعادة تركيب الواقع فهو يركز على صفات المكان و كل المرئيات. و بطريقة من إثنتين: العين العادية و عين الكاميرا. و قد يتطلب ذلك قصة سياحية يكثر فيها استخدام الكاميرات و لغة المرشد السياحي.
***
لقد ترك جمال الغيطاني وراءه كنزا من الاشكال و الأساليب الأدبية. و انعكست فيها طبيعة مقاربته لما حوله: هل اقترب من بواطن الامور بعينه ام بقلبه أم بذهنه الوقاد و المستنير.
و لضرب مثال على ذلك يمكن أن نلجأ لحرف الواو. فهو حرف علة أصلي - تفصيل ذلك في الإمتاع و المؤانسة - الليلة الثامنة- و باعتبار أنه لا يمكن أن يخلو منه نص ( إلا إذا غاب قسرا جريا على عادة أدباء عصور الانحطاط ) يمكن أن نجد منه الأنساق و المعاني التالية:
١- معنى القسم. و معنى ربّ للتعليل و معنى الحال. أو أنه يكون في أصل الفعل و الاسم.
٢- معنى الاستئناف أو حرف الجر أو أن يكون حرفا زائدا ( مقحما ) لا ضرورة له. ثم معنى الحال مجددا.
٣- معنى العطف و ربما الاستئناف.
و يمكن توضيح تفاصيل ذلك في الجدول التالي:
النمط .... سفر البنيان ( ص ١٦٤).... ذكر ما جرى( ص٥)....نفثة مصدور(ص٧)
واو الحال........ ٣
٪ ١.٩٢٣
واو الاستئناف ٢ .............................٦........................١
٪. ١.٢٨٢....................٥.٢٦٣.............٦٤٥،.
واو العطف. ٢.............................٣..................٨
٪. ١.٢٨٢...................٢.٦٣٢..............٥.١٦١
لقد كان للواو ثلاث مقامات حسب طريقة تعامل النص و كاتبه مع زمن الأحداث. و لذلك أمكننا ان نرى ثلاثة اشكال متباينة لكل شكل نمط و بالتالي معنى و مقام. كما يلي:
١- واو الحال و يهتم بالباطن على حساب الظاهر. و تراه في التجليات و المواقف.
٢- واو الاستئناف و هو رابط في صيغ البنية من منظور رؤية ذاتية خاصة.
٣- واو العطف و يفيد التسلسل الظاهر و المنطقي للاحداث.
لقد كان حرف العلة ( الواو ) يتردد كثيرا في النماذج الوجدانية غير الواقعية. و ربما ذلك لطبيعة التعبير الفني عند الغيطاني. فهو يتعامل مع الأسماء و الأفعال من منظور الداخل أو الذات و هذا يكون على حساب واو الفارقة ( واو الجماعة في الأفعال ). فالنص لديه دائري و بلا أضلاع و في مركزه تجد ذات الكاتب المفردة و أحاسيسه و عواطفه و طريقة إدراكه للأمور و تفسيرها من خلال ما تتركه من أثر على قلبه و ليس عينه، على مشاعره الخاصة و ليس على نشاطه الحيادي الذي له هدف واحد و هو التواصل البريء و اللانفعي.
و توضيح ذلك في الجدول التالي:
النمط. ( زمن ثابت ) معناه : القسم، التقليل، الحال، من أصل الفعل و الاسم
الأمثلة: عجائب و الله عجائب ، سفر البنيان ( ص ١٦٤).
النمط ( وقائع) معناه: الاستئناف، حرف الجر، حرف زائد، حال.
الأمثلة: الصياغات الإجرائية التي أباحت..(ص٥ ، ذكر ما جرى).
النمط ( واقع): العطف، الاستئناف.
الأمثلة عديدة و لا داعي لذكرها.
لقد كان لكل نمط حرف ( واو ) خاص به. و كأنه كلمة لها معنى. و غني عن القول أن الكاتب لم يكن ينتقي حروفه عن عمد و لكنها كانت تأتي بشكل تلقائي و عفوي حسب الحالة النفسية. و هذا تسبب بفرق واضح في طريقة تكرار و تواتر حرف الواو كما في الجدول التالي:
النمط - سفر البنيان ( ١٦٤)- ذكر ما جرى( ٥)- نفثة مصدور ( ٧)
واو من أصل الفعل ١٠------------------٣------------------٢
نسبة مئوية. ٦.٤---------------٢.٦---------------١.٢٩
واو من أصل الاسم ١٥......................١٥........................١٧
نسبة مئوية. ٩٠٦ ١٣٠١٦ ٩٧، ١٠
أسماء موصولة و عطف٤..................٣.............................١
نسبة مئوية. ٢.٦٦...........٢.٦٣........................٠،٦٥